التواصل، تأصيل مفهومه أصلا وفروعا – الفصل الثالث

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله التواصل

“التسمية” أو وحدة الوظيفة التواصلية وراء تعدد الألسن

رغم كل الاعتراضات على الترجمة فإن وجودها أمر لا شك فيه. ومجرد إمكانها دليل على أن المترجم خلال انتقاله من لغة إلى لغة لا يكون فكره في أي منهما بل يكون في محل مختلف. ولا يمكن أن يكون لغة ثالثة لأن المشكل حينها يبقى نفس المشكل: أي يكون المترجم لما ينتقل من نظام اللسان المنقول منه إلى نظام اللسان المنقول إليه. وإذن فللإنسان عامة قدرة على أن يكون في محل متعال على اختلاف الألسن وهو إذن محل غير لساني يمكن من قيس عالم اللغة التي ينطلق منها في عملية الترجمة إلى علام اللغة التي يصل إليها. وإذن فإمكان التواصل بين البشر يفيد أن وراء اختلاف الألسن محل ما يوحد بين اللغات سأسميه وظيفة التسمية التي هي جوهر قدرة الترميز عامة أو “علم الأسماء كلها”- بالمصطلح القرآني- وراء تعيناتها الصوتية والإشارية في عمليات تواصل متقدم على التعين في الألسن المختلفة ومتحرر مما تتمايز به أي من التنوع الصوتي وما يطرأ عليه من تصوير ليكون حاملا لهذا التواصل الشارط للترجمة والتفاهم بين أصحاب الألسن المختلفة. ومعنى هذه الفرضية أني أطلب أمرا تعتبر اللغات لهجات بالقياس إليه دون أن يكون هو لغة أصلية ذات تعين صوتي محدد كما في أسطورة بابل بل الصوت فيه ليس هو إلا تعين بنية مجردة في مادة ما دون أن يكون لتلك المادة صلة جوهرية بها لأنها قابلة لأن تكون أي مادة تعينها. والمعلوم أن أرسطو كان يميز الفيزيائي بامتناع الفصل بين بين الصورة والمادة. فالصورة الطبيعية لا تتعين في أي مادة اتفق بل هي غير قابلة للفصل عن مادة معينة. وانطلاقا من هذه الخاصية ميز بين المفهومات الرياضية التي يمكن تصورها حالة في اي مادة والصورة الطبيعية التي لا تحل في أي مادة اتفق بل إن مادتها مقومة لها. ومثاله المعتاد هو المقابلة بين الفطوسة التي لا تقبل الفصل عن الانف والدائرة التي تقبل الفصل عن أي مادة نتخيلها حالة فيها. وإذن فعندي -إذا قبلنا بهذا التمييز الأرسطي-أن تعين القدرة الترميزية أو قدرة التسمية (وضع اسم لمسمى يكون ممثلا له) هي من جنس المفهومات الرياضية لا الطبيعية. وإذن فسأقيس ذلك على علاقة أي بنية نظرية على تعينها في مادة ما كالحال في لعبة الشطرنج التي يمكن أن تتعين في أي مادة شئنا وحتى في مجرد أسماء القطع مكتوبة أو مرسومة على ورقات توضع في خانات الرقعة ويتم تحريكها بحسب حدودها وقوانين اللعبة. وهنا لا بد من العرفان للخليل بن احمد الفراهيدي. فهو وضع نظرية المعجم بالتمييز بين الاصوات وتواليفها ووضع نظرية البحور الشعرية بالاقتصار على مدد التصويت وإيقاعها من حيث الطول والقصر دون اعتبار للمادة ففصل بين المادة والصورة وجعل دراسة وظيفتي اللسان مختلفتين إذ فصل صورة التصويت للشعر دون اعتبار للمادة واعتبر مادة الالفاظ غير قابلة للفصل عن صورتها في المعجم. وإذن فاللغة تجمع بين نوعي العلاقة الارسطية: فهي من جنس الظاهرات الطبيعية كأصوات ومن جنس الظاهرات الرياضية كإيقاع بصرف النظر عن المادة الصوتية. وما أضيفه لتجاوز الفراهيدي للتمييز الارسطي في كلامه على البحور الشعرية هو أن المعجم نفسه يمكن إذا رددناه إلى سر تكون اللغات قابل للفصل عن المادة الصوتية. فيكون اختلاف الأصوات في الألسن مجرد اختلاف في تعيين محايد للأسماء يقبل التعدد لهذه العلة مثل تعدد مادة قطع الشطرنج ولا يكون تنوعه مفيدا أدنى تعدد في وظائف الإفادة الرمزية بالألسن. وهذا الواحد اللساني وراء اختلاف اللغات بالأصوات هو التسمية الترميزية الممثلة للعلاقة بين الأسماء والمسميات منظومة هذه الوظائف بوصفها عين القدرة الترميزية الواحدة لدى الإنسان رغم تعدد الألسن من حيث الخصائص الصرفية والنحوية للمادة اللسانية المؤدية لهذه الوظائف (كأي مادة تتعين فيها قطع الشطرنج). ومعنى ذلك أنه يمكن أن نعوض الصوت بالصورة تعويض السمع بالبصر في التواصل اللساني دون أن يغير ذلك شيئا منه. وهو ما يبين أن التنوع الصوتي في اللغات ليس مهما من حيث وظائف اللسان التي يمكن أن تؤديها الصورة بدلا من الصوت إذا حددنا هذه الوظائف. فيمكن أن نجعلها قابلة للتحقيق بطريقة بصرية بدلا من الطريقة الصوتية فيصبح العرض المسرحي الصامت للوظائف ممكنا. ولولا ذلك لاستحال أن توجد لغة الإشارة التي تستعمل للصم بشرط أن يكون ما يشار إليه حاضرا على ركح العرض المسرحي. فهل توجد لعبة لسانية كلية وراد تعدد الالسن-مثل لعبة الشطرنج-تشمل كل اللغات شمول اللعبة لكل تعينات قطعها المادية فتتجاوز التعين الصوتي إلى الواحد في اللساني تجاوز لعبة الشطرنج للتعين المادي في أي مادة تتعين فيها قطعها؟ وما هو هذا الواحد اللساني قياسا على الواحد في لعبة الشطرنج عندما نجردها من المادة التي تتعين فيها القطع؟ فرضيتي أن ذلك موجود لأنه شرط التواصل وشرط الترجمة. والمشروط موجود لا شك فيه ومن ثم فالشرط لابد أن يكون موجودا. وسأحاول بيانه قدر المستطاع: 1. فهل يوجد هذا الواحد أولا 2. وما هو ثانيا؟ 3. وما القطع المجردة ثالثا أعني ما تعريفات عناصرها كلعبة تؤدي هذه الوظائف وما قوانين دورها في اللعبة؟ 4. وهل يمكن رابعا ان نثبت ذلك استقراء فنحدد بعض هذه القطع أمثلة من عناصر نسقها الممكن والذي يمكن أن نصل إليه في الغاية؟ 5. وأخيرا ما طبيعة هذا الواحد الذي هو من جنس بينة القواعد والقوانين التي هي الواحد في لعبة الشطرنج وكيف نحدد نسقها الجامع المانع؟ ولأبدأ فاستبعد خطأين ممكنين في الجواب عن هذه الأسئلة: 1. فما أطلبه ليس المنطقي وراء اللغات الطبيعية كما في رأي الفلسفة الوسطية وما قبلها. 2. ولا هو المنطقي وراء اللغات الرمزية الاصطناعية وكما في راي الفلسفة الحديثة وما بعدها. بل هو متقدم على معنيي المنطق ونوعي اللغة لأنهما هما بدورهما متعددان. فأي شيء آخر هو إذن إذا لم يكن المنطقي في نوعي اللغة والسيميوتيكي في الأشكال الرمزية التي يعتمدها المنطق في نوعي اللغة؟ سأفترض النموذج التالي للعبة التي اطلبها للدلالة على الواحد وراء تعدد الألسن بتعدد تعين الوضعيات التي يتعين فيها نموج اللعبة التواصلية بالسمع أو بالبصر انطلاقا من التواصل الحي الذي يكون فيه فعل الترميز مصحوبا بما يتعلق به الترميز والذي بالتدريج يصبح قابلا للانفصال عما يتعلق به الترميز بوظيفة تعويض الاسم للمسمى واستغنائه عن حضوره الفعلي في عملية التواصل. 1. فلا بد من مرسل فعلي أو فرضي. 2. ولا بد من مرسل إليه فعلي أو فرضي. 3. ولا بد من موضوع موجود أو متخيل يدور حوله التواصل حتى لو كان التواصل نفسه كما يحدث عندما يستوضح أحد المتواصلين من الثاني قصده. 4. ولا بد من جماعة معينة تكون أرضية لهذا التواصل بينهما بذلك التعين معنى متعارفا عليه بين أفرادها بحسب أصناف التواصل. 5. ولا بد من جماعة مجردة تتساوى فيها التعينات في ما يتعلق بالوظيفة التواصلية التي يتناظر فيها لا تناهي أشكاله اللغوية التي تلتقي في وحدة اللسان من حيث هو تواصل بالسمع قابل لأن يكون بغيره وخاصة الإشارة التي هي سلسة من الصور مثل اللغة التي هي سلسلة من الأصوات. وفي الحقيقة فاللغة الطبيعية ليست سلسلة من الأصوات فحسب بل هي كذلك سلسلة من الإشارات غير الصوتية تصحب التصويت مثل النبرة والإيقاع وخاصة عبارة جسد المتواصلين المرسل والمتلقي. وحتى يتحقق ذلك لا بد من تغيير نظام العناصر التي تتألف منها اللغات عامة أعني البنية المثلثة التي تميز بين الفعل والاسم (أفلاطون يقتصر عليهما) والحرف بمستوييه وصلا بين الفعل والاسم المفردين أو بين مؤلفاتهما في الكلام لنعود إلى أصل واحد لهذه البنية المثلثة والتي بمجرد وضعه تصبح اللغات التي هي تعينات الوظيفة اللسانية مؤلفة من أصل وأربعة عناصر: 1. الأصل في التواصل فعل توجيه الانتباه بين المتواصلين لما يدور حوله التواصل إذا كان حاضرا أو إلى ما يرمز إليه إذا كان غائبا وهو تعبير صوتي أو إشاري. 2. وفرعه الأول صوت يصبح معين تسمية الأشياء. ومثاله اسم الصوت الذي يسمي نفسه ثم يصبح اسما لصاحبه: السمع والموسيقى 3. فرعه الثاني التصويت معين تسمية الأفعال. ومثاله اسم الفعل الذي يرسم مسماه ثم يصبح اسما للفعل: البصر والرسم 4. أثر الفرع الأول في الفرع الثاني: الاستعارة لتسمية الأشياء. 5. أثر الفرع الثاني في الفرع الأول: الكناية لتسمية الأفعال. ويمكن تعميم المعينين اللذين يستمد منهما تسمية الأشياء والأفعال: فاسم الفعل مثال من الترميز برسم وضعية حسية تكون اسما لفعل مجرد يتعين مدلوله برسم يدركه البصر كصورة ممثلة للدلالة المجردة: مثل ذلك “يقدم رجلا ويؤخر أخرى” يستعمل اسما لفعل “تردد”. واسم الصوت مثال من الترميز بصوت محسوس يصحب تعبير جسدي يكون الاسم هو عين المسمى: مثل “صه” أو “أشت” بمعنى أمر السكوت من المتكلم للمخاطب. ولا يكون الأمر كذلك إلا بافتراض تقدم البلاغي على اللساني أصلا لوجود اللغات بخلاف التصور المعتاد بافتراض اللساني أصلا للبلاغي: البلاغي هو الذي ينبغي اعتباره اصلا للساني. فالاستعارة (لاسم الصوت) والكناية (لاسم الفعل) هما أصل الرمز اللساني: فهما نوعا التسمية لتسمية الأفعال الدالة على المختصين بها ولتسمية الافعال المجردة لماذا يصبح الواحد وراء الألسن متعددا بمجرد تعينه في الألسن المختلفة؟ وما علاقة التعينات اللسانية وخصائصها الثقافية بهذا الواحد البلاغي المتعالي عليها شرطا في إمكان تواصل أصحابها بل وحتى تواصل المنتسبين إليها؟ أليس كل متكلم بلغة نفترضها واحدة في جماعة ثقافية معينة يختلف عن غيره من المتكلمين بنوعين من الاختلاف يفرضان هذا الواحد ليكون التواصل ممكنا بينهم بما هم تلك الثقافة لتجاوز الفروق الثقافية في حدود تلك الثقافة ثم بما هم مشتركون في هذه القدرة الترميزية التي تجعل التواصل ممكنا؟ وإذن فعندنا خمسة عوالم: 1. عالم التجربة الحسية. ولا يوجد تطابق بين ما يحسه زيد وما يحسه عمرو حتى من نفس الثقافة. 2. لكننا نفترض وراء التجارب الحسية عالما موضوعيا هي ما تدركه الحواس وما يؤسس للتفاهم بين الحاسين حول ما يحسون رغم استحالة التطابق بين ما يحسيه زيد ما مع يحسه عمرو: وذلك هو شرط التواصل بين الناس بل وحتى بين الشخص وذاته عندما يتذكر أو يتوقع “نفس” التجربة. ونحن نفترض ذلك العالم الموضوعي موجودا رغم أننا لا نعلم نوع العلاقة بينه وبين المدارك الحسية. 3. وعالم التصورات التي يدركها بها عقلنا عندما نناقش العلاقة بين مدراكنا الحسية ومدراكنا العقلية للعلاقة بين التجربة وما افترضناه من عالم موضوعي وراءها خارج الأذهان. 4. ونفترض وراءها عالما موضوعيا هي ما يدركه العقل من علاقة بين عامل الاذهان وعالم الاعيان وهو غيرهما. وقد سماه أفلاطون عالم المثل ونحن نسميه عالم القوانين الرياضية للعالم الطبيعي. 5. وأخيرا فلا بد أن يوحد بين التجريبيتين والعالمين الأعيان والأذهان في مستوى التصورات والمعقولات عالم متعال على العالمين ونوعي الأدراك. وهو الذي يوحد بين البشر في كلامهم على العوالم الأربعة السابقة. فتكون العوامل خمسة وهي شروط التواصل والترجمة بين الذات وذاتها وبين الذوات وبين الألسن وبين الموجودات: 1. عالم المحسوسات 2. عالم طبيعي مفترض وراءها 3. عالم التصورات 4. عالم عقلي مفترض وراءها 5. عالم لا ندري طبيعته هو ما يتوجه نحوه الذهن ليفهم العوالم الأربعة السابقة وهو ما يتعالى على الثقافات المختلفة. وهذه العوالم الخمسة هي ما حاولنا بيانه بنظرية المعادلة الوجودية التي هي في آن بنية كيان الإنسان والتي هي في آن بينة كل الوجود في نسبته إلى الوعي الإنساني بوصفها أبعاد كيانه وأبعاد الوجود المحيط به والذي لا يستطيع منه فكاكا وهو في آن كيانه وجوهر التواصل بين القطبين (الله والإنسان) والوسيطين (الطبيعة والتاريخ). كل إنسان عينة من الوجود كله على الاقل في شكله الرمزي الذي يصله بمقومات المعادلة الوجودية: بقطبيها الله والإنسان وبوسطيها الطبيعي والتاريخي وبالتواصل بينها المتعين في كل واحد ومن هذه المقومات.

الكتيب

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي