التصدي لسياسة تجفيف المنابع من رد الفعل إلى الفعل3 من 4

تونس في 07 – 05 – 2015

سياسة تجفيف المنابع مقوماتها وتاريخها

مرت حرب تجفيف المنابع بحقبتين كلتاهما مضاعفة.

فأما الأولى فذات صلة باستراتيجية الاستعمار التقليدي. وهي حقبة لم يكن القصد فيها استيعاب المواطنين بل كان خطة حدها الأقصى هو غزو أوروبا البروتستنتينية لأمريكا الشمالية وكذلك في استراليا وبعض الجزر البدائية وحدها الأدنى هو غزو أوروبا الكاثوليكية لأمريكا الجنوبية وكذلك في الجزائر وافريقيا ما وراء الصحراء.

وأما الثانية فذات صلة باستراتيجية البعث التوراتي والصهيونية. وهي عاجزة عن كلا الحدين الأدنى والأقصى بمقتضى العائق الديموغرافي أولا وبمقتضى طابع الوجود التطفلي الذي يريد أخذ ثمرة عمل الآخرين الذين ينبغي الحفاظ عليهم للتطفل عليهم صنيع كل الفيروسات.

لذلك فهي لا تريدهما. إنما هي ميالة إلى نفس الخطة التي مكنتها من السيادة الخفية على الغرب كله وخاصة على نخبه بكل أصنافها من خلال التحكم في شروط تدرجهم المهني ووجودهم العمومي ومن خلال التحكم في أسرار وجودهم الخصوصي ثم السيطرة على رمزي عصب الحياة أعني رمزي الغذاء المادي والغذاء الروحي اللذين هما المال والاقتصاد للأول والفن والثقافة للثاني وفي أداتي السلطان المشرف على توزيعهما في المجتمع أعني القوة العسكرية والاستعلام والقوة السياسية والإعلام.

ومن السخف عند الكثير من استراتيجي العرب الاستهانة بهذا البعث وتصوره مجرد حلقة تابعة للاستعمار التقليدي أو للامبريالية الأمريكية. فهذان يعدان أمام هذا البعث مجرد لعب أطفال لكونه يمثل أرقى درجات الحروب البايولوجية أعني فنيات الفيروس. كلاهما من وسائله حتى وإن بدا لسطحيي الاستراتيجيين من مخرفي الهوائيات العربية وسيلة لهما : سلطان الصهيونية أقوى من سلطان الاستعمار لأنه إمساك بآليات القرار في الدول التي بيدها القرار الدولي.

وإذا كانت الحقبة الثانية متقدمة النشأة على حدث الحادي عشر من أيلول لكونها بدأت منذ الشروع في إعادة بناء الدولة الإسرائيلية وصيرورتها قوة عظمى – بالقياس إلى من حولها وبمقتضى سلطانها في قوى العصر العظمى – قوة تفرض إرادتها على العالم العربي والأوروبي فإنها قد اتضحت منذ حدث الحادي عشر من أيلول الذي مكن الصهيونية من فرصة العمر. فهي قد استطاعت أن تجعل قوة العصر الأعظم تتبنى استراتيجيا تصورها للعلاقة بين الغرب والإسلام الذي يتهم بكونه مصدر الإرهاب والتسليم بضرورة فرض حرب تجفيف المنابع التي اعتبرتها إسرائيل شرطا أولا في كل معاهدات السلم التي اقترحتها على الدول العربية. ولنحلل الحقبتين :

الحقبة الأولى بمرحلتيها وبروز علامات فشلها في الصحوة**:**

تجفيف المنابع في المرحلة الاستعمارية جمع بين خطتين. فالاستراتيجيون اختلفوا على خطة التجفيف. فبعضهم مال إلى التجفيف بالمنع. والبعض الآخر مال إلى التجفيف بالتعكير. والسلطة الاستعمارية جمعت بين الحلين :

فكلفت الجيوش والإدارات السياسية والمدنية بالمنع.

وكلفت بعض المستشرقين والإدارات العلمية والاستعلامية بالتعكير.

و كلما ثبت أن بعض الينابيع يستحيل إنضاب مائها بالمنع كان التعكير أفضل الحلول. فالماء يصبح بالتعكير غير مشروب أو يصبح شربه قاتلا. فإحياء بعض التراث هدف كيفيته قتل أصحابه به. وهذا أيضا من الحرب البايولوجية: تحارب إفراز بعض الحشرات بإفراز بعضها الآخر بشرط أن يكون من جنسها حتى تمكن مغالطتها به.

لذلك فالمعركة الفكرية التي قادها الاستشراق الصوفي والعسكري مثلا ردا على الصحوة التي كان شكلها الأول رباطيا صوفيا اعتمد على إحياء حروب الماضي وحزازاته قصدا مع تشجيع التصوف الشعبي الذي يعتمد الشعوذة والخرافات.

ولعل أفضل ممثل لهذه الحرب نجده في بحوث لوي ماسينيون(النصيرية) أو برنار لويس (الحشاشين) في الفرق المغالية. فلم يكن ذلك منهما حبا في العلم بل خدمة لغرض تشتيت المشرق العربي عامة والشام خاصة لعلمهما بأنه كان يسعى إلى بناء الدولة القومية التي من شروطها تجاوز حروب الفرق الدينية التي ورثها عن الماضي الوسيط. فماسينيون ضابط مخابرات ولويس معلوم التصهين.

لكن هذه الخطة التي يهديها الفكر الاستراتيجي الذكي للاستعمار بهدف التفتيت والتشتيت سرعان ما صارت حربا فجة بمجرد أن أصبحت بيد نواب المستعمر أعني النخب العلمانية والطائفية التي سلمها الحكم من بعده. ذلك أن جيش الاحتلال وإدارته السياسية والمدنية كانا أكثر كفاءة من شرطة الأنظمة المتخلفة ومافيات الأحزاب المتكلسة والإدارة الناعسة التابعة لها.

اكتفت النخب العلمانية والطائفية بمضغ ثمرات البحوث الاستشراقية حطا من الإسلام والمسلمين وتشكيكا في قيمة ثقافتهم وفي طموحهم التاريخي.

ولعل أبلغ الأمثلة نجده في تونس كذلك: فجل مزاعم ما يسمى حضارة في أقسام الآداب بالجامعة التونسية ليست إلا ممضوغات منحطة من أقل معارف الاستشراق عمقا.

لذلك فأنت تراهم يركبون مراكيب الاستعمار (المهمة التحضيرية) والصهيونية (التطبيع ) وأمريكا ( حقوق الإنسان ) ليواصلوا مهمة التجفيف متناسين أن التحضير والتطبيع وحقوق الإنسان كلها أمور لا تكون من فوق وبالقوة لكون شرط شروطها السيادة الشعبية التي تشرع أو إن شئنا الشرعية الديموقراطية التي لا يؤمنون بها ويريدون فرض وصايتهم على الشعوب لكونهم يمثلون نخبة التنوير الدكتاتوري.

لكن ذلك بأصنافه الأربعة يؤدي ضرورة إلى أثر عكسي (إضافة راهنة : وهو أثر بين في عودة تركيا لتراثها وبداية عودة تونس وسيأتي دور مصر قربيا). فما فشل فيه الاستعمار والصهيونية وأمريكا لن ينجح فيه بعض “جوكارات” الكنيسة القديمة والحديثة ( الاشتراكية الأوروبية التابعة للصهيونية).

لن يستطيعوا القضاء على الهوية الإسلامية وتذويب قلبها أو الأمة العربية خاصة بعد أن تبين التحالف التام بين هذه الميول الأربعة: 1-مهمة الاستعمار التحضيرية المزعومة2- وتطبيع الصهونية 3-ومزاعم الدفاع عن حقوق الإنسان الأمريكية 4-والجمع بين ذلك كله عند جوكارات العملاء الذين يتنكرون باسم الإصلاح الذي لا يمكن أن يحققه إلا المؤمنون بالرسالة الإسلامية بأنفسهم.

الحقبة الثانية بمرحلتيها و تعثر الصحوة وحاجتها إلى الإصلاح**:**

تعد الحقبة الثانية أخطر من الحقبة الأولى بكثير. فهي تضيف إلى ما فيها من أخطار حصيلة الأخطار التي نتجت عن الحقبة الأولى.

وأول هذه الأخطار هو ثمرة التجفيف الأول ثمرته المرة التي جعلت بناء الهوية يستند إلى مبدأين سطحيين: تصور الهوية الماضية في ضوء ما يستحسن من الغرب وتأسيس كل ما يؤخذ منه على ما يعد شبيها به من الماضي الذي صار لا يقرأ إلا في ضوء البحث عن مثيل لما يراد أخذه من الغرب.

أما الثاني منها فهو فشل سياسة التجفيف الأولى: فالنخب التي تولت الحكم بعد الاستعمار فشلت في تحقيق التحديث السوي. لذلك فلن يجد أصحاب حرب التجفيف في الحقبة الثانية هذين الضربين من التأييد الداخلي الذي وجده أصحاب التجفيف في الحقبة الأولى مما سيلجئهم ضرورة إلى الفرض بالقوة.

فلا وجود لقيادات من الجنس الأول (أصحاب قراءة الذات في ضوء الآخر) ولا من الجنس الثاني (تعويض الذات بالآخر مباشرة وصراحة) يمكن أن يكون لها رصيد يجعل الناس يثقون فيها بوصفها مصلحة كما تدعي. وهذا هو أكبر الأدواء. ذلك أن المنتسبين إلى الحركة الأصلانية تجاوزوا ذلك الفهم الأول. والقيادات العلمانية فقدت كل مصداقية خاصة بعد أن أدت الهزائم بها إلى استعمال الدين في أفسد استعمال ممكن: مجرد إيديولوجية لحماية أنظمتهم وأسرهم ومصالحهم.

وهذا هو المأزق الحقيقي: مع من ستتعامل أمريكا وإسرائيل في سياسة تجفيف المنابع؟ وكيف سيتعاملان ؟ هل سيجدان من قيادات الإسلام الثائر من يقبل الدخول في لعبتهما مثلما وجد الاستعمار القديم في القوميات الثائرة من دخل في لعبته؟ (إضافة راهنة : هذا هو التحدي الذي ينبغي لإسلاميي الثورة أن يكونوا شديدي الوعي به لتجنبه).

والمعلوم أن المرحلة الأولى من هذه الحقبة الثانية قد بدأت بدايتها الصريحة بعد حرب 73 وما انتهت إليه من صلح بين النظام المصري وإسرائيل. ذلك أن من شروط معاهدات السلم الإسرائيلية مع العرب أمران يجمع بينهما مفهوم التطبيع: العلاقات الكاملة وما يسمى بثقافة السلم :

وإذا كان الفرع الأول من التطبيع يمكن أن يعد أمرا غير منتسب إلى حرب التجفيف (العلاقات الكاملة)

فإن الفرع الثاني ( ما يسمى بثقافة السلم ) هو جوهرها. إذ ليس المقصود به غير عكسه أعني الحرب على كل شروط الصمود والحفاظ على الهوي.

وغاية الشرطين تمكين إسرائيل من تحقيق ما حققته في الغرب كله: أن تصبح لها القيادة الروحية العالمية التي لم يبق صامدا أمامها غير المسلمين لكون أي إنسان بسيط الثقافة يعلم أن ثقافة الحرب العدوانية والإبادية لا توجد في القرآن بل في التوراة.

ومع ذلك فهم يتصورون القرآن الكريم نصا عدوانيا لمجرد كونه يعلم المسلمين العزة وعدم الخضوع ويعطيهم مسؤولية كونية في الحفاظ على الحرية الروحية ومنع الفساد في الأرض أعني علتي الجهاد الوحيدتين في القرآن الكريم.

أما المرحلة الثانية من هذه الحقبة فهي قد بدأت عندما استطاعت الصهيونية إقناع الولايات المتحدة الأمريكية بعد 11 سبتمبر بأن ما كان هدف إستراتيجتها الذاتية ينبغي أن يكون ثقافة الغرب كله واستراتيجيته المستقبلية. وطبعا فهي ما كانت لتنجح في ذلك لولا شرطين :

أحدهما يعود إلى أخطاء القيادات الناطقة باسم الإسلام بغير حق لجهلها به وبكيفية التعامل مع أعدائه

والثانية هي مطابقة ذلك لهدفي أمريكا: البحث عن البديل من علة مواصلة استعمار أوروبا بالحلف الأطلسي ومواصلة الاستحواذ على موارد الطاقة.


التصدي لسياسة تجفيف المنابع من رد الفعل إلى الفعل3 من 4 – أبو يعرب المرزوقي

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي