**** التقرير نقاشي يقتصر على أسس شرعيته، وأهلية طالبه، ومعديه
عاب علي البعض أني لم أناقش مضمون تقرير لجنة التسعة حول الحريات الفردية والمساواة واكتفيت بمناقشة مسألتين: 1. أهلية اللجان في مثل هذه المسائل. 2. وأهلية رئيس الدولة في الكلام في نيابة الشعب في المسائل القيمية التي تتأسس عليها ثقافته، إذا لم يكن بطلب شعبي حقيقي بعد حوار حر وغير تابع للحكم.
ثم كتبت في شرح مدلول البند الاول من الدستور(1–2) لبيان الاعتماد عليه في مثل هذه المسائل يفرض العكس تماما مما فعله رئيس الدولة ويثبت أنه لا يواصل عمل بورقيبة بل يفسده وينهيه، فسيجعله مثله محاربا لما أثبته بنفسه في هذا البند الثوري حقا ويدحض نهائيا حجتي أدعياء التحديث في تأويله. فقد بينت أن خرافة “علام يعود الضمير في دينها” من علامات السخافة والبلادة الذهنية. ذلك أن الضمير ورد في كلمتين قبل الدين، والمحال عليه به ورد في الجملة الاولى التي تعرف تونس بكونها دولة، ثم تصف هذه الدولة التونسية بكونها حرة ومستقلة ونظامها جمهوري ولغتها عربية ودينها إسلامي. فهو يعود على “تونس دولة” التي لها الصفات الخمسة التي عرفها بها بورقيبة. فالصفتان الاوليان عرف بهما سيادتها السياسية، والأخيرتان السيادة الثقافية، والوسطى النظام الذي يمثل تونس الدولة تمثيلا يجعل شعبها هو الحامي لهذه الصفات الأربع: نظام جمهوري بمعنى الشعب هو الحاكم.
أما القضية الثانية فهي مسكوت عنها. ذلك أن التعريف والصفات الخمس كلها لها ضمائر هي سلوب ما أثبته بورقيبة في وضعه هذا البند الثوري: فتونس لم تكن دولة، بل كان محمية. وتونس لم تكن حرة، بل كانت مستعبدة. وتونس لم تكن مستقلة، بل كانت تابعة. وتونس لم تكن جمهورية. وتونس لغتها ودينها كانا مهددين. فيكون ما يفعله رئيس الدولة الحالي، خيانة لبورقيبة ولهذا المنشود الإيجابي ونكوصا إلى ما كان موجودا من سلبي أعني الضمائر التي يفيدها النص بأضدادها. واليوم أريد أن أتكلم في هذا التعريف والصفات الخمس: • اثنتان منها للسيادة السياسية • واثنتان للسيادة الثقافية • والوسطى لشرط تحققهما كلهما. وهذه المسائل لا تناقش مع لجنة ليس لها أدنى شرعية تمثيلية للشعب، ولا حتى تمثيلية لإرادة سياسية تتعامل معه بكل حساسياته الفكرية والقيمية فضلا عن كونها فاقدة لما يجعل أعضاءها أهلا للخوض في يتعلق بالسيادة السياسية (حرة ومستقلة) والثقافية (لغتها عربية ودينها الإسلام) إلا ككل مواطن آخر. ولو تكلم أي من أعضائها بهذه الصفة، لكان من حقه أن يفعل، ولكان من الواجب مناقشته بوصفه مواطنا يعبر عن رأي هو حر فيه، لكنه لا يدعي تمثيل سلطة علمية مزعومة عينتها سلطة سياسية موهومة: فحجة الرئيس بضرورة المطابقة بين القوانين والدستور لا تنطلي حتى على العامة.
ولو كانت ندوة بيت الحكمة التي تعقد اليوم لقاء بين مفكرين يعالجون قضية قيمية عامة، التقوا في ندوة بأوراق علمية من تأليف الملتقين بعد دعوة عامة للمشاركة في الندوة بورقة، لكنت ربما من المشاركين لأناقش ورقات قدمها باحثون بهذه الصفة وليس لجنة “ادهوك” دبرت بليل وبوحي من “المسؤول الكبير”. ولنحك الطلاء فننظر في أعضاء اللجنة: • استاذ جامعي واحد في القانون العام، • واستاذ جامعي واحد في الآداب الايديولوجيا الحضارية العامية • واستاذة جامعية في “الصحافة” • مع صحفيين آخرين ومحامية. من منهم يمكن أن يعتبر خبيرا في الإصلاح الشامل لقيم حضارة دون أن يكون ذلك مطلوبا من أهلها؟ فهم جميعا لا يدعون الانتساب إلى الحضارة التي يريدون إصلاح نظامها القانوني والقيم التي يستند إليها بمعايير الدستور الذي يوهم رئيس الدولة أنه كون هذه اللجنة لجعل القوانين تتماشى معه ولا تناقضه، والدليل لا أحتاج لتقديمه لأنهم يعلنون تقديم مرجعيات حداثية على الدستور كما وصفت. فالسيادة الثقافية يلغونها لأنهم ضمنيا ألغوا السيادة السياسية: فمن يستبدل أحد مقومي السيادة الثقافية (حددها الدستور: المرجعية الإسلامية) إن كان عملهم هدفه إلغاؤه كمرجعية رغم خداع الإحالة للإسلام التونسي وبعض الرموز والمقاصدية فلا يمكن أن يكون ذلك إلا دليلا على فقدان السيادة السياسية. فالأمم لا تكون ذات سيادة سياسية، أي حرة ومستقلة، إذا فقدت سيادتها الثقافية أي ناطقة بلغتها وذات مرجعية روحية خاصة بها. ولا يمكن للسيادة الثقافية ألا تتعين في دستور الدولة التونسية التي حاولوا التحيل للقول إن الدولة لا دين لها والدين لتونس: هل صاروا بديلا من الشعب ليعلمنوها؟
بورقيبة نفسه صرح للتلفزة الفرنسية -والتصريح موجود- بأن تونس ليست دولة علمانية، بل هي إسلامية. وما يقوم به هو قراءة للإسلام لا تتناقض مع مبادئه الأساسية. وقد أفهم أن أعضاء اللجنة يطبقون ما قاله محمد الشرفي في كتابه لائما بورقيبة الذي لم يذهب إلى الغاية فيعلمن تونس. وهبني سلمت بأن رؤية السنة للمسألة السياسية لا تناقض العلمانية لأنها لا تقول بالدولة الثيوقراطية بخلاف الفهم الشيعي (راجع الغزالي وابن تيمية وابن خلدون في ذلك)، فإن النظام الذي يقول به ليس علمانية يعقوبية، بل هو “علمانية” لا تعادي الأديان، وهي اجتهاد الجماعة لسياسة المصالح العامة. وهذا التعريف السالب للنظام الثيوقراطي والمحدد للنظام بكونه اجتهاد الجماعة لسياسة المصالح العامة (ابن خلدون) يمكن اعتباره قريبا من الرؤية الألمانية للعلمانية، ولما بدأ مفكرو الغرب يقتربون منه عندما بدأوا يدركون ما كان روسو قد أدركه قبله من دون مدنية للأديان في المجتمعات البشرية. لم تجمع اللجنة -وهي غير شرعية وغير علمية وغير ذات خبرة في ما تحاول الخوض فيه- إلا متكلمين على العموم في عموميات إيديولوجيا الحداثة الجامعة جمعا متنافرا بين الماركسية التي “تلبرلت” بعد سقوطها في كل دول العالم التي تأثرت بها نخبها إلا عند المتكلسين من نخب لا ندري إلى أي حضارة ينتسبون.
وما أنفيه على غيري لا أدعيه. لم أدع أني خبير في المسائل التي تخوض فيها اللجنة. كل ما أدعيه أني أفهم معنى كون المرء خبيرا في شيء أي الاختصاص بالمعنى الجامعي للخبرة والعلم. وما أعلمه علم اليقين أن الأساتذة الجامعيين الثلاثة في العربية والقانون والصحافة ليس لهم الخبرة التي يدعونها. لو كانت الخبرة المطلوبة تنتسب إلى اختصاصهم، أي في العربية وفي القانون وفي الصحافة لما قلت شيئا. فالأول يصلح للصياغة الفصيحة، والثاني للصياغة القانونية التقنية، والثالثة تصلح لاستراتيجية التواصل حتى يمر المشروع. لكن الامر لا يتعلق بأي من هذه المجالات حتى لو سلمناها لهم.
بم يتعلق الأمر؟ بمسألتين: • سياسية ومنها شرعية التمثيل والسيادة السياسية للجماعة • وروحية وهي أهم علامات السيادة السياسية ومنها شرعية تبديل السيادة الثقافية للجماعة. القضية المطروحة ليست قضية فنية في القانون ولا فنية في العربية ولا فنية في الصحافة بل هي قضية قيمية سياسيا وروحيا.
لما صاغ المرحوم بورقيبة هذا البند كان يعلم ذلك، والدليل أن كل كلمة فيها لها دلالة إيجابية عبر بها عن إرادة شعب قاوم الحماية وقاوم الملكية، تضمر دحضا لدلالة سلبية كانت عليها تونس: فالشعب يريد لها سيادة سياسية (دولة حرة ومستقلة) وسيادة ثقافية (عربية إسلامية) بنظام يحميهما (جمهورية). هؤلاء الأعضاء الذين لا يفهمون مثل هذه الثورة في لحظة تحققها، إذ أن الشعب اليوم لا يريد “بايا” جديدا وعلماء بلاط يأتمرون بأوامر ممثل الحماية أي “المقيم العام” الذي هو في ما أظن ما عناه الرئيس عندما تكلم على “المسؤول الكبير” بعظمة لسانه في خطاب موجود في اليوتيوب. المشكل أن الباي الجديد عوض “علماء البلاط” القدامى من خريجي الزيتونة بـ”علماء بلاط” جدد يدعون الحداثة وينتحلون صفة الانتساب إلى الإسلام التونسي والمقاصدي وهم أبعد الناس عن الحداثة وعن الإسلام التونسي (لا افهمها) وعن المقاصدية التي صارت “حمار الاميين القصير”.
كتبت هذا الفصل اليتيم لأعلل احجامي عن مناقشة ما “ترجموه”، فعملهم هو في الحقيقة ترجمة مشروع قدمه ممثل المسؤول الكبير ككل أمر في شذرات. إنها عادة سائدة: فكل إصلاحات التربية السابقة كانت تأتي معلبة كما هي، بل إن كل قوانين تونس تكتب بفرنسية ركيكة وتترجم إلى عربية اشد ركاكة.