****
الثورة الخلدونية ما الذي يحول دون ادراك كنهها؟ – الفصل الخامس –
لم يحيرني شيء في مقدمة ابن خلدون أكثر من “لطيفته” الواردة في مفتتح فصل علم الكلام من الباب السادس من المقدمة (الفصل العاشر). فهي لطيفة غريبة حقا لأن وجه اللطافة فيها ليس بين اللطف. ما اللطيف بمعنى ما الشيء الذي -سابتل-بحيث احتاج ابن خلدون لوصفه بهذا يفيد الدقة وعسر الفهم؟
استغربت شديد الاستغراب أن يحاول ابن خلدون اثبات التوحيد -لأن هذا هو موضوع اللطيفة-بما قد يبدو دحضا للسببية من جنس دحض الغزالي لها. لكن ذلك فهم سطحي لأن الغزالي نفى الضرورة السببية ولم ينف قابليتها للعلم. وابن خلدون لم ينف الضرورة بل نفى قدرة العقل الإنساني على علمها بمعنيين.
المعنى الأول: لا يمكن للإنسان قطع التسلسل والدور فيها.
والمعنى الثاني: لا يمكن أن يحدد طبيعة التأثير السببي.
وهما وجهان لم يتكلم عليهما الغزالي في المقالة السابعة عشرة من التهافت التي خصصها لنفي الضرورة السببية من أجيل اثبات أمرين هما المعجزات أو الحرية الإلهية بصورة صريح.
لكن فيها شيء من نظرية أفعال العباد أو الحرية والتكليف الإنسانيين بصورة ضمنية لأن بقية المقالات من 18 إلى 20 كانت مخصصة للابستمولوجيا بعد الكسمولوجيا والثويولوجيا في المقالات المتقدمة على السابعة عشرة.
لكن المحير أكثر هو أنه كما يعلم كل من له دراية بالكلام وحتى بالفلسفة فإن السببية لم تستعمل لأثبات وحدانية الله بل لأثبات وجوده. واللطيفة تتعلق بإثبات التوحيد وليس وجود الله. وجهان محيران يجعلان اسم اللطيفة ذا دلالة. وشرط إدراك هذه الدلالة هو دور الفصل 27 في الوصل بين 10 و37.
وهذا الوصل ليس من عندي.
هذا ابن خلدون نفسه يقول فيه: “ولما وضع المتأخرون في علوم القوم ودونوا فيها ورد عليهم الغزالي ما رده منها ثم خلط المتأخرون من ا لمتكلمين مسائل علم الكلام بمسائل الفلسفة لاشتراكهما في المباحث نشابه موضوع علم الكلام بموضوع الإلهيات ومسائله بمسائلها فصارت كأنها فن واحد ثم خيروا ترتيب الحكماء في مسائل الطبيعيات والإلهيات وخلطوهما فنا واحدا قدموا فيه الكلام في الامور العامة ثم ابتعوه بالجمسانيات وتوابعها ثم بالروحيانيات وتوابعها إلى آخر العلم كما فعله الإمام ابن الخطيب في المباحث المشرقية وجميع من بعده من علماء الكلام وصار علم الكلام مختلطا بمسائل الحكمة وكتبه محشوة بها كأن الغرض من موضوعهما ومسائلهما واحد والتبس ذلك على الناس (…) وكذا جاء المتأخرون من غلاة المتصوفة والمتكلمين بالمواجد فخلطوا مسائل الفنين بفنهم وجعلوا الكلام واحدا فيها كلها ثم كلامهم في النبوات والاتحاد والحلول والوحدة وغير ذلك. والمدارك في هذه الفنون الثلاثة مختلفة. وأبعدها من جنس الفنون والعلوم مدارك المتصوفة. لأنهم يدعون فيها الوجدان ويفرون من الدليل. والوجدان بعيد عن المدارك العلمية وأبحاثها وتوابعها كما بيناه ونبينه”. وبذلك نبدأ في إمساك الخيط الدال على اللطافة: اختلاف مدارك الفنون الثلاثة.
فتكون اللطيفة منتسبة إلى ما يترتب على هذا التمييز بين الفنون الثلاثة من حيث الطبيعة المعرفية. واذن فالبحث مابعد معرفي أو ابستمولوجي: الفلسفة تعتمد على التعليل السببي في الطبائع واللطيفة تبين استحالة الإحاطة العلمية بالسببية وليس بيان عدم دلالتها على وجود الله فضلا عن الوحدانية.
وهذا يعني دحض الخلط بين علم الكلام والإلهيات الفلسفية. فيكون الوصل بين اللطيفة (الفصل 10)
وإبطال الفلسفة وفساد منتحلها متعلقا بنفس الغرض: دحض قابلية الانتقال من العلوم الطبيعية التي تعتمد على السببية والطبائع بالعقل والتجربة الطبيعية إلى الإلهيات والروحانيات وطبعا الكلام والتصوف.
اللطيفة هي إذن رد على الكلام والتصوف المتأخرين من تبني الرؤية الفلسفية في الإلهيات للكلام في الدينيات والروحانيات. فتكون اللطافة في البحث الجديد الذي هو ابستمولوجي بالجوهر ويتمثل في:
- الفصل بين الفنون المعرفية المختلفة.
- وبيان وهاء أساس الفلسفة المتجاوزة للتجربة الممكنة.
وعدم فهم “التجربة الممكنة” هو الذي يجعل المتكلمين يخلطون بين الغائب والغيب. فالغائب هو ما يقبل التجربة حتى وإن لم تحصل بعد والغيب هو المحجوب عن الإدراك الإنساني ومن ثم فهو خارج التجربة الممكنة. فعندما أقيس ما ينتسب إلى عالم الشهادة حتى وإن لم أشهده بعد فأنا أتكلم على الغائب وليس على الغيب. لكن كلامي على الآخرة مثلا من الغيب أو على الروح أو خاصة على الله ذاته وصفاته.
فيتبين من ثم أن اللطيفة جزء لا يتجزأ من ثورة المدرسة النقدية ثورتها الابتسمولوجية التي مكنت من تجاوز الفلسفة القديمة والوسيطة: بيان حدود المعرفة العقلية وصلتها بما يقبل التجربة وامتناع حصر الوجود في الإدراك ومن ثم الانتقال من نظرية المعرفة المطابقة إلى القول بامتناعها عقليا.
وعندما أقول “عقليا” فالقصد أن القول بحدود المعرفة العقلية لم يعد قضية إيمانية من جنس القول بأن العلم النقلي متجاوز للعلم العقلي بل هي قضية ابستمولوجية وتتمثل في القول إن العقل نفسه صار مدركا لحدوده لأنه فهم أن القول بالمطابقة يعود في الحقيقة إلى القول بالإنسان مقياس كل شيء.
فيكون ما حاول أرسطو دحضه هو في الحقيقة الذهاب به إلى غايته: ففي المستوى الأول ظن أرسطو أن الإنسان مقياس كل شيء يتعلق بالذاتيات الإضافية إلى الأفراد من جنس عمى الألوان أو الأذواق مثل المرور الذي لا يميز بين الحلو والمر متوهما أن التخلص من ذلك يؤدي إلى المطابقة.
نفي المطابقة مطلق هنا: حتى الإنسان كإنسان وليس الأفراد المختلفين لا يمكنه أن يدعي أن ما يدركه من الأشياء مطابق لما عليه الأشياء في ذاته من دون أن يكون بذلك قد زعم أن مدارك الإنسان من حيث إنسان مطابقة لحقائق الوجود في ذاته وليس لما يناسب مداركه فحسب: وهذه هي الذاتية المطلقة.
والسطحيون يتصورون ابن تيمية قد نقد المنطق الأرسطي من حيث صحة قوانينه الصورية وهو ما لم يدعه ولم يقم به (التحليلات الأوائل: نظرية المنطق) بل هو نقد أسسه الميتافيزيقية التي تؤسس للمطابقة (التحليلات الأواخر: نظرية العلم). فالظن أن المنطق يحرر المعرفة من الذاتية صحيح إذا اقتصرنا على الفردي منها. لكنه لا يحررها من الذاتية النوعية (الإنسان كإنسان).
توهم التحرر من الذاتية النوعية يعني رد الوجود في ذاته إلى الوجود في إدراك الإنسان له ومن ادعاء كل ما يتجاوز مدارك الإنسان عدم. وهو المبدأ الذي أسس عليه بارمينيدس فلسفته وصار بداية الفصل بين “الفلسفي” وغير الفلسفي أو بين اللوجوس (عين الوجود) والميتوس (أوهام إنسانية).
لكن ذلك هو في الحقيقة حصر للوجود في ما يعقله الإنسان واعتبار ما لا يعقله غير موجود. وهذا هو معنى جعل الإنسان كنوع مقياس كل شيء موجوده ومعدومه وهو جوهر الموقف السوفسطائي في مستواه الثاني بمعنى الإضافة إلى الإنسان كنوع وليس إلى هذا الفرد أو ذاك من البشر.
عندما وضع الغزالي مفهوم “طور ما وراء العقل” كان يمكن أن يكون ذلك بداية لهذا التمييز بين ماوراء عقل الفرد وما وراء عقل النوع وكان يمكن أن يكون بداية التحرر من القول بنظرية المعرفة المطابقة أي التي ترد الوجود إلى الإدراك. لكننا رأينا أنه نكص إلى السينوية والكشف الصوفي.
بمعنى أنه صار يقول بالمطابقة في الميتافيزيقا (رد المنقول إلى المعقول بالتأويل وهو أول من وضع قانون التأويل) وفي الكشف الصوفي. لكن ابن تيمية أدرك أن ذلك مستحيل وأن الإحاطة بالوجود غير ممكنة لغير علم الله بالوجود. وهذا هو الفرق الجوهري بين العلمين الإلهي والإنساني.
ومن ثم يستنتج ابن تيمية أن “الهيلومورفية” (المادة والصورة) التي ينبني عليها مفهوم المطابقة والتي تجعل بنى اللغة الطبيعية “النحوية” عندما ترفع إلى مستوى البنى المنطقية توهم بان الوجود الخارجي مؤلف من ذوات وأعراض عامة وذاتية وأن ما يجري في الأذهان مطابق لما في الأعيان كلها ذاتيات لا شيء يثبتها بحق. وكل النقد الخلدوني للفلسفة هو من هذا الجنس ولا يختلف عنه في شيء كما بينا تبين في الفصول السابقة. ولا يعني ذلك أنه اخذه منه. لأنه لا دليل عندنا عن علم ابن خلدون بثورة ابن تيمية الابستمولوجية. فهي ثورة مشتركة بين فلاسفة المدرسة النقدية التي رفضت نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة إما بدافع ديني (الإيمان بالغيب) أو بعلاج ابستمولوجي من خلال بيان امتناع الإحاطة في العلم الذي هو اجتهادي دائما وليس مطابقا: الغزالي قبل نكوصه ثم ابن تيمية وابن خلدون.
وهي إذن “صور” لنا عن الوجود غيرها ممكن وهي مقبولة في حدود التجربة وتتغير بتغيرها وليس فيها ما هو يقيني بل هي تصورات يمكن تجاوزها إلى تصورات أدق. ومعنى ذلك أننا بمجرد أن نعوض المتغيرات في خانات الأشكال المنطقية (يرمز إليها أرسطو بحروف) بمضامين تجريبية تحصل لنا صورة عن الموجود لا يرد إليها الموجود. فكان من ثم منطلق تمييزه بين أمرين في المعرفة: - المقدرات الذهنية وهي الوحيدة التي فيها معرفة كلية لأنها تعمل على متغيرات مجردة يبدعها العقل الإنساني كما في الرياضيات
- المعطيات النقلية أو معطيات التجربة وهي لا ترد إلى تصوراتنا حولها ومن ثم فعلمنا فيها يقبل التجويد بصورة لا متناهية.
فتكون المقدرات الذهنية مصدر الشكل المعرفي أو أداة صوغ المعطيات التجريبية وتكون صيغ المعطيات التجريبية معرفة نسبية قابلة للتجويد صوريا بإبداع الشكل الذي هو تقدير ذهني وماديا بتدقيق التجربة وأدوات الإدراك الحسي. لكن هذا العمل يبقى دائما صورة من الموضوع لا تصل إلى المطابقة معه لأن الإحاطة ممتنعة على العلم الإنساني. والمهم في ذلك كله أمران: - العقل يصبح أكثر تواضعا منفتحا على تجاوز كل تجاربه السابقة فيتقدم علمه ولا يتصور نفسه بلغ الغاية في أي علم
- الإيمان بأن ذلك لا يكفي لوجود الإنسان لأن عالمه الذي يسميه “الواقع” ليس إلا أحد الممكنات عقلا ومن ثم فأفق الانسان أوسع من العالم المادي والطبيعي.