الثورة الخلدونية، ما الذي يحول دون ادراك كنهها؟ – الفصل الثالث

****

الثورة الخلدونية ما الذي يحول دون ادراك كنهها؟ – الفصل الثالث –

ورغم أن ابن خلدون لم يصل بين العنفين اللذين هما وجها التأله من حيث هو الأضداد-التأله العنيف الحاكم المستبد أو الوصي الذي يظن نفسه إلها والتآلف اللطيف “العالم” الوسيط بين المؤمن وربه فإن لم يكتف بنقد الحكام بل نقد المربين بصنفيهم النظري والعملي: المتكلم والفيلسوف في والفقيه والمتصوف.
لكن نقده للفقهاء في العمل وللمتكلمين في النظر لم يكن بالوضوح الذي نقد به الطرف الثاني من الصنفين أي المتصوف في العمل والفيلسوف في النظر. وقد يكون ذلك ناتجا عن الحذر السياسي الذي عرف به ابن خلدون وتجبنه المشاكل معهما لعلمه بما لهما من سلطان لدى أصحاب سلطان التأله العنيف.
ومع ذلك فالمقدمة وخاصة سيرته الذاتية لم تخلوا من نقد جذري للفقهاء (في السيرة) المتكلمين (في المقدمة) وأتكلم على ذلك لاحقا. ما يعنيني هو كلامه في الفلاسفة (في المقدمة) والمتصوفة (في المقدمة وفي شفاء السائل). فجل نقده المتعلق بالتأله اللطيف يدور حول “الفلسفة” والتصوف.
وحتى لا يقع القارئ في الخلط السائد بين الفلسفة والعلوم العقلية وبين التصوف والزهد الديني فلا بد من التنبيه إلى أن ما يقصده ابن خلدون بالفلسفة هو الميتافيزيقا التي تقول برد الوجود إلى الإدراك وهو أشبه بقول المتصوفة بالكشف وما يقصده بالتصوف هو التصوف مدعي القدرة على كشف الغيب.
وقد يكون ابن رشد جامعا بين التصورين لأن القول بنظرية المعرفة المطابقة -العلم بالشيء على ما هو عليه-هو أساس ظنه أن الراسخين في العلم معطوفة على الله في آل عمران 7 ومن ثم فالمتشابه قابل للتأويل على أساس علم الفيلسوف بالحقيقة المطلقة وفي ذلك نفي للغيب.
فإذا كان تأويل المتشابه ممكن للراسخين في العلم فعلمهم من ثم محيط إحاطة علم الله بالمعلوم. وتأويل القرآن يصبح مجرد البحث عن دلالته في الفلسفة -بمعنى العلم المطلق أو الميتافيزيقا عنده-وهي التي ألف ابن خلدون في إبطالها وبيان فساد منتحليها فصلا من المقدمة في بابها السادس والأخير.
أما نقد نظير الميتافيزيقا في علوم الملة فهو نقد “علم الكلام” وخاصة جزؤه المتعلق بجليلـه حول الذات والصفات وعلاقة أفعال العباد به وبسلطانه على الموجودات. وهو نقد يشير إليه ابن خلدون نوعين من الإشارة عندما يتكلم في المشترك بينه وبين الفلسفة ثم في ما يختلف به عن رؤية السلف عامة.
فيكون نقد التأله اللطيف هو عينه بيان حدود المعرفة العقلية بالعقل نفسه: ومعنى ذلك أن العقل يصل إلى درجة من الرشد يعلم بها أن الوجود لا يرد إلى الإدراك وأن نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة منافية للعقل ذاته ومن ثم فالروح أبعد غورا من العقل دون أن يعني ذلك القول بشناعة الكشف الصوفي.
وكلنا يعلم التحالف الصريح بين القائلين بالكشف الصوفي والقائلين بالحاكم ظلا لله في الأرض. فهما يمثلان وجهي التأله اللذين أبانهما ابن خلدون في المقدمة واعتبرهما مرض الإنسانية لانهما يسلبان من الإنسان من حيث هو إنسان “الرئاسة التي له بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”.
وعندما تنزع عنه هذه الصفة التي هي ثمرة الاستخلاف يفقد حرية الإرادة (عبد لعبد) وصدق المعرفة (باطل) وخير القدرة (شر) وجمال الحياة (قبح) وجلال الوجود (ذل). وهذه الصفات السلبية هي التي تصبح طبيعته الثانية فيقع الإنسان في الخسر: لا يؤمن بشيء ولا يعمل صالحا ولا يتواصى بالحق ولا يتواصي بالصبر.
وهذا هو الإنسان الذي يعتبره ابن خلدون فقد “فسدت فيه معاني الإنسانية” فصار عالة على غيره لا يعيش إلى بالغش والكذب والخداع والنفاق وخاصة بفقدان ما يسميه ابن خلدون الصفات المدنية أي الرعاية والحماية الذاتيتين فيصبح تابعا لنوعي التأله: اللطيف يستعبده روحيا والعنيف يستعبده ماديا.
ويؤسفني ويؤلمني أن أقول إن هذه الصفات هي الغالبة اليوم على نخب العرب وخاصة على من لم يثر منهم بعد وعلى من يقود الثورة المضادة ضدهم. فهؤلاء عبيد لحماتهم إما الذراع الإيرانية أو الذراع الإسرائيلية أو حامي إيران وحامي إسرائيل للنخب التي “فسدت فيها معاني الإنسانية” وهم مرضى بيننا ولا علاج لهم.
ورغم أن التصوف السني الذي لم يتجاوز المجاهدتين الشرعتين أعني مجاهدة التقوى ومجاهدة الاستقامة كانوا من قادة حرب التحرير في جل بلاد المسلمين فإن التصوف الذي يدعي التفلسف والكشف ويتجاوز الزهد إلى نفاق الباطنية كان ولا يزال منه عملاء الاستعمار والاستبداد: خدم الغرب وعملائه.
وهم في الحقيقة باطنية متنكرة أو شيعية غالية تمثلها المرجعيات التي كانت ولا تزال حليفة لكل محارب للإسلام ولحضارته منذ مغول الشرق إلى مغول الغرب (الولايات المتحدة) ويحالفون البرتغاليين والصليبيين والاستعمار كما نرى ذلك عند ما يسمى مرجعيات في العراق حلفاء بريمر وأمراء الثورة المضادة في الخليج وبقية الأقطار العربية وفيهم من لا يقل عداء للإسلام من الباطنية وعلامتهم العمالة لترومب وصهره.
ويخطئ من يتصور أن هذا الحلف بين التألهين المادي للاستبداد السياسي والرمزي للاستبداد التربوي هو حلف بين الجهل (الحكام) والعلم (المربين) بل هو بين جهلين جهل بسيط عند الحكام جهل مركب عند “العلماء”: فمن يتأله بسلطان رمزي محرف أخطر ممن يتأله بسلطان مادي محرف.
وحتى نطبق الكلام على ما يجري حاليا فإن ما يفعله الطاغوت السياسي في بلاد العرب له أساس في طاغوت تربوي عند كاريكاتور النخب التأصيلية وكاريكاتور النخب التحديثية التي هي من أكثر النخب جهلا في العالم. فهم مرتزقة وعندنا منهم في تونس نخب اليسار خاصة واغلبهم من أدوات المخابرات والحانات.
ويكفي أن ترى ما يجري في مصر وسوريا والعراق وليبيا والإمارات والسعودية وطبعا في تونس وكيف تدار الدول والمجتمعات من السفارات والمخابرات والاحتماء بإيران وإسرائيل ومن وراء إيران ومن وراء إسرائيل وهم في الغالب مافيات صهيونية ومسيحية صهيونية إذ كل الحكام العرب دمى بيدهم.
من يصدق أن يقود مصر حمار مثل السيسي وسوريا أرنب مثل بشار والسعودية أحمق مثل صاحب المنشار وليبيا جبان مثل حفتر والعراق كل خونة العراق الذين رباهم ملالي إيران ونصبهم بريمر واحتلوا العراق بالدبابة الأمريكية والمليشيات الإيرانية وتونس تديرها السفارات وهلم جرا حتى لا اسمي الكثير ممن أجهل أسماءهم وتاريخهم وأفعالهم من نفس الجنس.
وليست هذه الحال من الصفات العرقية ولا من القضاء والقدر بل هي بفعل فاعل داخلي وخارجي: فأما الفاعل الداخلي فهو الحكم والتربية وأما الفاعل الخارجي فهو الانتخاب المفروض بحيث إن من ينصب عليهما يقع اختياره بصورة تجعله مخربا حتى بغير قصد لأنه يختار من فاقدي الشرطين: الكفاءة والأخلاق.
والمعلوم أن الوحشية والعنف متناسبان مع فقدان هذين الشرطين: فنسبة الإحرام طردية في المكلف بالتربية وبالحكم مع فقدان الكفاءة والأخلاق ولعل ما حدث مع خاشقجي من أكبر الادلة وقبله ما حدث في رابعة وفي العراق وفي سوريا وفي ليبيا وتونس الجزائر حتى قبل الثورة والخفي أكثر من الجلي.
ولما ينصب هؤلاء يصبح بيدهم تنصيب من هو دونهم كفاءة وأخلاق في العلم والقدرة والحياة والوجود. فتصبح كل النخب -نخبة الإرادة-الساسة ونخبة المعرفة-الجامعيين ونخبة القدرة الاقتصاديين والمثقفين ونخبة الذوق الفنانين ونخبة الوجود أصحاب الرؤى الدينية والفلسفية من أسفل ما عرفت البشرية.
لذلك فلا تعجب عندما تسمع هذه النخب تخلط بين الدفاع عن الأوطان والدفاع عن المجرمين الذين يحكمونها رغم أنف شعوبها بفرض أجنبي إذ تحميهم القواعد والمستشارين والاعلام إما الصهيوني أو الصفوي ومن ورائهما من اللوبيات في أمريكا وروسيا بتمويل عربي من أحفاد المعادين للإسلام وثورته.
لذلك فلا شيء مما يحدث وليد الصدف بل توجد استراتيجية لمنع العرب خاصة والمسلمين عامة من تحقيق شروط استئناف دورهم بوصفهم أمة عظيمة. والبحث في هذه الاستراتيجية هو الموضوع الاساسي في مقدمة ابن خلدون لأن السؤال الحارق الذي كان يطلب جوابه هو: ما علل الانحطاط وفساد معاني الإنسانية؟
صحيح أن العلاج الخلدوني ينتسب إلى العلاج النظري لكن المطلوب عملي. فهو كان يريد تأسيس علم النقد التاريخي على ما بعد التاريخ أو علم العمران البشري (سد الحاجات المادية) والاجتماع الإنساني (سد الحاجات الروحية) بوصفهما ما بمقتضاه يتحدد التاريخ الإنساني عامة صعودا وهبوطا.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي