أشرت في ما توقعته إلى أن اليسار الاستئصالي في النداء والاتحاد وحولهما يمكن أن يتصورا أن الفرصة سانحة لتحقيق ما فشل فيه بورقيبة وابن علي أعني سياسة تجفيف المنابع والاستفادة من وضع المنطقة والأحلاف بين الأنظمة العميلة والغرب لاجتثاث ما يسمونه بالإسلام السياسي لكأنه يمكن أن يوجد إسلام ليس له مشروع سياسي بل ودين ليس له مشروع سياسي أيا كان بما في ذلك الدين القائل بقسمة الإنسان إلى العبودية القيصرية والعبودية الكنسية: فهذا أيضا مشروع سياسي مبتغاه الفصام بين عبوديتين عضوية للقيصر (العجل الذهبي) وروحية للبابا (نائب المسيح الدجال).
لكني سبق أن أشرت كذلك إلى وجوب شكر الثورة المضادة لدورها التحفيزي للثورة أو لدور الكاتاليزور: فهي بتهورها وبغباء النخب المستلبة ستكون الحافز الحقيقي للثورة التي ما زلنا في بدايتها لأن الشعب لم يقتنع بعد بالطابع المستبد والفاسد لورثة الاستعمار.
إن ما يطمع الثورة المضادة ونخبها في النجاح هو تصورهم الإسلاميين لم يتجاوزوا الثقافة التقليدية التي كانت لأجدادهم عندما حرروا الأقطار العربية والإسلامية ليستحوذ عليها عملاء الاستعمار بسبب توليته لهم وبسبب سبقهم في الحصول على الثقافة الحديثة المتنصلة من قيم الذات ومن عزتها. لكنهم صاروا الآن جامعين بين الثقافتين في ما تشتركان فيه من قيم سامية تحرر الإنسان وتكرمه دون أن تلغي التعدد الحضاري والتنوع الثقافي فلا تتصور النموذج الغربي مطلق الكمال.
سمعت في تصريحات ثلاثة من زعماء النداء–ثلاثتهم دخلاء على الدستوريين وهم في العادة مجرد مزينات لخطة السبسي كما كانوا في خطة ابن علي بما لهم من ولاء معلوم لو كانوا يعلمون: أي مجرد طبالين أو أبواق دعاية كاذبة لزايف التحديث- ما يفيد أنهم يهددون المعارضين عامة والإسلاميين منهم خاصة بالويل والثبور وعظائم الأمور. وليعلموا أن ذلك ليس دليل قوة ولا حكمة بل دليل ضعف وغباء: فعامة الشعب بعد الثورة لم تعد تخشى أحدا ناهيك عن الإسلاميين الذين صارعوا الاستعمار وعملاءه طيلة قرنين. وإذا كانوا يتصورون صولات العهد السابق ما تزال ممكنة فهم على وهم كبير.
الإسلاميون جنحوا إلى السلم ولا يريدون الصدام مع أحد ولن يفرض عليهم أحد اللجوء إلى التطرف حتى لو اختلقوة لإلصاقه بهم لتيسير ضربهم دوليا لأن خيارهم الديموقراطي والسلمي هو الأنسب لاستراتيجة التحييد السلمي لمن لا وجود لهم إلا بالحلف مع الاستبداد والفساد ومستعمر البلاد. ولولا شبكات التجمع والتحالفات في المنطقة والغرب لما أمكن لهم أن يخرجوا من منطقة صفر فاصل بل لو كان قانون الانتخاب على الأشخاص لما نجح واحد منهم لأن الشعب يعرفهم ويعرف ماضيهم.
وطبيعي أن تكون عودتهم إحدى ثمرات الأزمات التي تلت بداية الثورة والتي كانت بالأساس بسبب التخريب النسقي الذي مارسته الثورة المضادة ليس بعد الثورة فحسب بل وخلال حكمهم الأوطان مع الاستعمار المباشر وبعده بالاستعمار غير المباشر. وكل التجارب تبين أن انتكاس الثورات وارد لكنه ليس دائما.
عودتهم إذن طبيعية: وهي مطلوبة من أي ثوري حقيقي يريد تجذير الثورة لأنها ستبين للشعب أن “ذيل الكلب” يبقى معوجا بعد بقائه في القصبة أربعين سنة وهم قد بقوا في القصبة ستين سنة وعادوا إليها ليثبتوا هذه الحقيقة التي هي من الحكم الشعبية.
أما إذا استقاموا فنحن لا نريد إلا الخير لجميع التونسيين. ونأمل أن يكون هذا الثالوث اليساري في النداء (الأمين العام وقائد الحملة والناطق الرسمي) غير ممثلين للتيار الغالب فيه وإلا فإن مصيرهم سيكون أسوأ من مصير ابن علي في الموجة الثانية من الثورة التي ستكون بسبب تهورهم ولن ينفعهم عندئذ اختلاق موجات الإرهاب التخريبي لأن الشعب يكون قد فهم اللعبة ولن تنطلي عليه مرة أخرى.
وهذا الكلام موجه لكل التونسيين الذين يريدون ألا تدخل تونس في صدام لا تطيقة بسبب سخف بعد القيادات التي تعيش نشوة انتصار شديد النسبية إذا نظرنا إلى كل من كان معهم في الداخل والخارج أعني كل أدوات الاستبداد والفساد. فبهذا المعنى هم قد انهزموا لو كانوا يعلمون. وقد أعذر من أنذر.