ه
هذه محاولة استكمل فيها الكلام على ما يجري حاليا في اقليمنا دون اقتصار على مجريات الحصار الأمريكي لإيران في الخليج ولروسيا في أوروبا مع حرص أمريكا وإسرائيل على المحافظة عليهما. هدفي تجاوز تعليل ما كتبته إلى بيان الرؤية التي أنطلق منها بمنظور ابستمولوجي (نظرية المعرفة) وأكسيولوجي (نظرية القيمة).
ولا أستطيع تحديد فصول المحاولة مسبقا فقد تقف عند هذا الفصل وقد تمتد إلى أكثر. ولذلك فسيكون كل فصل مستقلا عن الذي يليه بخلاف طريقة المجموعات السابقة إذا تجاوزت هذا الفصل.
ويمكن من الآن تحديد الهدف من المحاولة. إنها تتمثل في شرح دلالة عنوان هذا الفصل. فما معنى: التوقع الاستراتيجي فرع من فروع البحث العلمي في التاريخ؟
وفيه مسألتان:
• معنى البحث العلمي عامة وهو يتحدد بخضوع موضوعه للضرورة الطبيعية
• ومعنى البحث العلمي في التاريخ خاصة وهو يتحدد بكلامه في موضوع لا يقبل الرد إلى الضرورة الطبيعية رغم أن عمليته مشروطه بهذا الاخضاع بنحو ما أو بالسنن التي لا تتبدل بلغة القرآن.
ولو لم أكن قد درست القانون فاكتفيت بالفلسفة وحدها ولو لم أكن قد درست الابستمولوجيا اليونانية عامة الاقليدية والأرسطية خاصة لعقود لاستحال علي الكلام في المسألة وخاصة مواصلة كلام المدرسة النقدية العربية (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون) فيه والسعي لتجديد ما اعتبره من إبداعاتها المنسية أو المهملة.
فالبحث العلمي في أي مجال أشبه ما يكون بوظيفة تجمع بين وظيفة القضاء ووظيفة المشرع أو بوظيفة القضاء الذي وصل إلى مستوى القضاء العالي والتعقيب الذي تكون أحكامه قضائية وتشريعية بالسوابق النموذجية لأنها جامعة بين نقد التكييف القانوني السابق ووضع تكييف لاحق قد يصبح تشريعا بديلا.
فيكون كل علم ذا علاقة بأحداث موضوعه (هي الموضوع أو أصل النزاع) وبتكييف قانوني سابق إما موجود أو معدوم (هو الأدبيات في المجال أو أصل الحلول التي لم تعد كافية). ومن ثم فالبحث هو إرجاع الأحداث إلى بكارتها بوضع التكييف السابق الموجود أو المعدوم موضع سؤال طلبا لتكييف بديل يكون أكثر مناسبة لما ينبغي علاجه مما لم يعد التكييف السابق كافيا لتفسيره.
وهي إذن عملية هدفها الاقتراب من التطابق بين الأحداث والأحاديث في ما سميته الزمان التاريخي المخمس إذا اعتبرنا الحاضر قلبا للتاريخ. فقبله بعدان هما أحداث الماضي الحاصلة فيه وحديثه الباقي في الحاضر. وبعده بعدان هما أحاديث المستقبل الحاصلة في الحاضر وأحداثه المتوقعة في المستقبل. وليس بالصدفة أن كان زعماء المدرسة النقدية العربية ثلاثتهم من كبار الفقهاء والفلاسفة. ولأجل فهمهم درست القدر الذي أحتاج إليه من القانون وفلسفته.
وأبدأ الآن بشرح مراحل البحث الذي قدمته في فهم ما يجري حاليا في ما يظن حصارا أمريكيا لإيران أو ما يتوهم المعلقون والحكام العرب أنه حرب عليها وليس عناصر من مفاوضات جارية للدور الجديد المطلوب منها-في الاتفاق البديل من اتفاق النووي- ليس في الإقليم وحده بل في كل المعمورة تماما كالدور المطلوب من روسيا رغم أن الحصار عليها دون الحصار على إيران صرامة بسبب التناسب بين القوى.
ولا أنفي أن كل التوقعات والمستقبليات تعبر-إذا نظرنا إليها في المطلق-عن آمال صاحبها أكثر مما تعبر عن حقائق موضوعية. لذلك فلست أنزه رؤيتي عن كونها تتصف بهذا الطابع. لكن يوجد أمران يمكنان من التمييز بين الأماني والآمال. وهما صفتا البحث العلمي الذي هو دائما توقع يتعلق بالمستقبل فيستنتج المنشود من الموجود.
والأمران هما ما يمكن أن يرد إلى صفة الباحث وصف علاقة أسانيد استنتاجاته بموضوع البحث. فالباحث الذي يستنتج ما يتوقعه يمر بما يشبه التخفف من الاطمئنان لأحوال نفسه التي تجعله يقتصر على ما يؤيد ما يتمنى ولا يبدأ بما يعارضه فيكون منطلقه النقد الذاتي لكل ما يتفق معه ما يميل إليه لمحصه.
أما ما يعود إلى الموضوع فهو في الحقيقة يعود إلى منظومة الرؤى السائدة في مجال البحث أو الاختصاص وتلك هي علة كل بحث ينطلق من الأدبيات المتعلق بالموضوع لاكتشاف الثغرة التي تعلل البحث من أصله. ذلك أنه لو لم يكن في الادبيات ما يدفع إلى مزيد البحث لما وجد المشكل: العلم حوار دائم.
وفي حالتنا المشكل هو ما يمكن أن نتوقعه إذا انطلقنا من مجريات الاحداث التي تلت جملة الإجراءات التي اتخذتها أمريكا من أجل هدف لم تخفه: تغيير مضمون الاتفاق النووي مع إيران وليس الاستغناء عن اتفاق معها ما يعني أن أمريكا من البداية لم تشر أبدا إلى أنها تنوي الإطاحة بالنظام ولا الحرب.
وقد استنتجت من ذلك أن أمريكا اختارت الحصار الاقتصادي وأيدته بالحصار العسكري بعد أن بلغ الأول درجة لم يعد بالوسع حمايته بغير الاستعداد لما قد يؤول إليه من يأس عند المحاصر فيغامر. فيكون الحصار العسكري ليس القصد منه الحرب بل منعها بالردع الجاهز. وتلك هي المعطيات المحددة للتوقع هنا.
ولذلك فالأدبيات التي ينطلق منها البحث هي ما أوصلتني ثغراتها إلى أن هذه المعطيات غائبة في تحليلات أصحابها وغير معتبرة فيها وأن المحللين يلا يعبرون عما يترتب عليها بل على أحوال العرب النفسية-أي الخوف والاعتماد على وعود إسرائيل وترومب بأنهم سيحمونهم-لكأن أمريكا وإسرائيل مرتزقة لدى الحمقى من أمراء الخليج. والمحللون الذي ينطلقون من هذه الرؤية إذا لم يكونوا مخادعين لهؤلاء الحمقى فهم أكثر حمقا منهم.
كما أن “تضخيم” منزلة القضية الفلسطينية في الأحداث الدولية جعلت قراءة الأحداث تقلب نظام العلة والمعلول فينسون أن وعد بلفور -وهو صفقة بداية القرن الماضي التي هي جنيسة لما يسمونه صفقة القرن الحالي-كان ثمرة لصفقة أكبر تنتج عنها آليا. وكان إذن لا بد من البحث عن صفقة قرن ثانية مماثلة وأعم وهي التي ترجع القضية الفلسطينية إلى ثمرة تتلوها مباشرة وليست صفقة مستقلة عنها.
الفرضية في كل تحليلاتي هي هذه الصفقة الأصلية وليس صفقة فلسطين. وهي ليست من عندي: فهي عين ما يسمونها إعادة ترتيب وضع الشرق الأوسط الكبير وأصدروا حولها خرائط وشرعوا بعد في إيجاد شروطها بتوظيف إيران وروسيا والثورة المضادة العربية والمقاومات المخترقة بالدعشنة ما لا يحتاج إلى تذكير لأن المجريات بينة للجميع.
لكن هذه الفرضية لا يمكن أن تكون أصلا أولا لما يجري لأنها رد فعل على شيء هو الذي لأجله وضعت هذه الخطة لمنعه أو للحيلولة دونه وهو ما ينبغي اعتباره الأصل الأول. فالأصول متراتبة. وطلبه يقتضي الجواب عن السؤال التالي: ما الذي يجعل الغرب عامة والصهيونية في بداية القرن الماضي وأمريكا والصهيونية في بداية القرن الحالي يخططون لهندسة شرق أوسط كبير وفيه هذه الأدوار التي وصفت؟
هنا قد يعتقد القارئ بأني أضع “آمالي” منطلقا للتعليل فاعتبر ما يجري علته ما سميته في محاولة الأمس بالاستئناف الممكن للأمة الإسلامية وعلاقته بالاستئناف الحاصل لأمم الشرق الأقصى وخوف الغرب من المستقبل خاصة في القرن الحادي والعشرين مثل خوفه من الماضي في القرن العشرين دافعين لما يجري.
ماذا أعني بالخوفين؟ سايكس بيكو الأولى كانت ناتجة عن الحسم مع ما كان يخيف الغرب في الماضي أعني عدم نسيانه لـدور الإسلام في القرون الوسطي دوره الذي كانت الخلافة ما تزال رمزا حيا منه حتى وإن كانت في وضع الرجل المريض. كان الخوف من أن يستأنف دوره خاصة وقد بدأ يتحالف مع قوة أوروبية مقهورة هي ألمانيا.
فالمعلوم أنها لم تنل حظها من استعمار العالم الذي تقاسمته القوى الأوروبية التي سبقتها في التحديث بأربعة قرون على الأقل. فتحديث ألمانا تأخر ولم يصبح بينا فعلا إلا في نهايات الثامن عشر وخاصة بعد توحيدها في منتصف القرن التاسع عشر. وكانت الخلافة شبه منهارة وحاولت ألمانيا التعاون معها للوقوف أمام روسيا خاصة التي كانت تطمع في حيازة ما بينهما أعني البلقان وما بقي من الامبراطورية النمساوية-المجرية.
لكن سايكس بيكو الثانية التي يخططون لها بمفهوم الشرق الأوسط الكبير فعلتها ليس الماضي وأحاديثه بل المستقبل وأحداثه. لم يعد الخوف من الاستئناف وحده بل من أحد أمرين: إما حصوله والخوف يكون أكبر لاجتماعه مع استئناف الشرق الأقصى أو مقاومته للغرب وعملائه التي ستحول دون الاستعداد للتصدي للشرق الأقصى بحيازة ما فيه.
وبذلك يزداد البحث عن الفرضية التي تعلل ما يجري تعقيدا. وليس ذلك لتحكم مني: فقد قارنت بين ما حدث في القرن الماضي حيث كان العلاج يعتبر في نظر الإمبراطورية البريطانية والصهيونية ختما لعلاقة ماضية بالمشرق الإسلامي-كما قال الجنرال الانجليزي الذي خاطب صلاح الدين في دمشق- قبل أن يبرز دور العدو الثاني الطاغي حاليا أي الشرق غير الإسلامي.
وصار الأمر متعلقا ليس بحسم الماضي فهو قد حسم لغير صالح الغرب حتى بالنسبة إلى دار الإسلام فضلا عن النسبة إلى الشرق الأقصى. أصبح المشكل متعلقا بالمستقبل مع الاثنين وخاصة في ظرف العولمة بمعنى أن كل الامبراطوريات الغربية ومعها الصهيونية صارت واحدة وترى نفسها مهددة من بقية العالم وفيه خاصة طرفان كبيران يختلفان عنهما حضاريا: الشرق الأقصى والإسلام.
ودار الإسلام والإسلام ليس معدودا من الخطر الحاصل بل من الخطر ممكن الحصول -إلا في أذهان الحمقى من العرب وخاصة ممن يدعون الحداثة منهم-حتى لو لم ينهض كما نهض الشرق الأقصى لأن مقاومته تحول دون الاستعداد الحقيقي للتنافس الناجح مع الشرق الاقصى إذ إن السيطرة عليه شرط للفوز في المعركة ضده بسب ما فيه وبسبب موقعه الاستراتيجي في المعمورة.
فيترتب على ذلك الاستراتيجية الغربية الحالية أو الامريكية الصهيونية: لا بد من جعل المسلمين يتآكلون في ما بينهم حتى يسهل دفعهم للقبول بالحماية الأمريكية الإسرائيلية وهذا يقتضي فضلا عن دخول السنة في حرب أهلية تخويفهم بغولين هما إيران وروسيا والمحافظة عليهما إلى أن تتحقق المهمة.
فينتج من ثم أن أمريكا وإسرائيل أشد حرصا مما يتوهم الكثير على بقاء إيران وروسيا في هذا الدور إلى أن يصبح كل المسلمين وخاصة قواه الكبرى -العرب والاتراك والهنود المسلمين-توابع بنيويا وييأسون من كل إمكانية للقيام الذاتي-وحينها يسهل التخلص من إيران وروسيا لأنهما سيكونان تابعين أيضا.
طبعا لا أزعم أن فرضيتي هذه حقيقة مطلقة بل هي الحقيقة التي أرجحها بالأدلة المقنعة كالحال في كل فرضية علمية وأحداث المستقبل في هذه الحالة هو الحكم على أحاديثه مثله مثل التجربة في العلم. فهذه الفرضية تبدو لي الأرجح لفهم ما يجري: ذلك أن ما تقوم به إيران وروسيا في الإقليم لا يمكن اعتباره ناتجا عن عجز أمريكي إسرائيلي -وخاصة روسيا التي هي نظام مافيات تحكمه الصهيونية العالمية أكثر مما تحكم أمريكا-بل هو مسموح به ولعله مأمورا به.
وما يدل على أنه مأمور به بين لكل من له بصيرة. أليست الإمارات هي التي تمول حملة بوتين في سوريا؟ وإذن فـمن يعتقد أن الإمارات تضع خيطا في إبرة من دون أوامر أمريكية إسرائيلية لا بد أن يكون إما ساذجا أو مصدقا أن ما يدفعونه بدعوة اختراق الإدارة الأمريكية يجعل الإمارات آمرة وأمريكا مأمورة.
فمن مستشاره بلار لا يختلف عمن كان مستشاره لاورنس العرب. ويخطئ خطأ فادحا من يظن عرب اليوم أفضل من عرب الأمس وأنهم ليسوا مثلهم مجرد أدوات لنفس خطة القرن الماضي ولكن في طبعة ثانية هي سايكس بيكو الثانية في القرن الحالي أعم من الأولى لأن العالم صار واحدا وذلك من أجل حسم ا لصراع حول نظام العالم الجديد.
وبذلك وحده أفهم خيار أمريكا واسرائيل الاستراتيجي. فاستراتيجية العقوبات والحصار الاقتصادي المشفوع حاليا بالحصار العسكري يمكن أن يغير إرادة من يبدو خصما فيجعله مشاركا في خطة مستقبلية وتلك علة المحافظة عليه وعدم محاربته لأن الحرب الحديثة إن حصلت لن تبقى ولن تذر. وإذن فالغاية من الحصار هي المحافظة على إيران وروسيا (علما وأن نفس الخطة تطبق على روسبا وقد بدأت بها قبل إيران لكن المحللين العرب صم بكم عمي فهم لا يعقلون) لأنهما أداتا هذه الاستراتيجية العالمية.
لا تريد أمريكا وإسرائيل خسران الحد الفاصل بين الشرق الأقصى الذي يهدد سلطانهما على العالم والشرق الأوسط الكبير الذي يمثل فرصتهما للتمكن من أداة خنق الشرق الاقصى باستتباعه بنيويا وبمنع طموح أهل دار الإسلام للتحرر والنهوض ربما مثل الشرق الاقصى ما يجعل دور المسلمين يستأنف بصورة تضاعف الخطر على سلطانهما.
فأين يكمن ما يمكن أن يعتبر خلطا بين الأمل والأماني في فرضيتي؟
في وجهين:
- الأول اعتقادي -وهو اعتقاد وليس علما-بأن الإسلام بحد ذاته لا يمكن أن تبقى حضارته منحطة بل هو موعود من ربه بالعزة ومن ثم فالاستئناف يبدو لي أمرا لا مرد له. ومرة أخرى هذه عقيدة وليست علما. آمل وأتمنى تحققها.
- والثاني هو مضمون رسالة أوجهها إلى المسلمين والغربيين كذلك. فلا ينبغي لهما أن يظلا حبيسي الماضي وعليهم أن ينسوا حزازات التاريخ الوسيط وتغيير أحاديثه المؤولة لأحداثه من أجل المستقبل لأن أصلي حضارتهما واحدان الأديان المنزلة الشرقية والفلسفات اليونانية. وإذا فعلوا فسيصبحان حليفين لتحقيق التوازن والتآخي البشري في العالم بدلا من مواصلة اعتبار كل من يتحرر عدوا بمن في ذلك الشرق الأقصى.
وهذا الوجه الثاني هو الذي تغلب عليه الأماني. لكنه من منظور إسلامي خالص هو الواجب بمقتضى النساء 1 والحجرات 13. أما من منظور إسلامي مشوب بـانحطاط فكر الأمة ومن منظور غربي مشوب بانحطاط فكر الحداثة الذي فقد قيمه فحافظ على حقد القرون الوسطى على الإسلام أو عاد إليها أما هذا الوجه الثاني فلسوء الحظ ما يزال مجرد تمن: فكلاهما لا ينفك يتكلم على الحروب الصليبية ولا يريد الالتفات إلى المستقبل.