الثورة الخلدونية، ما الذي يحول دون ادراك كنهها؟ – الفصل الأول

****

الثورة الخلدونية ما الذي يحول دون ادراك كنهها؟ – الفصل الأول –

المعلوم أن الباب السادس من مقدمة ابن خلدون يحتوي على عرض نسقي لذروة الحضارة استكمالا لشكل العمران الحضري بعد
الأساس الضروري لكل عمران:

  1. البدوي من الاعتماد على انتاج الطبيعة
  2. فتنشئة الدولة
  3. ثم المدينة
  4. فالانتاج الإنساني
  5. فغاية أي حضارة بعودتها على ذلك كله وأدواتها.
    مواد المقدمة:
  6. الشروط الطبيعية والرمزية لنشأة العمران وتفاعلهما في الاتجاهين وذلك هو الأساس المشترك لكل أشكال العمران.
  7. العمران البدوي وأساسه إنتاج الطبيعة
  8. الدولة
  9. المدينة
  10. الاقتصاد وأساسه انتاج الإنسان
  11. العلوم وأدواتها وشروطها المادية (متناسبة مع العمران) والتربوية (متثامرة مع المناهج التربوية) عودة على كل ما تقدم لتجعله عملا على علم: دورة ثابتة ذات مستويات متوالية.
    ومعنى ذلك أن العمل يتقدم على النظر في العمران البدوي والعكس في العمران الحضري.
    والعلة هي تراكم الخبرة وتوالي العادات النظرية على الممارسات العملية إلى أن يصبح الإنسان لا يعمل إلا بشكل الاستراتيجيا العملية التي هي تطبيق لنظريات سابقة متعلقة بمجال العمل أيا كان والخبرة المتعلقة به وبطرقه ووسائله.
    إذا اعتبرنا الباب الأول مشتركا بين العمرانين بقيت لنا خمسة أبواب هذه بنيتها: الرابع هو القلب وهو المدينة التي تفصل بين العمرانين. المدينة غاية البدوي وبداية الحضري. والنقلة من بداية البدوي إلى غايته علتها الدولة أو الحماية ومن بداية الحضري إلى غايته علتها الاقتصاد أو الرعاية.
    تكون نسبة المدينة (الباب 4) إلى الدولة والحماية (الباب 3) عين نسبة المعرفة (الباب 6) إلى الاقتصاد والرعاية (الباب 5).
    ومن ثم علة النقلة من الإنتاج الطبيعي إلى الإنتاج الإنساني متناسبة مع علة النقلة من انتاج الصناعات العفوية إلى انتاج الصناعات النظرية أو العلمية.
    والصناعات سواء كانت عفوية أو نظرية تتعلق بموضوعين:
    • صناعة الإنسان
    • صناعة ما يحتاج إليه الإنسان إما لما يسد به حاجاته أو للأدوات التي يصنع بها ما يسد به حاجاته.
    فتكون على خمسة أصناف كل منها مضاعف: الأصل هو صناعة الجماعة نفسها لتكون حامية وراعية لذاتها ويتفرع عنها أربع “صناعات” مضاعفة.
    فـ”صناعة” الإنسان الحامي والراعي وهو موضوع التربية و”صناعة” الإنسان لما يسد حاجاته في الرعاية وفي الحماية ولأدوات ما به يصنع ما يسد حاجاته في الحماية والرعاية. وكل واحد منها يكون إما رعوانيا أي معتمدا على الخبرة العفوية أو علميا أي معتمدا على الخبرة ذات الأساس النظري والعلمي.
    هذه البنية بأصنافها ثابتة لا تتغير مهما تقدمت البشرية. ما يتغير هو أشكال الدولة الناقلة من العمران البدوي إلى العمران الحضري وأنظمتها ومؤسساتها وقوانينها لكنها تبقى أساسا وظيفة الحماية الداخلية والخارجية هي التي تحدد حقيقتها أصلا لبقاء الجماعة واستقرارها والتفرغ لرعاية ذاتها.
    وما يتغير هو أشكال الاقتصاد أو تطوير شروط الاستقلال عن الإنتاج الطبيعي بفضل النظرية المطبقة عليه فيطور تربية الإنسان (لجعله قادرا على حماية ذاته ورعايتها) ويطور سد الحاجات بالإنتاج وإنتاج ما به يقع الإنتاج أدوات ومناهج. فنكتشف بعدي السياسة الإنسانية: حكم الإنسان وتكوينه.
    والمقدمة هي في الحقيقة بحث في هذين البعدين: الحضارة علاقة بين الطبيعة والثقافة أو بين ما يستمده الإنسان من الطبيعة المحيطة به ومن طبيعته ليجعله شبه طبيعة ثانية تحرره من الأولى بالتدريج بفضل الحكم والتكوين وهما سلطتان: الأولى للحماية والثانية للرعاية. وهما متشارطتان فعلا وانفعالا.
    موضوع المقدمة (أو ثورتها) هو البحث في هذا التشارط وما يترتب عليه في الهندسة العمرانية ودورها في مسار الإنسانية التاريخي الذي حددت معادلته في الباب الاول بمخمس عجيب هو:
  12. الشرط الطبيعي
  13. الشرط الرمزي أو الروحي
  14. أثر الثاني في الأول
  15. أثر الأول في الثاني
  16. الحصيلة هي الحضارة الإنسانية موضوع العلم الذي اكتشفه ابن خلدون فصار بذلك مؤسس العصر الأول من العلوم الإنسانية تأسيس أرسطو للعصر الأول من العلوم الطبيعية.
    الشرط الطبيعي معلوم: درسه ابن خلدون وهو الجغرافيا الطبيعية والمناخ.
    أما الشرط الرمزي أو الروحي فيعسر تحديده: فهو درسه واعتبر منطلقه الخوف من المستقبل ويمكن اعتباره ترجمة للخوف من فقدان شروط البقاء المستمد من الطبيعة وهو إذن خوف مما ينتظر الإنسان من مجهول في طلب لقمة العيش.
    ولهذا ربطه ابن خلدون بالتوقع والنبوءات والتنجيم وبكل ما له علاقة باستشراف المجهول. وينتج عنه حتما الاستعداد له. فيكون الامر متعلقا بالرعاية (سد الحاجات) والحماية (الدفاع عن الذات).
    وإذن فالبعد الروحي أو الرمزي المحدد لطبيعة التعامل مع الطبيعة المحيطة تعبير عن طبيعة الإنسان المحاطة.
    ولما كانت الطبيعة المحاطة فيها كيان عضوي هو البدن وهو الذي يطلب سد حاجته وكان فيها كيان روحي يعي هذا الطلب فإن الإنسان قاس الطبيعة المحيطة على ذاته فاعتبرها هي بدورها ذات كيان عضوي هو ما يشاهده منها وكيان روحي هو ما يعتبره في نسبته إليها مثل ما لديه فاعتبرها ذات روح.
    فأصبح له معها تعاملان: مادي بينها وبين بدنه وروحي بين روحه وروحها. ومن هنا نشأت علاقتان بين كيان الإنسان وكيان المحيط. وبدأت العلاقة تتجاوز مجرد اللقاء بين كيانين ماديين إلى لقاء بين كيانين ذوي روحين تتصادقان وتتعاديان وتتواصلان. وقد درس الباب الأول هذا التفاعل في الاتجاهين.
    وكل ما سيأتي في الأبواب الخمسة الموالية هو ثمرة هذا التفاعل المتطور من المادي إلى الروحي ثم العائد من الروحي إلى المادي. والباب الأخير السادس هو غاية الحضارة الإنسانية أو اكتمال الإنسانية والباب الثاني الأول في هذا التفاعل هو بداية الحضارة الإنسانية أو شروع الإنسانية في التحقق.
    وبهذا المعنى فالمقدمة لها موضوعان رئيسيان: تكوينية نظام الحماية وتكوينية نظام الرعاية والجامع بينهما هو تكوينية الإنسان غاية وأداة. لكن التكوينيتين لتحقيق الإنسانية عامة دون كلام على حضارة معينة إلا بوصفها عينة من الحضاري عامة تفهمان من خلال علاقة نوعي الأحياز المحيطة بكيان الإنسان فردا وجماعة والمحاطة كيان الإنسان فردا وجماعة.
    وتصح الإحاطية والمحاطية ليس على الجماعة الجزئية بل على الفرد وعلى كل جماعة وعلى كل الإنسانية وعلى كل الموجودات العينية: فكل موجود سواء كان حيا أو جامدا محاط بكل العالم ومحيط بكل العالم: فهو محاط ومحيط. وهذه هي الحجة الأساسية لنفيي القول بالمنطق الجدلي وبالعلم المحيط لأي موجود معين.
    ما يعني أن مجرد هذا بحد ذاته دليل كاف على وجود الله وإحاطته بكل شيء إرادة وعلما وقدرة وحياة ووجودا. فالوجود ككل لا يمكن تصوره عديم المبدأ الموحد ولا يمكن أن يكون المبدأ الموحد حالا فيه وإلا لكان محاطا وليس محيطا فحسب وبذلك يكون أحد الموجودات وليس مبدأ وجودها.
    فالأحياز المحيطة هي أبعاد الطبيعة الخارجية وما لها من أثر على ما به تقوم الطبيعة الداخلية قيامها العضوي والروحي. والأحياز المحاطة هي أبعاد الطبيعة الداخلية أو كيان الإنسان وما لها من أثر على الأحياز الخارجية من أجل تحقيق شروط قيامها العضوي والروحي: التفاعلات بين النوعين هي الأهم.
    ويجمع ابن خلدون هذه التفاعلات في مفهوم شديد التعقيد رغم كونه يبدو شديد البساطة “نحلة العيش”. وهو يميز بين نحلتين أساسيتين لكل منهما أشكال مختلفة تذهب من الأبسط إلى الأعقد هما النحلة البدوية والنحلة الحضرية. ولكل منهما بداية وغاية. وغاية نحلة العيش البدوية (تقدم الطبيعي على الثقافي) هي في آن بداية نحلة العيش الحضرية (تقدم الثقافي على الطبيعي).
    ويمكن القول إن جنسي النحلة لا يختلفان من حيث البنية والوظيفة لكنهما يختلفان من حيث دور الأحياز المحيطة ودور الأحياز المحاطة أو طبيعة الفاعلية الغالبة على الجماعة وليس على الفرد: ففي النحلة البدوية الفاعلية الغالبة هي للأحياز المحيطة أو الطبيعة الخارجية. وفي النحلة الحضرية العكس.
    والأحياز الخارجية هي المكان والزمان وأثر الأول في الثاني وأثر الثاني في الأول والأصل فيها جميعا هو المرجعية التي يتلاحم فيها الوصل في كل حيز ثم بين الأحياز. وأثر المكان في الزمان هو التراث أو الواصل الرمزي بين أفراد الجماعة. وأثر الزمان في المكان هو الثروة أو الواصل المادي بين أفراد الجماعة. والأصل مرجعية كيانية لأنها زمانية رمزية ومكانية مادية تصل بين الوصلين بالرمزي (التراث) وبالمادي (الثروة) غير القابلين للفصل حتى في كيان الإنسان العضوي والروحي.
    ولا يمكن أن يكون الأصل إلا مرجعية ميثولوجية أو دينية حتى لو توهم أصحابها أنها تحررت منهما فادعوا أنها فلسفية مثل المادية الجدلية. فهذه بخلاف أوهام أصحابها أكثر ميثولوجية من الأديان. فما تنسبه الأديان إلى ما يتعالى على الطبيعة تنسبه هي إلى الطبيعة دون أن تبين طبيعية العقلي في المادة بغير مجرد الاعتقاد اللاواعي.
    فمادية النظام في المادي أو ما في الشكل من المضمون أو ما في القانون مما هو له قانون “سر” يصعب جعله من جنسه. والميثولوجيات والأديان أكثر منطقية في الفصل بينهما وجعلهما عالمين مختلفين حتى وإن أبقت العالم الشكلي تعليلا غائيا من طبيعة مختلفة مجهولة في الغالب فلا تردها تحكميا إلى المعلوم.
    وخرافة وحدة الوجود لا تنفي تعدد المقومات التي تزعم واحدة لأن مجرد التمييز بين الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة لتأسيس ما يعتبر على ذاته -كاوزا سوي-من أكثر المفهومات اسطورية في الفلسفة أو التصوف اللذين يزعمان نفسيهما بديلا من الدين حتى في شكله الأكثر بدائية أو الميثولوجيا.
    فما هو معلوم هو الفرق بين الأمر الواقع في المضمون والامر الواجب في الشكل إذ مهما فعلنا فلا يمكن رد أي مضمون لشكله القانوني ولا يمكن اعتبار شكله القانوني مجرد كائن ذهني وإلا لصارما في الأذهان هو المحرك لما في الأعيان. فقوانين الطبيعة التي أعلمها لا تحرك الطبيعة وإن عبرت عن نظامها.
    فإذا اعتبرتها “كائنات” فعلية غير التي في ذهني كانت عالما آخر غير ما في ذهني وغير ما في خارجه وهي إذن ما تصورته الميثولوجيات نظاما ربوبيا متعاليا وإن قاسته على النظام الإنساني كما في الميثولوجيا اليونانية. لكن الأديان المنزلة تتكلم عليه مثل الميثولوجيا مع احتراز ليس كمثله شيء.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي