**** التعدد حل وهمي للعنوسة وما حولها الفصل الثاني
العنوسة هي إذن أحد أضلع ازمة مخمسة الاضلاع: 1. أزمة الاسرة 2. وأزمة العنوسة 3. وأزمة العزوبية 4. وأزمة الجنس خارج الأسرة 5. وأزمة الأطفال الطبيعيين وترتيب الاضلع ليس تحكميا. فالقلب هو أزمة العزوبية وليس أزمة العنوسة، ويوجد تناظر بين العنوسة والجنس خارج الأسرة تناظر بين الاولى والأخيرة. وبخلاف الكثير من الأوهام، فالأزمة هي أزمة القلب أو العزوبية عند الرجال وليس أزمة العنوسة عند النساء حتى وإن كان للمرأة دورا في أزمة الرجال. لكن الإشكال كله متعلق بالقضية الاقتصادية والثقافية. وإذن فالرجل والمرأة على حد سواء وضعهما ليس لهما فيه الدور المحدد رغم تبادل التهم بينهما.
وحتى يكون كلامي واضحا شديد الوضوح: فليس الأمر متعلقا بعمل المرأة (الاقتصادي) ولا بسلطان المرأة (الثقافي) فهما ليسا بالأمر الجديد فلا تخلو منهما أي مرحلة من مراحل تاريخ العلاقة بين الزوجين. إنما الامر يتعلق بنوع العمل ونظامه وبنوع السلطان ونظامه. فلا أحد يمكن أن يدعي أن النساء كن لا يعملن ولم يكن لهن سلطان في الأسر وحتى في الدول. ما تغير هو إذن ما جعل العمل والسلطان يصبحان من طبيعة مختلفة ويغلب عليهما داء خفي جعل المرأة تتخلى عن ثقافة مختلفة في العمل والسلطة اللطيفين لتعوضها بثقافة تجعلهما خشنين إن صح التعبير. لا أحكم فأفاضل بين النظامين الثقافيين المحددين لتوزيع العمل والسلطة بين الرجل والمرأة إذ ليس لي معيار تقييمي يمكن من المفاضلة ديني أو فلسفي إلا إذا اعتبرنا حال العلاقة كما تحددت في النظام السابق أفضل من حالها في النظام الحالي. ولكن في هذه الحالة أكون قد صادرت على المطلوب. فيصبح بحثي وكأنه سعي لأثبات أن الحال الراهنية يمكن إصلاحها بالعودة إلى الحال السابقة، وهو أمر مستحيل أولا وليس يوجد دليل على أنه لو تصورناه ممكنا تكراره سيعطي نفس ما أعطاه في المرة الاولى. ما يعنيني هو إذن معرفة علل التغير الثقافي الذي جعل عمل المرأة وسلطانها يصبحان مستفزين للرجل. وهل للأمرين علاقة كأن يكون عمل المرأة خارج الاسرة قد مهد لتغير سلطان المرأة اللطيف وجعله خشنا بمعنى أنه ليس سلطانا خفيا كما كان بل أصبح سلطانا يعتبره الرجل وكأنه مس “برجولته”؟ هل المشكل ليس في سلطان المرأة بل في بروزه علنا بدلا من أن يكون سلطانا خفيا ولطيفا مهما كان محددا؟ وهل الاستقلال المادي يعني اضعاف العلاقة التعاقدية بين الزوجين ما يعني أن المرأة تصبح في حل من “الخوف” من فقدان العلاقة الاسرية ومستعدة للتضحية بها من أجل “مغامرات” لا يعوقها العقد الزوجي فتصبح العلاقة خارج الزوجية مقدمة على العلاقة الزوجية بدليل عدم الصبر على كلفتها ومسؤوليتها؟ أليس في ذلك بحث من المرأة على المساواة مع الرجل ليس في الاستقلال المادي والسلطان الأسري فحسب، بل وكذلك في ما يشبه التحلل من التعاقد الزوجي لأن من ثقافة المجتمعات في غالب الحضارات “التسامح” مع الرجال في ذلك والتشدد مع النساء بحجج كثيرة: هل يمكن التوفيق بين الزوجية والتعدد للجنسين؟
وهنا تتحدد القضية في عدم التناظر في عقد الزوجية: هل يكون من مقتضيات الأسرة عدم التناظر التام بين الزوجين اساسا لوجودها فتكون المرأة مطالبة بالتنازل على: • فائدة الاستقلال المادي • صراحة سلطانها • التناظر في ما يقع خارج الأسرة في المسألة العاطفية والجنسية؟ إذا صح فهمي، فإن أهم أسباب الطلاق -بعد استثناء ما له علاقة بالعاهات الجنسية أو الطوارئ الاقتصادية الكبرى التي قد تطرأ- لا تخرج عن هذه الثلاثة. فتكون العلل خمسا: هذه الثلاثة مع ما يطرأ على الحياة الجنسية والاقتصادية طريانا دائما يخل بالوظائف العضوية وبشروط العيش المشترك.
وهنا يتدخل عنصر جديد لم نذكره سابقا وهو علاقة نسب الطلاق بنسب العنوسة. فنسب الطلاق تتحول إلى شبه علة لنسب العنوسة. فلكأن الطلاق يشبه التجربة العامة التي تجعل الموقف المتبادل بين الجنسين وكأنه موقف تفضيل العنوسة والعزوبية على ما يبدو لهما شبه مستحيل وخاصة بعد معاشرة فاشلة. وهنا يتدخل فشل المعاشرة التي كان يمكن أن تكون بداية تعاقد زيجة ليس بذاته وحدها بل بأمرين: • تبين مدى الصبر على كلفة الأسرة المفترضة • وأحكام الاسرتين اللتين يكون المتعاشران فرعيهما وكذلك الوسيطان اللذين ينتمينان اليه: بصورة عامة “حكم” الرؤيتين المؤثرتين في المتعاشرين. وهذا العامل يجمع كل الأبعاد الثقافية والاقتصادية وتصورات الأسرة والعلاقة بين الزوجين الممكنين وخاصة مدى صبر هما كليهما لتحمل مسؤوليات الأسرة وأعسرها رعاية الأطفال التي هي ربما أعسر مهام المرأة على الأقل مدة الحمل وما يترتب عليه حتى في بدن المرأة وجمالها وصحتها. وهنا يتدخل الديني والفلسفي. فمن لا يؤمن بما يتجاوز فرديته وحياته الدنيوية يعسر أن يضحي من أجل طفل براحته سواء كان رجلا أو خاصة امرأة. فيكون المعتقد الديني والفلسفي ذو الطبيعة الوجودية أصل مدى تحمل التضحية من أجل تربية الاطفال والرغبة في “الخلفة” ورؤيتها امتدادا للكيان في الزمان. وهذا التدخل “الميتافيزيقي” المتعلق برؤية وجودية للحياة حصرا إياها في الفرد أو تجاوزا للفردية هو قمة التغير الثقافي الذي أشير إليه والذي لا يرد إلى الاقتصادي بل هو له قيام بذاته ويتمثل في لحظة تمر بها الشعوب فيها شيء من الإعياء الوجودي يفقد الإنسان الصبر على تحمل كلفة تواصل النوع. وإذا كان التقدم التقني قد حرر المرأة مثلا من ارضاع الأطفال طبيعيا وحررها من العناية به بمجرد الوضع، فإنه لم يحررها بعد من الحمل تسعة أشهر ومن آثاره. وحتى التي لم تفقد نهائيا غريزة الامومة فإنها صارت تعتبر التبني مغنيا عن الإنجاب خضوعا لموضة “التحرر” من الفروق بين الجنسين. وقد نصل إلى التلقيح الصناعي خارج الأرحام بالكامل، فيتكون الطفل في جهاز من جنس المستعمل حاليا للمواليد قبل نهاية مدة الحمل لكن مشكل البيض والعادة يبقى ويصعب إزالته مع المحافظة على تواصل النوع. وقد نصل من ناحية ثانية إلى سيطرة اللوطية في كلا الجنسين ثقافيا لأن الفرق العضوي يبقى. ذلك أن المثلية الطبيعية موجودة ليس في ذلك شك. فالرجل المخنث والمرأة المسترجلة والذي يجمع بين الصفتين والذي ليس له أي منهما لأنه شبه معطل عضويا كل ذلك موجود طبيعيا لكنه كما عرف ذلك أرسطو من أخطاء الطبيعة أو من محاولاتها قبل وصولها إلى نظام مستقر حسب رؤيته الطبيعية. لكن الغالب على المثلية هو المثلية الثقافية. وهذه لها مصدران: • تجارب الطفولة كما يحدث في المؤسسات التربوية الكاثوليكية مثلا • والادب الجنسي الذي يجعل الظاهرة من الأغراض الأدبية التي صار دورها من جنس دور الخيانة الزوجية في الادب: موجودان لكن تداولهما الأدبي يقوي أثرهما في الثقافة.
لكن العنوسة والعزوبية تقويان المثلية كذلك. وهذا يتبين خاصة في السجون وفي الجيوش وحيثما سيطر الفصل بين الجنسين. لذلك فالفصل بين الجنسين بخلاف سخافات الشيوخ لا يحقق الفضيلة كما يتوهمون، بل هو يضاعف الرذيلة لأن الجنس لا يختلف عن الغذاء من حيث الضرورة المادية وله فوقه الروحية.
ولنأت الآن إلى التناظر الأول بين العنوسة والجنس خارج الزواج. لا يمكن تصور تزايد العنوسة من دون وجود جنس خارج الأسرة. ذلك أن الحاجة الجنسية حتى وإن التحكم فيها أطول من التحكم في الحاجة إلى الغذاء وخاصة في المجتمعات المحافظة لكن التحكم المطلق فيها مستحيل: كذبة العابدات العازبات. ويأتي التناظر الثاني بين أزمة الاسرة وازمة الاطفال الطبعيين. فالتناظر السابق بين العنوسة والجنس خارج الزواج هو التعين في الأفراد لأزمة مؤسسة في الأسرة وفي الأنساب. ذلك أن النسب في الأسرة أو الأسرة بالنسبة إلى النسب تعتبر علاقة مؤسسية في حين أن الأطفال الطبيعيين يخروجون عنهما. والذين يتكلمون على التعدد ويعتبرونه حلا للعنوسة يخطئون حتى وإن كان فيه شيء من حل مشكل الأنساب لوكان يحل مشكل العنوسة. لكن العنوسة كما أسلفت شديد التعقيد وهي متصلة بالمستويات الخمسة اللازمة التي تكلمت عليها: أزمة الاسرة والعنوسة والعزوبية والجنس خارج الأسرة والاطفال الطبيعيين.
لم أدع تقديم، حل بل اكتفيت بتحديد أبعاد الإشكال والحل لا يمكن أن يكون في جماعة بعينها لأن المسألة كما بينت كونية بكونية الاقتصادي والثقافي في عصرنا. ولا يمكن التحرر من هذه الأزمة المخمسة من دون تغيير نظام العمل الاقتصادي ونظام الرؤية الثقافي ليكون الإنسان غاية وليس بضاعة أو خدمة.