التصدي لسياسة تجفيف المنابع من رد الفعل إلى الفعل4 من 4

تونس في 07 – 05 – 2015

التصدي لحرب التجفيف المقومات والتاريخ

ومثلما كانت حرب التجفيف ذات حقبتين كان التصدي لها ذا حقبتين كذلك:

الصحوة الإحيائية التي تصدت لحقبة التجفيف الاستعماري والعلماني والطائفي إلى حادثة الحادي عشر من سبتمبر.

والصحوة الإبداعية التي نسعى إلى تحديد شروط شروعها في التصدي للتجفيف الصيهوني والأمريكي.

الصحوة الإحيائية

ولنبدأ بالحديث في الصحوة الإحيائية لتحديد موازين عملها. فلما كانت هذه الصحوة الإحيائية دفاعية فهي تمثل أفضل طريقة لحسبان موازينها الـمتمثلة في حسبان موازين حرب التجفيف. فكل فشل نال التجفيف يعد انتصارا لسياسة التصدي.

ولما كان الهدف جعل مآل الحضارة العربية الإسلامية من جنس مآل المسيحية اللاتينية بقتل اللغة العربية الحاملة للتراث الإسلامي ولهوية القومية المركزية في الأمة الإسلامية ( العربية والعرب) وفك عروة الوحدة الروحية الحاملة للطموح التاريخي في الدور الكوني والرسالة الإنسانية ( الإسلام والمسلمين), فإن عدم تحقيق هذين الهدفين يعد أكبر انتصارات حركة الصحوة الإحيائية :

فالعربية لم تمت بل بالعكس عادت إلى عنفوانها وصارت لغة عالمية بآدابها وبمعاملاتها المادية والرمزية في العالم الحالي فضلا عن كونها مرحلة ضرورية في تاريخ العلم والفلسفة الإنسانيين.

وأمة العرب لم تصبح أمما بعدد الدويلات العربية التي ولت حقبة الاستعمار ولن يتحقق إلا عكس ذلك خاصة بعد نشر التعليم ووسائل الاتصال الجماهيرية. بل إن حرب التحرير القومية الدينية قد أعادت إلى العربية كل الحظوظ لكي تصبح لغة الانبعاث. لم يحصل لها ما حصل للاتينية. وهذا في حد ذاته أكبر انتصار على حرب التجفيف.

أما بالنسبة إلى الإسلام فإن انتشاره لم يتوقف. والصراع من أجل إصلاحه ليس دالا على أزمة وجود وهبوط بل هو دال على أزمة نمو وصعود مثل المرور من مرحلة إلى مرحلة في أطوار النمو الطبيعي لكائن ما يزال في بداية الشباب. بل إن انتشار الإسلام في العالم منذ قرنين يكاد يعادل انتشاره في قرنيه الأولين.

وحتى مناصبة إسرائيل وأمريكا العداء للإسلام فليس من الدلائل إلا على العنفوان: فإذا كان من يعتبرهم الغرب ذروة السيادة على الروحانية الغربية كما وصفنا (إسرائيل) وإذا كانت قمة القوة المادية الغربية (الولايات المتحدة) تعتبران الإسلام عدوا أولا لهما فمعنى ذلك أن الإسلام يمثل أمل البشرية وهو على حق ألف في المائة في التصدي لعدوي الإنسانية هذين ومن ثم فهو يتضمن عناصر الانتصار.

لذلك فما يرهب هذين المتجبرين ليس بعض السلوك الشاذ الذي يمكن أن يوصف بالإرهاب بل هو هذا الأمل الذي يمثله الإسلام للبشرية الثائرة على الظلم والعبودية والساعية على الحق والحرية. وطبعا لما كان هدفا إسرائيل ( فرعا التطبيع ) وهدفا أمريكا ( مواصلة السيطرة على أوروبا بدعوى حمايتها من خطر بديل من الشيوعية والاستحواذ على مصادر الطاقة ) معلومين لنا فإن التغلب على كلتا الخطتين ممكن لكون الجمع بينهما في العلاج سهلا.

وبخلاف كل التحليلات الاسترايتيجة المتعالمة فإني اعتبر أمريكا الأداة بشرط تحقيق مصلحتها وإسرائيل الأصل. فتاريخ اليهود أشبه بتاريخ الفيروس لا يعيش إلا متطفلا على قوة العصر من نكبتهم الأولى مع الفراعنة إلى نكبتهم مع هتلر وقبلها مع بابل ومع الروس.

لذلك فإنه يكفي أن نعمل بصورة تجعل أمريكا أمام خيار وحيد للحفاظ على مصالحها في التعامل الندي معنا دون حاجة لشرطي إسرائيلي حتى ينقلب السحر على الساحر.

فإما أن تتحالف أمريكا معنا للبقاء قوة عظمى ( أعني لتحقيق هذين الهدفين اللذين لا يناقضان بذاتهما أهداف الأمة الإسلامية )

أو أن تفقد كل إمكانية لتحقيق مصلحتيها.

ويكون لنا ذلك بأن نغرقها في حرب معارك جانبية في الأحياز التي ليس فيها دول منظمة يمكن لأمريكا أن تضغط عليها وتفرض عليها حلولا وسطى أعني في أدغال جزر غرب آسيا وبقايا المستعمرات السوفياتية وفي أفغانستان والصومال الخ…هناك ينبغي أن نضطر أمريكا للوصول إلى حلول وسطى معنا.

وفي هذه الخطة بداية الانتقال من الدفاع إلى الهجوم. لكن الهجوم الحقيقي لا يتعلق بالصراع مع الأداة. بل مع الساحر. ومثلما كان النجاح الأول في الثورة المحمدية بتجاوز التوراة والإنجيل من خلال منطق التصديق والهيمنة لإصلاح التحريف فينبغي أن يكون النجاح الثاني في الصحوة المبدعة بقطع رأس الأفعى نهائيا وإصلاح انحرافات الحضارة العلمانية : فهم حرفوا رسالات السماء ورسالات الارض في آن.

ولن يتحقق ذلك إلا بإصلاح ما أفسد خلال التطبيق من قيم الإسلام ومبادئه ( التي هي القيم الروحية الأسمى) في القيم الأخرى التي هي بالإضافة إليها في نسبة التطبيق: أعني القيم الجمالية والخلقية والمعرفية والعلمية والدينية. وطبعا لا ينتظرن أحد مني أن أقدم هنا كيفية هذا الإصلاح. فهو ليس عملا يقوم به شخص مهما بلغ شأنه. بل المطلوب التساؤل عن شروط النقلة من الإحياء برد الفعل إلى الإحياء بالفعل.

والقرآن نفسه قد حدد هذه الشروط. فختم الوحي مع نفي السلطان الروحي واستبداله في الآية الأخيرة من سورة العصر بشروط الاستثناء من الخسر شروطه الخمسة : بمؤسسة الاجتهاد العام أو التواصي بالحق (الذي هو علامة البعد النظري من الإيمان الصادق) في النظر وبمؤسسة الجهاد العام أو التواصي بالصبر( الذي هو علامة البعد العملي من الإيمان الصادق ) والموقف الإيماني والعمل الصالح وبأصل ذلك كله التحرر من الخسر أو الإخلاد إلى الأرض تلك هي شروط النقلة من رد الفعل إلى الفعل في هذه المجالات الأربعة بهداية من المجال الخامس الذي لا يأتيه الباطل: قيم القرآن الروحية ومبادئه الوجودية.

وذلك هو عينه ما لم يتحقق من الثورة المحمدية لكونه بقي مجرد مشروع حال دون تنفيذه اقتصار الجدود على تبني ما فرضته السنن البيزنطية والفارسية واليونانية واللاتينية على الرقعة التي حاول الإسلام إخراجها من الجاهلية ( الإصلاح العملي ) والتحريف ( الإصلاح النظري ) .

فإذا علمنا أن الإصلاح المحمدي تمثل في تحرير المعرفة الإنسانية من وهم الإطلاق الذي يجعل الذوق عبادة هوى ومجرد إشهار لبيع السلع أو تخدير الإرادة الإنسانية وتحرير العمل من وهم الإطلاق الذي يجعل الأخلاق عبادة الدنيا وإغراء الحاجة البشرية. ومن ثم إفساد النوع الأول نوعين من القيم بتحريف نوعين آخرين.

فالمعرفة التي صارت خاضعة لمنطق القوة التقنية أنهت البعد الذوقي من المعرفة الإنسانية والسياسة التي صارت خاضعة لمنطق القوة الاقتصادية أنهت البعد الخلقي من العمل الإنساني. والعلة في ذلك كله تأليه الإنسان ونفي القيم الروحية المتعالية عليه: وهذا جوهر ما يسمى بالديموقراطية في آخر درجاتها أعني العولمة التي هي مطلق سلطة عبادة الهوى والدنيا بالمعنيين اللذين حللنا هنا.

الصحوة الإبداعية

لذلك فإنه لا ينبغي للصحوة الإبداعية أن تردف خطأ تبني الأنظمة العربية التي أجهضت الصحوة الإحيائية نظام الحكم السوفياتي بتبنيها هي نظام الحكم الأمريكي:

فالديموقراطية لن تكون إلا رعاية عامة مغشوشة. ذلك أن الديموقراطية البرجوازية ليست أفضل من الديموقراطية الشعبية. كلتاهما أكثر من آلية يمكن أخذها كما يذهب إلى ذلك بعض المتكلمين باسم الصحوة من غير علم. ليست الديموقراطية مجرد آلية بل هي نفي لكل حقيقة تتعالى على بعض من بيدهم القدرة على حكم الناس بعبادة الدنيا والهوى أعني مافيات السيطرة على الدنيا ( التأثير المادي على العقل الظاهر بحكم حاجات الجسد بالمضاربات الاقتصادية ) ومافيات السيطرة على الهوى ( التأثير الرمزي على العقل الباطن بحكم حاجات النفس بالمضاربات الثقافية ) مافياتهما التي تصبح عندنا مضاعفة المافيات المحلية والمافيات الأجنبية التي تنصبها وتحميها.

ما ينبغي أن يحكم صحوتنا هو الرعاية العامة.

فالكل ينبغي أن يسهم في الرعاية فيكون راعيا. والرعاية العامة – لا الشورى التي هي آلية من آليات الرعاية العامة – ليست ضربا في عماية مثل الديموقراطية العولمية التي يريدون فرضها ويتصور البعض أنها المخرج.

فهي ستزيف قبليا بآليات التلاعب بالهوى والدنيا وستزيف بعديا بآليات الغش والخداع. إنها ستكون عندنا الكذب المطلق والنسقي الذي تغطي بمقتضاه مافيات الشمال المتحالفة مع مافيات الجنوب ما ظلت في خدمتها. وحتى عند الصدق فإن الديموقراطية لا تعتمد إلا على منطق الصدفة والقمار خاصة منذ أن قررت أمريكا أن تجندها لكي تحقق غايات حرب التجفيف تفرض من تريد من الدمى وتمنع بها من تريد عندما لا يكون من الدمى الذين تعتمد عليهم.

الخاتمة **:**الرعاية العامة

فالرعاية العامة التي تناسب رفض الإسلام لتأليه بعض الناس أو حتى الإنسان بصورة كلية نظام يرفض الديموقراطية لكونها ليست إلا نظاما يؤله بعض الإنسان تعويضا لسلطان المافيات الظاهرة بسلطان المافيات الخفية في العولمة الحالية.

نظام الرعاية العامة ينبغي أن يكون نظاما يستند إلى منطق رياضي كما يصف القرآن الكريم قيام كل المخلوقات. وقد حاولنا وصف بعض مبادئه في كتابنا آفاق النهضة العربية.

فالتداول على الحكم ينبغي أن يكون مستندا إلى الكشف الرياضي العلمي عن نسب كل أفراد الأمة بحسب الجنس والسن والوظائف الرئيسية التي يتكون منها سلم توزيع العمل في المجتمع عملا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض عين تشريعا ومراقبة.

وبحسب هذا الكشف يتكون مجلس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يمثل إجماع قيم الأمة التي لا يعلو عليها شيء بعد ختم الوحي وفي ما سكت عنه خاصة وقد نفى القرآن الكريم كل سلطان روحي لوصي أو لدعي أو لفقيه.

ووظيفة هذا المجلس المبني على مراقبة تجنيب المسلمين ما وصفنا من تحريف للقيم بالاعتماد على السلطة المعنوية لا غير كما هو الشأن في حفظ قواعد اللغة أو قواعد السلوك التي ليس جزاؤها وعقابها إلا رمزيا ومعنويا. فهو المحافظ على شروط الإجماع العام رغم تعدد الأحزاب في السلطة التشريعية ( التي تحدد الحقوق والواجبات بالاجتهاد ).

أما السلطة التنفيذية فيعينها الحاصل (الحزب أو الأحزاب) على أغلبية في السلطة التشريعية وينتخب رئيسها نواب المجلس التشريعي (تنفذ الاجتهاد)

والسلطة القضائية التي ينتخبها تنظيمات المجتمع المدني (مراقبة الإنفاذ)

والسلطة التربوية التي ينتخبها أولياء الأسرة من الآباء والأمهات والجدود والجدات (تكوين الإنسان بحسب تلك القيم).

والسلطة الإعلامية ينتخبها مجلس الإعلام العام المؤلف من نواب يعينهم كل المنتخبين السابقين ولا يمكن عزل من ينتخب فيها خلال نيابته (تنبيه الرأي العام لكل خلل في الوظائف السابقة).

وتلك هي السلط الخمس الضرورية في كل عمران بشري. ليست السلط ثلاثا بل هي خمس. وهي في الحقيقة لم تصبح ثلاثا إلا بمقتضى ذلك التحريف الذي أشرنا إليه:

حيث استحوذت القيم السياسية المحرفة على القيم الخلقية بحصرها في خدمة الاقتصاد

واستحوذت القيم المعرفية المحرفة على القيم الجمالية بحصرها في القيم التقنية.

فكان أن قتلت القيم الروحية وزال الفارق بين القيم المتعالية وعبادة الإنسان لهواه ودنياه في نظام تدرج شيئا فشيئا إلى أن برزت طبيعته الحقيقة في نظام المافية العولمية: مافية المضاربات في القيم المادية ومافية المضاربات في القيم المعنوية لاستعباد الإنسان جسده بالأولى وروحه بالثانية.


التصدي لسياسة تجفيف المنابع من رد الفعل إلى الفعل4 من 4 – أبو يعرب المرزوقي

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي