****
التطبيع العلني ما دلالة علاقته بموجة الربيع الثانية؟
كلما رأيت حاكما صهيونيا أو صفويا يزور محمية عربية رأيت التاريخ وقد انعكس.
أهؤلاء عرب ومسلمون؟
أفيهم نخوة العرب وعزة الإسلام؟
أم هم طراطير نصبهم ذراعا الاستعمار في الإقليم حتى يكون في خدمة الإطاحة المتدرجة لما كان للعرب والمسلمين من شروط السيادة والكرامة والحرية؟
رأينا هذا الأسبوع ثلاثة وفود إسرائيلية في ثلاث محميات خليجية.
وكم رأينا أمثالهم في مصر وفي بقية البلاد العربية من ا لماء إلى الماء سواء في العلن أو في السر ولا يستثنى منهم أحد. لكن أمثالهم يرتعون في الهلال عراقه وشامه.
سيقال للسياسة اكراهاتها. لكني أقول للخيانة نتائجها: بمثلهم ضاعت الأندلس ويسعون لضياع فلسطين.
لم يكف طراطير العرب ونخبهم الطبالة بجنسيها من يدعي التأصيل ومن يدعي التحديث منهم الخضوع للقوى العظمى ها هم يقدسون ذراعيها في بلاد العرب: الصهيونية والصفوية. في القرن الماضي انقسم العرب بين عبيد أمريكا وعبيد السوفيات.
اليوم نزلوا إلى الأسفل فصاروا عبيد إسرائيل وإيران.
والبحث عن دلالة التطبيع لا معنى له لأنه حاصل منذ عقود في كل بلاد العرب بما في ذلك بلاد المغرب التي تباهي بالانتساب إلى صف الممانعة لأن التنافس بينها يقتضي أن يتنافسوا في خطب ودها مباشرة أو بتوسط لوبياتها في الغرب.
الجديد هو دلالة أمرين فيه كيفيته حصول التطبيع وليس فيه.
فأما الأمر الأول فهو علة الجرأة على جعله علنيا بعد أن كان سريا.
وأما الأمر الثاني فهو صلته بالربيع أولا وببلوغ دور إيران في الاقليم الغاية التي كانت مطلوبه من السماح الغربي به أعني الدور الذي يخيف أنظمة لا شرعية لها حتى تحتاج إلى الحماية المباشرة بعد أن كانت الحماية عن بعد كافية.
وعلامة الحماية المباشرة عبر عنها ترومب في تهديده للسعودية ومطالبتها بالدفع عندما قال لحكامها إنهم يمكن أن يفقدوا عروشهم في أقل من أسبوع وأحيانا في أقل من ربع ساعة-12 دقيقة. ورغم ان حكام العرب لو كان لهم ذرة من عقل لعلموا أن إيران أوهى من بيت العنكبوت لولا غرقهم في حربهم الأهلية.
فهي تحاربهم بمليشيات القلم والسيف العربية وبتمويل منهم في حربهم الأهلية التي جعلت نوعي الانظمة العسكرية والقبلية والنخب التابعة لهما يصبحان أداتين ودميتين في أيدي ذراعين صهيوني وصفوي كلاهما يسعى لاسترداد إمبراطورية سابقة عن الإسلام في الإقليم بالقضاء على بناة دولته الأربعة.
فبالعرقية والطائفية يحاربون العرب والأتراك والأكراد والأمازيغ بعضهم بالبعض لعلمهم أن دولة الإسلام بدأت بالعرب وانهت بالأتراك وتوسطت بالأكراد والأمازيغ على الأقل في محيط الابيض المتوسط وما كان بحوزة المسلمين م ضفته الشمالية.
والعرب انقسمت أنظمتهم العسكرية والقبلية بتبعيتهما لهما.
لكن خوف الأنظمة ليس من إيران التي جاهرت بالتطبيع ليس من إيران أو اسرائيل وحدهما لأن ذلك كان موجودا قبل الربيع ولم يدفع للجرأة على المجاهرة.
ما أدى إلى ذلك هو السقوط المتوالي للعواصم العربية بيد إيران (العراق وسوريا) وإسرائيل (مصر خاصة) وثورة الشباب العربي كله.
لذلك فالمجاهرة بالتطبيع كان من الطبيعي أن تقع في الخليج قبل البقية بعد الأردن ومصر: فهذه الانظمة تعترف الآن بأمرين:
- أصبحت تعترف بأن الثورة ربحت قلوب شعوبها وهي إذن صارت بين نارين الخوف من الغول الذي خلقوه لهم ومن الثورة
- وأصبحت بحاجة لغطاء على ما ستضطر إليه كجرائم ثورة مضادة.
فكلها تعلم أنها ستضطر إلى ما اضطر إليه السيسي في مصر ولا بد من غطاء في الرأي العام الدولي من مافية الأعلام والرأي العام الرسمي في الغرب ولا أحد يستطيع تحقيق ذلك غير إسرائيل ومافياتها في الغرب ولوبياتها في أمريكا خاصة.
الثورة المضادة مضطرة لتلبية شرط إسرائيل: التطبيع العلني.
سيرد على هذا الكلام بأن ذلك لا ينطبق على سلطنة عمان: فلماذا كانت أول من أعلن عن غاية التطبيع الاقصى رغم أنها غير معترفة بإسرائيل ودعت رئيس حكومتها مع ذلك؟
والجواب بسيط: سلطنة عمان تؤدي دور الوسيط بدعوى تمثيل الحكمة والحياد في الخلافات العربية العربية والعربية الإيرانية.
هي تريد أن تضيف الحياد في ما بقي من خلاف عربي إسرائيلي. والمعلوم أنه لم يبق الكثير. فحتى الفلسطينيون جلهم مطبع لأن من يطبع مع إيران عندي مطبع مع اسرائيل فهم في النهاية سيكونوا من جنس حزب الله لا يقومون بشيء إلا ما كان قابلا للاستخدام في قضية إيران وهي عندي أخطر على قضيتهم من اسرائيل.
وليس شيء عند أشد مقتا من خرافة الصفقات التي ورثتها حماس عن حزب الله: فهذه من أهم الطرق التي تمكن إسرائيل بتتفيه القضية الفلسطينية فتجعلها لعبة قط وفار بدلا من أن تكون قضية جنيسة لقضية التمييز العنصري بالشكل الذي قضى على دولة المافية الأوروبية التي احتلت جنوب افريقيا. تتفيه قضية فلسطين علتها عنتريات تجعلها رهن الاستراتيجية الصفوية التي هي أخطر على الأمة من الاستراتيجيا الصهيونية: لأن هذه قاعدة مؤقتة تابعة للاستعمار الغربي تزول بزواليه ولا تغير عقائد أهلها والصفوية عدو تاريخي منذ 14 قرنا لا يكتفي باحتلال الأرض بل يريد احتلال الأرواح.
ثم إن إسرائيل لا تخفي عداوتها للفلسطينيين وهي محتل تماما كما كان الفرنسيون في الجزائر. لكنهم لا يمثلون لإيران إلا ما تمثله لبنان: ورقة تفاوض مع عدوهم وطبعا إذا ضمنت بقاء نظامها فستبيعهم لأول شار. عدوي الواضح ند والمتظاهر بمصداقية غادر ولا يعتبرني ندا لأني مجرد ورقة في استراتيجيته.
لكن الأساس في ذلك كله هو أن كل ما يسمى دولا عربية كذبة:
هي محميات مباشرة لذراعي القوتين وبصورة غير مباشرة للقوتين.
كانت القوتان كافيتين للحماية عن بعد. قرب الخطر فاضطروا للحماية عن قرب. وشرطه العلنية. والمشكل أنها ليست للحماية المادية فقط بل أيضا للتعويض نقصان العقل والتفكير ونتيجته سوء التدبير.
فليس الأمر أمر قواعد عسكرية أو حتى مرتزقة في الجيوش والمخابرات والمساعدة اللوجستية بل إن كل المؤسسات بحاجة لمن يفكر ويخطط أي لمستشارين يكترونهم بالملايين حتى “يدبروا” عليهم بما يؤديهم المهالك: نحن نرى تكرار تجربة ملوك الطوائف. لم يعد لاورنس واحد كافيا: بل كل محمية لها لاورنسها.
ولاورنسات العرب إيرانية للبعض من الأنظمة العربية العسكرية وإسرائيلية للبعض الآخر من الأنظمة العربية القبلية. ولنا بعض الأسماء الشهيرة مثل رئيس وزراء بريطانيا ولعله من حفدة لاورنس وصهر ترومب وهما رمزان يغنيان عن ذكر من هو دونهما شهرة فضلا عن النسخ العربية الباهتة التي لسوء الحظ هي فلسطينية أو لبنانية أعني من الضحايا المقربين.
بصراحة لم يبق له مهجة للكلام في هذه المآسي.
فلاقف عند هذا الحد: ولأشر إلى علامة واحدة.
فحكام العرب إما شبان أغرار لا خبرة لهم أو شيوخ في أرذل العمر لا طاقة لهم. إما الحمق العقلي أو العجز العضوي وذلك سواء في المغرب أو في المشرق. ولا استثني بلدا عربيا واحدا: كلنا في الهوى سواء.
ولا يمكن أن يصدق أحد مسرحيات السماح بالاحتجاج على التطبيع في بعض بلاد العرب. فالكل يعلم أنها مسرحيات.
ذلك أن حرية التعبير لا تكون ظرفية وبإذن خاص للتغطية على التطبيع. لو كانت الحكومات العربية شرعية لما حصل التطبيع الذي يفيد أنها يائسة من شعوبها وتستمد بقاءها من ضمانة اسرائيل.
لو كانت الاحتجاجات المسرحية حقيقية لامتنع الحكومات عن التطبيع. هي مسحوق وماكياج للدلالة على حرية تعبير زائفة. ولو كانت معبرة حقا عن الاحتجاج الفعلي لنزلت غالبية الشعب ولهابتها الحكومات كما كانت تفعل لما كانت لا تجاهر به قبل الثورة وقبل الحاجة إلى الحماية المباشرة لكراس اهتزت.
ومع ذلك فأنا سعيد جدا بما يجري لأن فيه اعترافين لم يعد منهما مفر: - كل الحكومات العربية تعترف بهذا التطبيع العلني أنها لم تعد تعتقد أنها يمكن أن تخادع شعوبها.
- وهذا الاعتراف تسليم بنجاح الثورة على الأقلب في قلوب شعوبها وما وقر في القلب يتحول إلى فعل: موجة الربيع الثانية بدأت.
والمعلوم أن لي موقفا من التطبيع قد يعتبر غريبا. فقد نصحت منذ عقود بأن يكون التطبيع مطلقا بين الفلسطينيين والإسرائيليين في فلسطين وأن تكون المقاطعة مطلقة بين العرب واسرائيل في الإقليم. ذلك أن الحل الذي أراه الوحيد الممكن هو ابتلاع الفلسطينيين لمن يمكن أن يبقى من الإسرائيليين في فلسطين.
وقد يبدو لابتلاع في البداية لصالح الإسرائيليين عن الاقتصار على التاريخ القصير. لكن الابتلاع بمعيار التاريخ المديد سيكون لصالح الفلسطينيين ويكفي القياس على من بقي فيها بعد النكبة. هم الآن خمس الشعب الإسرائيلي. وابتلاع اسرائيل للضفة حاليا سيجعلهم أكثر من نصفها قريبا. والحقيقة أني ميال لحل مؤقت: دولة بقوميتين تنتهي إلى استعادتها بقومية فلسطينية خالصة في تاريخ منظور.
المسارعة في إنشاء محمية عربية إضافية اسمها فلسطين على أقل من عشرها لا فائدة منها لأنها لن تكون أفضل مما هي عليه حاليا. الحل الأمثل هو أن يصبح كل الفلسطينيين جزءا من دولة واحدة وأن تصبح المعركة معركة حقوق ومقاومة للميز العنصري تماما كما حصل في جنوب افريقيا: هل بقي أثر يذكر لمن كانوا فيها أوروبيين من مثل الإسرائيليين الأوروبيين في فلسطين؟
والمعلوم أن المحاصرة لا تكون مؤثرة إلا إذا كانت من الوجهين من الداخل بالتذويب ومن الخارج بمنع الاندماج في الإقليم تماما كما حصل للأوروبيين في جنوب أفريقيا عندما حاصرهم كل الأفارقة بعدم التعامل والتطبيع معهم قبل انهيارهم. فبهذين الفكين من كماشة الحصار لن يبقى الكثير من الصهاينة واليهود الذين كانوا مواطنين عرب لا يعتبرون غزاة لأن امتنا تبنتهم وحمتهم من الاضطهاد الأوروبي منذ قرون.
والأدهى أن التطبيع لم يعد مقصورا على العلاقة بين “الدول” العربية وإسرائيل علما وأن العرب ليس لهم دول بل محميات تعتبر إسرائيل بالقياس إليها الدولة الوحيدة في الوطن العربي بل تجاوزها إلى ما يجري داخل كل محمية عربية: فالأحزاب والأشخاص الذين لهم طموح سياسي يتنافسون على إرضائها.
لذلك فالمقاطعة ليست لحماية فلسطين فسحب بل لأن بلاد العرب كلها صارت في وضعية الاختراق النسقي من عدوين مباشرين ينخران كيان الأمة أحدهما بسلاح الفتنة الكبرى (الصراع الطائفي) -والثاني بسلاح الفتنة الصغرى (الصراع الحداثوي) ويجمع بينهما الحرب على الإسلام او اللحام الحقيقي لغالبية شعوب الأمة التي بنت دولة الإسلام في الإقليم وما حوله (العرب والأتراك والأكراد والأمازيغ) لأنه سر قوتها ودورها في التاريخ العالمي.
والأمر لا يقتصر على تنافس بين المحميات العربية من أجل التودد لإسرائيل طلبا للحماية والرعاية لدى رب الجميع -ومثلهم الصف الثاني بالقياس إلى إيران والبعض يجمع بين الولاءين-بل هو كذلك تنافس بين القوى السياسية في كل بلد عربي ما يعني أن اللعبة السياسية وما يتبعها من الإيديولوجيات والاقتصادية وما يتبعها من الاجتماعيات كلها صارت بيد أجنبية إما إسرائيلية وإيرانية في الإقليم أو ممن ورائهما من الاستعمار القديم والجديد.
وكلما سمعت حزبا أو شخصا يزايد على البقية ضد التطبيع في العلن تجده منافس لهم عليه في السر بل وأكثر من ذلك نفس العلاقة بينهم وبين إيران والمستعمر القديم وذلك صحيح على ذوي الطموح السياسي من الأشخاص والاحزاب لأن من يصدق في ذلك ينتهي من الوجود في مسرح “الشوء” السياسي.
ذلك أن السياسي حزبا كان أو شخصا ليس له صلة مباشرة بالشعب إلا عن طريق الشوء السياسي وأدوات الفعل السياسي أعني الأعلام والمال. ومثلهم رجال الأعمال التي لها بهم صلة وبأداتي الفعل عامة. وكلاهما يؤديان دور الممر إلى المسموعية الشعبية التي تقاس بالحضور في الإعلام وبالمال فضلا عن رضا المافيات وهذه لم تعد محلية بل صارت دولية.
ولست أبين هذه العوامل المؤثرة في المسألة اعتذارا للمتعاملين معها بمنطقها في “دول” فقدت كل شروط السيادة وهي مسيطرة حتى على النخب السياسية في العالم الغربي نفسه بل حتى أفهم الظاهرة وأبحث عن شروط علاجها وخاصة شروط التوقي منها بالنسبة إلى من يريد التحرر منها.
وأختم بذكر الفخ الذي بدأ بعض زعماء الإسلاميين المتذاكين يقعون فيه متصورين أنفسهم أذكياء فيوهمون أنفسهم وقواعدهم بأن “تطبيعهم” الفعلي هو لخداع مافيات إسرائيل ولوبياتها في أمريكا. فهذا ينطبق عليه المثل التونسي “تحبو تحت من يمرد”.
فهم يأخذون منك أضعاف ما تعطيهم ولا يفون بشيء حتى لو صرت السيسي: أن تصبح عبدا لهم.