****
الثورة الخلدونية ما الذي يحول دون ادراك كنهها؟ – الفصل الثاني –
ونأتي الآن إلى الأحياز الذاتية.
• فكل فرد له حيز مكاني هو بدنه.
• وله حيز زماني هو روحه أو وعيه بذاته.
• وله حيز ناتج عن أثر الأول في الثاني هو تراثه أو مخزونه الرمزي الذي يسد حاجاته الروحية.
• وله حيز ناتج عن أثر الثاني في الأول هو ثروته أو مخزونه المادي مما يسد حاجاته العضوية.
• والحيز الذي هو أصلها جميعا هو ذاته الواصلة بين بدنه وروحه زاده العضوي وزاده الروحي.
والتفاعل بين هذه الأحياز الذاتية في كائن فرد والأحياز الخارجية التي تحيط به وبكل جماعة لا تكون بدون وساطة الجماعة بفضل تقاسم العمل المادي المنتج للثروة أو الاقتصاد والعمل الرمزي المنتج للتراث أو الثقافة وبين نوعي الأحياز ونوعي العمل وكلاهما مشروط بالحماية والرعاية وأداتيهما: أي حكم الإنسان وتكوينه.
وهنا نكتشف سر الثورة الخلدونية: فهو يعتبر تعطيل هذا التفاعل بين الأحياز الذاتية للأفراد والأحياز الخارجية التي تحيط بهم علة “فساد معاني الإنسانية” أو تعطل فاعليات الجماعات البشرية وعلة الانحطاط.
فالتكوين (تربية الأفراد) والحكم (تنظيم حياة الجماعة) تزيلان رئاسة الإنسان فتفقدانه حرية إرادة وصدق علمه وخير قدرته وجمال حياته وجلال وجوده فلا يبقى أهلا للخلافة.
جوهر المقدمة:
مرافعة فلسفية للدفاع عن الحرية في التكوين وفي الحكم أداتي تحرير من الطاغوتين (الطبيعي والسياسي) أو أداتي تدجين بهما (الخضوع لطاغوت الطبيعة في العمران البدوي والخضوع لطاغوت الثقافة في العمران الحضري) والبحث هو لدرس الطاغوتين وشروط التحرر منهما.
وقد سبق لي أن درست هاتين الثورتين في الرؤية القرآنية عندما شرحت سورة هود لأبين دلالة “لقد شيبتني هود وأخواتها” المنسوبة إلى الرسول الخاتم. فالتحرر من سلطان الطبيعة يرمز إليه تكليف نوح بأخذ زوجين اثنين من كل شيء لجعله زرعا إنسانيا وليس نباتا طبيعيا بداية للتحرر من الطاغوت الأول.
والتحرر من سلطان الطاغوت الثقافي هو التحرر من طغيان الفرعونية ويرمز إليه موسى. لكن التحررين سرعان ما يحرفان فيتحولان إلى عبودية أدهى وأمر هي عبودية دين العجل: أي عبودية الاقتصاد ورمزها معدن العجل وعبودية الثقافة ويرمز إليها خوار العجل. وذلك هو دين العجل= الأبيسيوقراطيا.
وهذه الأبيسيوقراطيا اكتملت في النظام العالمي الجديد عالم العبودية للبنك (رمزها معدن العجل) وعبودية الإعلام والملاهي (رمزها خوار العجل) بحيث إن الإنسانية كلها صارت مستعبدة لأصحاب البنوك والربا ولأصحاب الإلام والملاهي المسيطرين على البشرية والتي بها تحارب مافيات العالم الإسلام وحضارته.
فالإسلام يجعل التفاعلات بين الأحياز الذاتية للفرد والأحياز العامة للجماعة فرض عين وسماها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين بل أكثر من ذلك هو يعرف بها الإنسان المسلم (آل عمران 104) إنشاء ويحدد انتسابه إلى الخيرية بتحقيقها خبرا (آل عمران 110). لكن المسلمين غفلوا عنهما فانحطوا.
والعنف الذي يتكلم عليه ابن خلدون بوصفه علة “فساد معاني الإنسانية” فتصبح الجماعات تصبح عالة على غيرها والافراد فاقدين “الرئاسة التي لهم بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلقوا له” يرجعها ابن خلدون إلى دلالة التأله بوصفه من الأسماء الأضداد: التأله العنيف والتأله اللطيف مرضي الإنسانية الدائمين.
فالتأله العنيف هو الطاغوت المادي ويغلب على الحكم والتأله اللطيف هو الطاغوت الروحي ويغلب على التربية. ويبدو التألهان وكأنهما متناقضان لكنهما في الحقيقة من طبيعة واحدة: فالمستبد السياسي يتأله بمعنى أنه يعتبر نفسه ربا في الأرض. والمتصوف أو العابد يتأله فيظن نفسه قد فنى في الله.
وقد تكلم ابن خلدون على التألهين لكنه لم ير إلا أثر التأله العنيف حتى في التكوين أو التربية وحصره في تعنيف المتعلم من المعلم وضربه مثلا. لكنه لم يكتشف أن العنف الرمزي الذي يدعي فيه المعلم أنه ليس مذكرا بل وسيط بين المؤمن وربه أخطر على “رئاسة الإنسان بالطبع” من العنف المادي.
ومعنى ذلك أنه رغم اكتشافه أن التأله من الأضداد لم ير دور التأله اللطيف في الوساطة (تكوين الإنسان وتربيته) وعلاقته بالتألـه العنيف في الوصاية (حكم الإنسان وتدجينه) لكأن الوصل بين “إنما أنت مذكر” و”لست عليهم بمسيطر” لم تفهم الفهم العميق الذي يعني نفي الكنسية والحكم بالحق الالهي.
وذلك ما حاولت النهضة الأوروبية محاكاته في الإصلاح الديني والسياسي: التحرر الروحي من الوساطة الكنسية بين المؤمن وربه والتحرر السياسي بين المواطن وشأنه من الحكم بالحق الإلهي. فالحداثة الغربية بدأت بهما لكنها عوضتهما بما يناظرها وإن بشكل حديث من الوساطة والوصاية عالجناهما في عديد المحاولات السابقة.
فالرسول الخاتم ليس وسيطا بين المؤمن وربه بل مذكر وليس وصيا يحكم بالحق الإلهي. لكن ما صاروا يسمون أنفسهم “أولى الأمر” نسوا “منكم” وجعلوها “عليكم” وزعم أصحاب ولاية الأمر في التربية (العلماء) ورثة الأنبياء في ما لا يملكون وأصحاب ولاية الأمر في الحكم (الأمراء) ورثة الله نفسه.
وبذلك تم تحريف ثورتي الإسلام الروحية بأن أصبح التكوين وساطة وليس تذكيرا للإنسان بما فطر عليه والحكم وصاية وليس خدمة فرض كفاية بشرطي الأمانة والعدل تحت رقابة الأمة لأن حكمها لذاتها فرض كفاية لأن الأمر أمرها (الشورى 38) وهي التي تديره بشوراها في المجالين الروحي والاقتصادي-الاجتماعي.
فالشورى 38 تبدأ بالمجال الروحي (الاستجابة للرب دون سواه) وتنتهي بالمجال الاقتصادي (الانفاق من الرزق) وبين الحدين وعلامة الاستجابة (أقاموا الصلاة) وتحديد طبيعة الحكم (أمر الأمة=راسبوبليكا) وأسلوب الحكم (شورى بينهم=ديمقراطية) فتكون الآية محددة لشرطي المحافظة على رئاسة الإنسان التي له بالطبع لكونه خليفة : الاستجابة للرب والإنفاق من الرزق.
مفهوم “الإنسان رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” مفهوم وضعه ابن خلدون لبيان ما وضعه في الباب الأول من المقدمة عندما وضع الشرط الطبيعي (الجغرافيا الطبيعية والمناخ) والشرط الروحي (ما لدى الإنسان من استخلاف شرطه تعمير الأرض). وبذلك فهو يتجاوز حصر الروحي في العقلي.
وهذا التجاوز يجعل العقل إحدى أدوات الروحي وليس هو الروحي في الإنسان ومن ثم فالعلم مقوم أداتي والروحي مقوم غائي. والمقومات الأداتية التي غايتها الروحية هي كون الإنسان رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له خمسة: الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود. والغاية قيمها.
وما يسميه ابن خلدون “فساد معاني الإنسانية” هو فساد قيم هذه المقومات الأداتية أي غاياتها التي بتحققها يحقق الإنسان جدارة الاستخلاف: فالإرادة قيمتها الحرية والعلم قيمته الحقيقة والقدرة قيمتها الخير والحياة قيمتها الجمال والوجود قيمته الجلال. فالرئيس بالطبع يكون حرا صادقا خيرا جميلا وجليلا.
وفساد معاني الإنسانية هو فساد قيم المقومات الخمسة. فيكون الإنسان الذي فسدت فيه معاني الإنسانية عبد الإرادة كاذب العلم شرير القدرة قبيح الحياة وذليل الوجود. وبهذا يصف ابن خلدون الشعوب والافراد عندما تكون ضحايا العنف. ورغم اقتصاره على العنف المادي فإن نفاذه الفلسفي كان فعلا نفاذا عبقريا.
فالمهم أنه اكتشف أن فساد معاني الإنسانية ليس ظاهرة طبيعية بل هي ظاهرة ثقافية علتها عنف التربية وعنف الحكم. وعنف التربية أشمل من العنف المادي: وساطة المعلم الذي لم يعمل بـ”فذكر إنما أنت مذكر” وعنف الحكم أشمل من العنف المادي: وصاية الحاكم الذي لم يعمل بـ”لست عليهم بمسيطر”.
فالوساطة تجعل المتعلم متلق من وسيط ولا دور له إلى حفظ ما يملى عليه وكأنه حقيقة لا يمكنه اكتشافها بنفسه إذا كان المعلم مذكر له بما نساه أو بما غفل عنه وهو مرسوم في فطرته بالمعنى الذي يمكن ان نفهمه من المنهج السقراطي أعني منهج التوليد: فالقابلة تساعد الحامل على الوضع لا غير.
أما الوسيط فهو يجعل المتعلم عقيما لا يساعده على وضع ما هو حامل به بل هو يحمله أسفارا كالحمار الناقل لها بمنطق القطب الذي يعامل المتعلم معاملة المغسل للميت. ومن ثم فهو يقتله ثم يحشوه بما وضعه هو فيحول دونه وحرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود.
وكما بينت آل عمران فإن هذه الوساطة تتحالف مع الوصاية أي إن المؤسسة التربية من حيث هي كنسية تتوسط بين المؤمن وربه تتحالف مع الوصاية أي مؤسسة الحكم من حيث هي تأله ودعوى الحكم بالحق الإلهي أو باسم شرع الله حتى يصبح للاستبداد أساسا يزعم دينيا وهو كفر بكل ما هو ديني بحق.
فيجمع هامان وفرعون أو خوار العجل ومعدنه ويصبح الإنسان فاقدا لرئاسته بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له بمصطلح ابن خلدون. وتلكما هما علتا ما تعاني منه الامة اليوم من فشل في علاقتها العمودية بالطبيعة سدا لحاجات قيامها المادي وفي علاقتها بالتاريخ سدا لحاجات قيامها الروحي.