اكتفيت في سلاسل التغريد الثلاث الأخيرة بإشارات عامة إلى السطحية الطاغية على آراء المحللين العرب وخاصة التهويل من قوة إيران بصورة ترهب الحكام العرب وهو مرعوبون بالطبع حتى وصفتها بالحرب النفسية على شعوبهم.
لكني لم أعين مثالا لأن هدفي لم يكن نقد أحد بعينه بل عرض التحليل البديل.
ويبدو أن كل متابع نزيه لا بد وأنه سيستنتج أن رد إيران الأخير وحصيلته لا يمكن أن تثبت عكس ما توقعت بل بالعكس فهي قد أكدته وبينت أن عنتريات الملالي كلها كذب وسر قوتها هو جبن من تسيطر عليهم ومن تستعملهم من العرب للسيطرة على بقية العرب.
وذلك ما كان يعنيني وليس الرد على محللين بأعيانهم.
لكني الآن عدت إلى مكتبي بعد أن استفزني أحد المحللين في الجزيرة الناطقة بالإنجليزية -اسمه مروان بشارة شديد انتفاخ الأوداج لكأنه علامة عصره-يدعي أن إيران وأذرعها صاروا أقوى بعد ما حدث مما كانوا قبله ما يعني أن عدوهم صار أضعف أو على الأقل خسر شيئا.
فعجبت للرجل بأي منطق وما أساس كلامه؟
فهل يسمى التحليل تحليلا أو حتى التعليق بمجرد إصدار الأحكام دون تعليل؟
والتعليل في مثل هذه الحالات يكون إما منطقيا مجردا أو استفتائيا بمعطيات حسابية لمن يصفهم بأنهم في وضعية مرتاحة في المديين القريب والمتوسط حتى لا أتكلم على المدى الطويل.
ومحدد المدى في هذه الحالة هو المدة الكافية لاكتشاف الأكاذيب التي تلت الرد بالمقارنة مع التي تقدمت عليه.
فالثابت أن مغالطة الرأي العام الداخلي بعنتريات الاستهلاك المحلي كانت “تأكل” في عهد عبد الناصر لما كان الأعلام لا يكاد يتجاوز التلفزة والإذاعة الرسميتين.
لكن اليوم لا شيء يمكن اخفاؤه ولا يمكن للشعب الإيراني والشعوب التي فيها أذرع إيران ألا يطلعوا على الحقائق تقريبا في نفس اليوم إم لم يكن مباشرة على البث الحي.
فماذا سيقول سيد مروان بشارة عن موقف من تعتمد عليهم إيران للرد بالوكالة عندما يعلمون كيف كان ردها هي وما صاحبه من عنتريات ويتأكدوا أنه كله كذب وأن ما حصل كان مسرحية؟
هل سيتشجعون على فعل شيء يكون أقوى مما فعلت إيران أم إن ذلك سيجعلهم أكثر احترازا وخوفا؟
هل سيتجاهلون خاصة أن قيادات إيران تذكر وتكرر بأنها لا تريد الحرب وتريد تجنب التصعيد علما وأن أمريكا هددت بتحميلها مسؤولية أي رد من أي كان؟
وماذا يمكن أن يكون رد فعلهم وفعل الشعب الإيراني عندما يعلم أن ترومب لم يتراجع خطوة وأن ما حصل في الرد كان عين ما سمح به وحدد سقفه؟
ألم يزد في العقوبات ويضع خطوطا حمراء جديدة اعتمد فيها على عنتريات إيرانية أخرى تتعلق بالسلاح النووي واستئناف التخصيب بحد لا يقبل حتى عند من يحاولون إبقاء الاتفاق؟
أعجب من معلق أو محلل رسمي من يسمعه يقول إن الرجل يتوهم أنه يخرج من فيه أحكاما لا تقبل النقاش في حين أنها مجرد كلام لا أساس له لا من المنطق المجرد ولا من المعطيات التي تقبل القياس العلمي في زمان سريع.
فمفعول الرد الإيراني قابل للقيس مباشرة بمجرد معرفة أنه كان مسرحية للاستهلاك المحلي؟ فهبنا فرضنا تكذيب فرضية أن الضربة كانت بالتشاور مع أمريكا وفي الحدود التي قبلتها أمريكا مقابل الوعد بعدم الرد على الرد ألا تكون النتيجة قابلية هذه الفرضية للتصديق.
والرأي العام في العالم كله لا يمشي بالحقائق الفعلية بل بما يقبل التصديق حتى من الشائعات مهما كانت منافية للحقيقة إذ غالبا ما يكون التكذيب شبه دال على العكس فيضفي المصداقية على الشائعة: عديد الصواريخ بصفر قتيل.
وأيا كان الاستنتاج فهو كارثة على مصداقية إيران. فإما أن السلاح فاسد. وإما أن العملية لخداع الرأي العام الإيراني. وهو في الحالتين نهاية كل قابلية للتصديق حتى لو كان ما سيأتي لاحقا حقيقيا. عندنا مثل في تونس يحكي عن الراعي الذي يمزح مع قبيلته بحضور الذئب. فزعوا مرات ولما حضر الذئب ظنوا الراعي يمزح فلم يفزع أحد.
نأتي الآن إلى الاستدلال المنطقي. صحيح أن الغليان الحالي يمكن أن يجعل ثورة الشعب الإيراني تتوقف فيقل تململه ضد النظام.
لكن ألا يرى معلقنا أن الجرأة على شوكة دولة هذه حالها ستزداد؟
وهل يبقى للحرس الثوري مهابة؟
أليس هو سيضطر لعنف أكثر ليفرض النظام فتزداد المقاومة الشعبية ويقوى الاحتجاج؟
ولنمر الآن إلى الشعوب التي لإيران فيها أذرع والتي سترد بالوكالة. فهمهما كانت قادتها حمقى هل ستغامر كما كنت تفعل عندما كان نظام الملالي ذا هيبة يستمدها من عنتريات بدأ الجميع يشك في مصداقيتها؟ لو لم ترد إيران لكان أفضل من الرد الذي حصل لأن التأجيل كان يمكن أن يؤخذ على أنه من شروط الحكمة والبحث عن رد موجع فتبقى بعض المهابة.
ولأشر إلى إن مثل هذه التحاليل أو حتى التعاليق التي سمعتها من الرجل تبين أنه يعتقد أن الأمور في الاستراتيجيا تخضع لمنطق الاعلام الصحفي قصير الذاكرة.
ومن ثم فهو يصف الأحداث بمنطق الاعلام العادي وليس بمنطق الاستراتيجيات. ينسى أن امريكا تحاصر إيران منذ الخروج من الاتفاق النووي وكل يوم تزيد في الخنق.
ولا أحد يشك في أن المطاولة التي كان يمكن أن تستعملها إيران بالمناوشات الهامشية بأدوات وأذرع لها بعض القدرة تضاءلت قدرتها بسبب الشح المالي أولا وبسبب أقوى ذراع لديها فقدت بهرجها قصدت حزب الله اللبناني الذي يعاني وقد يفقد قريبا قائده إذا تجرأ فتجاوز الخط الأحمر الذي ذكره به ترومب.
ولا يمكن تصور دولة قادرة على اعاشة ثمانين مليون نفسا من دون اقتصاد يعمل بصورة طبيعية. والحصار والعقوبات هما ما يفضله ترومب على الحرب مع الاستعداد لها. فكان ينبغي السؤال عن هامش المناورة الذي فقدته وخاصة بعملية التخصيب التي تهدد بها والتي يتمناها ترومب وهو معنى كلامه على شركائه.
فكلامه على أوروبا وروسيا والصين -جماعة الاتفاق النووي-ليس هزلا ولا يتعلق بمساعدتهم في شيء آخر غير التخلي عن الاتفاق النووي مثله. فما أن تتجاوز إيران حدا معينا من هذه اللعبة فهي ستفقد التأييد القولي الحالي لأن التأييد الفعلي لم يحصل بدليل أن الجميع احترم العقوبات بما فيها حصار بيع بترولها للهند والصين. تجاهل ذلك دليل جهل بالاستراتيجيا.
17-الاستراتيجيا لا تخضع للزمانية الاعلامية القصيرة بل هي على الأقل تبني على المدى المتوسط ويقاس ذلك بقدرة المتصارعين على تحمل الانتظار لتحين فرصة الضرب.
فيمكن لأمريكا أن تنتظر عقودا خاصة وهي لا تدفع مليما واحدا في الحصار لأن عملاءها العرب يدفعون كلفة الحصار وكلفة القواعد راغمين.
فأمريكا تحاصر إيران وتحمي إسرائيل ولا يكلفها ذلك إلا ما يدفعه العرب ليناموا ويخففوا من رعبهم. ويجدون من بين النخب العربية من يقوي حججهم التي تخوف بها أمريكا وإسرائيل العرب حتى يحتموا بها من غول كاذب ويطبعوا مع اسرائيل ويقبلوا بأكثر من ذلك أي بتمويل سايكس بيكو الثانية والصفقة.
ومن لا يصدق ذلك فليكتف بتمويل العرب في ثورتهم المضادة ضد الربيع تمويل كل عملاء أمريكا وإسرائيل في مصر وليبيا وخاصة من أنقذ إيران ومليشياتها في سوريا لأن النظام كان سيسقط بشهادة حزب الله وبوتين. وكل نفقات بوتين في سوريا وفي ليبيا يدفعها بسخاء الحمقى من جبناء العرب.
وختاما فمن بين النفقات تأجير هؤلاء المعلقين والمحللين الذين ينفخون في قوة إيران إلى الحد الذي جعل البعض يتكلم على حرب عالمية ثالثة بين إيران وأمريكا يعني بين دولة ميزانية جيشها ضعف الدخل القومي الخام للدولة الضديدة. كل ذلك لاستغباء شعوب الأمة حتى تنتفخ أوداج الدجالين.
وتلك هي الحرب النفسية على شعوب الاقليم التي يخوضها هؤلاء المعلقين والمحللين. ومهما أحسنت الظن بهم واعتبرت ذلك بسبب الجهل وليس بسبب “الخدمة” فإني لا يمكن أن أصدق أنه يوجد من له ذرة من عقل يعتقد أن إيران قوة بمعايير عصرنا حتى بالمقارنة مع قوى الإقليم الأخرى ناهيك عن المقارنة مع القوى الغربية حتى أدناها.
فمن يرسل عشرات الصواريخ دون أثر يذكر كما فعل صدام في حرب الخليج الثانية يثبت ضعفه وليس قوته لأن التفسير الوحيد هو: إما تخلف السلاح أو تخلف مسدديه أو كذبهم في عددها أو كذبهم في استهداف أثر آخر غير الاستهلاك المحلي.
وهم يأملون أن “يستر” عليهم العدو أكاذيبهم. وكل ذلك يسهم في حذف المصداقية الردع في الحروب هو المصداقية لا العنتريات. والمعلوم أن إسرائيل توهم بأنها خائفة وبأن اعداءها أقوياء حقا لتحلب أمريكا والرأي العام الغربي فيزيدوا في التمويل والتسليح.
وقد صدق هيجل لما قال إن الفكر المباشر ليس فكرا أصلا بل هو عين الحمق. فلا توجد نتائج من دون مقدمات. واعتقد أن نسبة المحللين العرب إلى الاستراتيجيا تشبه نسبة من يقيس ناطحات السحاب على الخيام. فالحركة في الخيمة مباشرة لأن بابها في قاعها وليس لها لا أبواب ولا طوابق ولا مصاعد ولا مهابط.
الاستراتيجيا تحتاج إلى سلاسل من المقدمات متشاجنة ومتشابكة. وأهما خاصة القدرة على الصمود بأداتيه أي القدرة على الرعاية والحماية ماديا والقدرة الروحية على طلب الغايات الذي يكون طوعيا لنبعه من الإيمان بمنزلة الإنسان: وكلما كان النظام السياسي مستبدا وفاسدا كلما زال هذا البعد القيمي.
وزوال البعد القيمي هو الذي يسميه ابن خلدون “فساد معاني الإنسانية” أي إن الشعوب تصبح سلبية وشبه ميتة لا تتحرك من أجل غاية سامية لأن النظام المستبد والفاسد يكون قد فرض عليها الاخلاد إلى الأرض لفرط ما فرض عليها من حرمان وتجويع وتلك هي نتيجة سلاح الحصار والعقوبات الأمريكية.
مفهوم فساد معاني الإنسانية الخلدوني من أهم علل ما نراه في مصر مثلا. فلا أعتقد أنه يوجد مصري لا يتصور في قرارة نفسه أن السيسي خائن وأنه عميل ناتن ياهو بل البعض يعتقد أنه يهودي متخف. ومع ذلك يقبلون به فلماذا؟
تفسير ابن خلدون يقول إن من تفسد معاني الإنسانية فيه يصبح عالة على غيره مشلولا.
والعالة على غيره في مصر -وفي جل بلاد العرب المستسلمة للاستبداد والفساد إذ ذكرت مصر مثالا وليس الأمر مقصورا عليها فكلنا في الهوى سواء-هو من جنس سلفية الاسكندرية والحركات الصوفية والمسيحيين والمرتزقة العلمانية والحداثية التي تخلط بين الحداثة والدياثة.
ولذلك فالنظام المستبد في إيران يحكم بالمناحات والعنتريات والخردة السوفياتية التي يدعي ابداعها بمجرد تغيير طلائها.
والأمر ليس جديد عندنا. فعبد الناصر حكم بأكاذيب صوت العرب ودجل هيكل. والأمر طبيعي عند من يكذب على نفسه وعلى شعبه. فما حققه الغرب في قرون لن تحققه شعوب أمية في عقود خاصة وقد أخذت الحكومات الفاسدة والمستبدة أنظمة تربوية وثقافية واقتصادية عمادها الدولة الحاضنة التي تجعل الشعب نائما والإدارة المتضخمة وتنتج الخضار أو دواء الكفتة مثل الجيش المصري.
لا أريد أن أطيل فقد قرب وقت مغادرة مكتبي للراحة. لكن لا بد من ملاحظتين أخيرتين. الأولى أني كنت أتمنى ألا أسمي أحدا. لكن الرجل استفزني بالأحكام الجزاف التي لم يشفعها بما يعللها حتى وإن كنت لا أجهل أن التعليق التلفزي قد يحول دون التعليل الطويل. لكنه كان منعدما أصلا. وكان يكفي في هذه الحالة عدم الجزم والحسم
والملاحظة الثانية هي أن المرء الذي يجيب بأنه لا يدري أحكم من الذي يزعم الدراية بما لا يُدرى فيحكم بدون تعليل ولو تلميحا. ثم إن التعليل يقتضي تأويل العبارة وحتى الإشارة. فترومب لم يعبر عن تراجع لأن ما حدث في الضربة الإيرانية هو الذي حدد سقفه قبل وقوعه رسميا لما قال إذا تجاوز الرد كذا س…. وكان ذلك بالإشارة والإضمار.
وأخيرا فالمعلق والمحلل العربي الذي يستفزني هو الذي يتصور أن كلامه كاف لأن يصدقه المستمع لمجرد أنه هو القائل. لسوء الحظ فقد ربيت على أن أي حكم غير معلل هو من جنس الدجل الذي يجعل المعلق والمحلل داعية وليس ذا علم في ما يتكلم فيه. فالمحلل لا تعني دوره في حل مشكل الطلاق البائن ويسمى في تونس “التياس” ومنه جل طبالي الأعلام العربي.