الثورة الخلدونية، ما الذي يحول دون ادراك كنهها؟ – الفصل الرابع

****

الثورة الخلدونية ما الذي يحول دون ادراك كنهها؟ – الفصل الرابع –

حالت الاحداث دوني ومواصلة البحث في “الثورة الخلدونية: ما الذي يحول دون إدراك كنهها” عند الفصل الثالث ولم انهه ببيان بعدي الثورة التي غفل عنها مؤرخو الفكر الفلسفي في حضارتنا والتي كانت غاية ما توصلت إليه المدرسة التي وصفتها بالنقدية عامة وفكر ابن خلدون خاصة.
أما وقد أسهمت بما أستطيع في فهم الأحداث التي اعتبرتها بداية الموجة الثانية من ثورة الشباب المسلم بجنسيه فإني استأنف الكلام في هذه الثورة بإبراز مجالي صوغها المتردد عند ابن خلدون. وقد كان الصوغ مترددا لأنه ككل البدايات ليس يسير النسقية إذ هو شبه حدوس لم تترابط مقوماتها بوضوح.
والوصل بين الثورتين اللتين صيغتا في فصل علم الكلام (10 من الباب 6) وفصل إبطال الفلسفة وفساد منتحلها (31 من الباب 6) نجده في فصل علم الإلهيات (27 من الباب 6) لأنه يحقق أمرين:

  1. تتحدد الثورتان ردا على اختلاط الكلام والفلسفة في عصره
  2. يفصل الديني عن الكلامي والعلمي عن الفلسفي.
    فلو لم يحصل الاختلاط بين الكلامي والفلسفي في كل منهما وخاصة في التصوف المتفلسف لما حصلت الوعي بالثورة التي كانت معالمها تبرز بالتدريج في المدرسة النقدية حتى أصبح بالوسع الوصول إلى الفصل بين الكلامي والديني وبين الفلسفي والعلمي: صار الكلام والفلسفة يعنيان فساد الديني وفساد العلمي.
    لكن ما جاء صريحا في الكلام على الفلسفي جاء ضمنيا في الكلام على الكلامي والصوفي المتفلسفين: والفلسفي حينئذ لا يعني شيئا آخر غير الزعم بقدرة العقل على العلم المحيط أي دعوى المطابقة التي تجعل ما يعلمه هو حقيقة الشيء على ما هو عليه إذا كان مما يتجاوز التجربة العلمية الممكنة.
    وإذا أردنا صوغ الأمر بوضوح فيكفي أن نقوله بالسلب: نفي القول بنظرية المعرفة المطابقة التي تعني امرين لا دليل عليهما أي شفافية الوجود المطلقة وإحاطة العقل بعلمه المطلق. وهذا يعني أن التجربة الروحية والتجربة الطبيعية فيهما ما وراء يتجاوز الكلام والفلسفة وكل رد لهما إليهما دعوى باطلة.
    وهذا هو موضوع “اللطيفة” التي قدم بها ابن خلدون فصل علم الكلام (10) وإبطال الفلسفة (الميتافزيقا أو الإلهيات) وفساد منتحلها (31). ويتحد الدحضان لعلم الكلام الذي صار ميتافيزيقا بعد الرازي وللفلسفة التي اقتصرت على الميتافيزيقا وحفظ بعض علوم أرسطو في الفصل 27 (علم الإليهات).
    والحصيلة قابلة للصوغ في عبارة وجيزة لخص فيها ابن خلدون ثورة المدرسة النقدية التي هي قطيعة فعلية مع الفلسفة القديمة وعلم الكلام الذي انتهى في الغاية إلى الاندماج فيها: وهم الفلاسفة والمتكلمين هو رد الوجود إلى الإدراك: ابستمولوجيا نظرية المعرفة المطابقة علما للشيء على ما هو عليه.
    وكل من له دراية بالفلسفة القديمة والوسيطة يعلم أن أرسطو قد حاول في مقالة الكاف (الحادية عشرة) من الميتافيزيقا دحض النظرية السوفسطائية القائلة بالإنسان مقياس كل شيء. لكنه في الحقيقة أطلقها لأن ما دحضه هو النسبة إلى الفرد الإنساني وليس إلى الإنسان من حيث هو إنسان: نفاها عن الفرد وأثبتها للنوع للظن أن العقل الإنساني ذو علم مطابق للوجود فأطلق مبدأ السفسطة: الإنسان مقياس كل شيء موجوده ومعدومه.
    ما دحضته المدرسة النقدية العربية هو نفي المبدأ السوفسطائي المطلق الذي بقي في نظرية أرسطو وهو ان العقل الإنساني عندما يستعمل المنطق ويتحرر من الذاتيات الفردية يصبح قادرا على الإحاطة بالوجود على ما هو عليه. فهنا يكون الإنسان من حيث هو إنسان مقياس الوجود: وهو المرفوض الآن.
    فدينيا يمكن أن نسمي ذلك الإيمان بالغيب. وفلسفيا يمكن أن نسمي ذلك التحرر من القول بنظرية المعرفة المطابقة والاعتراف بأن العقل الإنسان مهما تحوط منهجيا وتسلح تقينا لإدراك الموجود فهو يبقى دائما دون تحقيق الإحاطة والمطابقة بين علمه وموضوع علمه: ما نجهله لامتناه وما نعلمه متناه. والآن يمكن أن نفهم الفصلين 10 و31 من المقدمة:
    • الأول جاءت فيه “لطيفة” بدأ بها ابن خلدون فصل علم الكلام ليبين أن سبل المعرفة الإنسانية المعتمدة على العقل لا تغني في العقائد الدينية ومن ثم فعلم الكلام لا يمكن ان يعتبر علما بما وراء التجربة.
    • والثاني يثبت نفس الحقيقة مع حكمين قاسيين. فأما الحكم الأول فهو “إبطال” الفلسفة وأما الثاني فهو “فساد” منتحلها في الفصل 27. وقد ورد في الفصل 10 وهما الضلال والخسران.
    والحكمان على الفلسفة من طبيعة معرفية (باطل) وخلقية (فاسد) والحكمان على الكلام من طبيعة دينية (ضلال) وخلقية (خسران). ويشتركان في الخلقي وتحرير العلمي والديني. ولأوجز الثورة بلسان ابن خلدون في غاية لطيفته التي قدم بها عرضه لعلم الكلام منطلقا من الغاية التي وصل إليها الكلام في عصره بعد أن اختلط فيه حابل الميتافيزيقا بنابل التصوف قبل أن أعالج صورتيها في الفصل 10 والفصل 31 من الباب السادس من المقدمة أي في عرضه وجهيها الممتزجين.
    “فإذا علمت هذا (استحالة الاحاطة بالأسباب ورد الوجود إلى الإدراك) فلعل هناك ضربا من الإدراك غير مدركاتنا لأن إدراكاتنا مخلوقة محدثة وخلق الله أبر من خلق الإنسان. والحصر مجهول والوجود أوسع نطاقا من ذلك والله من ورائهم محيط. فاتهم ادراكك ومدركاتك في الحصر واتبع ما أمرك الشارع به في اعتقادك وعملك فهو أحرص على سعادتك وأعلم بما ينفعك لأنه من طور فوق إدراكك ومن نطاق أوسع من عقلك. وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه بل العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينية لا كذب فيها. غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء طوره فإن ذلك طمع في محال (………..) وإذا تبين ذلك فلعل الأسباب إذا تجاوزت في الارتقاء نطاق إدراكنا ووجودنا خرجت عن أن تكون مدركة فيضل العقل في بيداء الأوهام ويحار وينقطع. فإذن التوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب وكيفيات تأثيراتها وتفويض ذلك إلى خالقها المحيط بها إذ لا فاعل غيره. وكلها ترتقي إليه وترجع إلى قدرته وعلمنا به إنما هو من حيث صدورنا عنه. وهذا هو معنى ما نقل عن بعض الصديقين” العجز عن الإدراك إدراك”. فتكون الثورة ذات مرحلتين:
  3. بيان أن علم الكلام تفلسف فصار ميتافيزيقا واكتمل هذا الخلط بعد الرازي.
  4. والميتافيزيقا مبنية على دعوى المطابقة والسببية وكلتاهما دعوى بلا دليل.
    لو اقتصر الكلام على الفلسفة والميتافيزيقا لكان كلام ابن خلدون شبه تكرار لما قاله الغزالي قبل أن يرتد من النقد إلى التسليم بحلين كلاهما هما ما فرض على ابن خلدون القيام بنقد أكثر عمقا:
    فالغزالي بعد التهافت عاد فأصبح قائلا بميتافيزيقا المدرسة المشائية المزيجة التي أسسها ابن سينا.
    والغزالي خلط بين “طور ما وراء العقل” والكشف الصوفي بمعنى أنه نسب إليه الإحاطة التي وإن لم تتحقق بالعقل فهي تتحقق بالكشف.
    ولهذا اعتبرت الفصل 27 في الإلهيات وصلا واصلا بين النقدين في الفصل 31 للفلسفة (الميتافيزيقا) وفي الفصل 10 (اللطيفة): أي اختلاط الفلسفة والكلام والتصوف المتفلسف. ومعنى ذلك أن ثورة التحرر من القول بالمطابقة التي هي رد الوجود إلى الإدراك أو إطلاق الرؤية السوفسطائية القائلة إن الإنسان مقياس كل شيء موجوده ومعدومه هو أساس الفلسفة القديمة والوسيطة وهو أساس يسلم أمرين لا دليل عليهما:
  5. شفافية الوجود للعقل.
  6. إحاطة علم الإنسان العقلي به.
    وينتج عن ذلك أمران معرفي وخلقي أو مرضان ابستمولوجي وأكسيولوجي. ففي النظر ينتج وهم العلم المطلق وفي العلم وهم الحكم المطلق. والأول هو أساس الاستبداد المعرفي والعقلي والثاني هو إساسا الاستبداد السياسي والخلقي= أساس التعليمية الباطنية بأركانها الثلاثة: الفيلسوف والإمام والقطب.
    وفي ذلك يشترك الفلاسفة والمتكلمون والمتصوفة وصلتهم بالباطنية وخاصة بعد أن تم التوحيد بينها في غاية اكتمال هذه المدارس: والأمر صريح عند الفارابي وابن سينا وابن رشد. فهذا يكفي فهمه للآية 7 من آل عمران وابن سينا رؤيته للحاجة إلى القطب والفارابي أكثرهم صراحة في ذلك.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي