تونس في 07 – 05 – 2015
مفهوم التجفيف غايات وأدوات
مفهوم تجفيف المنابع مفهوم مجازي مستمد بالاستعارة من الميدان الزراعي. وهو مفهوم سلبي إذ إن هدفه هو القتل بمنع الماء الذي هو سبب الحياة. فهو يعمل بسلب قوله تعالى: ” وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ” أي إنه يجعل من شيء ميتا بمنع سبب الحياة أو الماء. إنه يعني قطع الماء على النبات ليموت من ذاته دون حاجة إلى اقتلاعه.
ومن ثم فهذا المفهوم السلبي مستمد من منطق الحرب البايولوجية في شكلها البدائي. لذلك فهو يعتمد على تصورين قاصرين يعللان النتائج العكسية التي يؤول إليها في الأغلب وخاصة عندما ينتقل استعماله إلى النخب الغبية التي يورثها إياه الاستعمار فتستعمله آليا وببلاهة.
لم يفهم هؤلاء السخفاء أن المستهدفين بهذه السياسة يمكن بمجرد إدراكهم لمقاصدها أن يقلبوا مفعولها فيجعلوه عكسيا تماما, خاصة وقد حصل ذلك الاستعمال دون علم حقيقي بالمنابع ودون علم حقيقي بكيفيات التجفيف تخيلا منهم أن المدرسة العلمانية والثقافة المبتذلة بوصفهما أداتين للتحديث القصري كافيتان لتحقيقه كما حصل في التجربتين التركية والتونسية (خلافا لشرط فاعليتهما العقلية أعني الإقناع والخيار الحر).
وقد ذهب البعض في تونس إلى المطالبة بدور شبيه بما تسعى إليه أمريكا في ما تسميه الآن حربها على الإرهاب فاقترح خدمته على أمريكا بعد فشله في اقتراحها على النظام وعلى فرنسا ( انظر رسالة أحد دعاة التجفيف في تونس إلى نيويورك تاميز بتاريخ الثالث من كانون الثاني 2002: بعنوان Reaching the Next Muslim Generation).
فأما التصور الأول فهو ظن أصحاب هذه الحرب الظاهرات الإنسانية خاضعة للعلية الآلية مثل الظاهرات الحية عامة.
وأما التصور الثاني فهو قياسهم حياة الحضارات على حياة النبات ومن ثم تطبيق علية الزراعة على الحضارات.
لكن الإنسان غير النبات. فالنبات لا ينبط الآبار ولا يذرو الرمال عن العيون عندما تجف المنابع بخلاف الإنسان. بل النبات نفسه لا يخلو من عناد للرد على المجففين: فهو يمد العروق ويستأنف الحياة ببذوره التي تربو بها الأرض بمجرد أي قطر.
ثم إن المنابع الروحية لا تجف لكون انبجاس الماء منها يكون دائما بحسب طاقة واردها على النفاذ إلى أعماقها ولا يمكن لأي مجفف أن يجفف دوافع الورود خاصة إذا تصور نفسه قادرا على تحقيق ما عجز عنه الاستعمار الفرنسي. ففي المغرب الغربي جربت فرنسا كل فنيات التجفيف فكان ان حصل العكس ليس في المغرب العربي وحده بأن عادت جذوة القيم الإسلامية حتى وإن تبدى شكلها بل إني أتوقع أن يتعدى الأمر إلى فرنسا نفسها فيغزوها. فقد لا يمر أمد بعيد حتى تكون فرنسا بعده ذات أغلبية ترد نفس المنابع فتشرب من الماء التي كان هم فرنسا الأول والأخير تجفيفه.
ويعرف فن التجفيف القتالي بهدفه سلبا وإيجابا.
فهو سلبا يستهدف إزالة مقومات وجود الآخر المستقل وشروط المقاومة الذاتية عنده.
أما إيجابا فغايته تحقيق تبعية الآخر واستعباده ليصبح في خدمة أغراضه.
وقد يتنكر خداعه الاستراتيجي في شكل سياسة يدعو من يتصور نفسه الأقوى الأضعف إلى الاندماج في هويته بحجة الإيمان بالمساواة والعدل والأخوة.
كما يعرف بأدواته التي تنقسم إلى نوعين بحسب سلبية الهدف أو إيجابيته :
فسلبا تكون الأدوات إضافية إلى ما يراد حذفه بمجرد المنع مثل منع تعليم اللغة العربية في المغرب العربي أو مثل منع تدريس القرآن الكريم أو التاريخ الإسلامي في سياسة تجفيف المنابع عند العلمانيين من خريجي مدارس التبشير الفرنسية بنوعيها الكنسي والماركسي.
وتكون الأدوات إيجابا بفرض ما يراد بديلا مثل تعليم الفرنسية بديلا من العربية أو تعليم الإيديولوجية الماركسية بديلا من الدين. وقد جربت الطريقتان فأنتجت عقم المتفرنسين ولا تجد إبداعا حتى بالمعنى الحديث في المغرب العربي إلا بين ذوي الثقافة الأصيلة.
ولما كان النوعان من الأدوات يستهدف الحصانة الروحية فإن الأساس فيهما هو الحرب المعنوية والنفسية لتهديم مقومها الأساسي تشكيكا في الإيمان بالذات والهوية أو في عقيدة ” خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ” ذات الرسالة الكونية.
ذلك أن مقومات الهوية الحضارية (اللغة والتقاليد والتاريخ والدين بما هو شريعة وعقيدة) ليست بذات معنى من دون هذا الإيمان بالذات الحضارية التي هي منزلة وجودية تتصور الذات نفسها بها فتعلل وجوب قيامها بدور كوني.
لذلك فمثلما يتنكر الهدف في شكل الدعوة إلى الاندماج تتنكر الأداة في هيأة الدعوة إلى النمط الحضاري الذي يريد العدو وعملاؤه فرضه باسم كونية زائفة بديلا من السعي إلى الكونية التي لا يمكن أن توجد إلا في المثال الأعلى (الذي هو بالطبع غير حاصل عند كلا الطرفين).
وهذا التنكر هو الذي ينتج المعركة الزائفة التي يخوض فيها أعشار المثقفين, أعني: معركة الخيار بين الاندماج وعدمه في حضارة الغازي بالثبات في حضارة الأهل الماضية بديلا من المعركة الحقيقية التي هي معركة الحل الوحيد الممكن للانبعاث الحق: إبداع البديل الكوني للإنسانية كلها, لكون الحد الأدنى للعظيم من الأمم هو السقف الذي حدده ماضيها.
ذلك أن فشل المستعمر في استيعاب المستعمَر وفشل المستعمَر في صد المستعمر للحفاظ على استقلاله دليل على وجود كلي أسمى من حضارتي المتصارعين.
ثم إن المغلوب الحالي قد يصبح غالب الغد بخلاف نظرية ابن خلدون, خاصة إذا كانت المغلوبية نفسها حيلة لخداع العدو. وهذه الحيلة هي التي أنصح بها كل العرب والمسلمين المهاجرين الذين يمكن أن يجعلوا من الاندماج القصدي في الشكليات مع المحافظة على الجوهر ( تعلم اللغة العربية وحفظ القرآن الكريم ودراسة التاريخ الإسلامي وتنظيم الجماعة الإسلامية المهاجرة في فعل الاندماج ظاهرا وفي فعل الصمود باطنا ) أكبر خطة غزو بايولوجي حضاري طويل المدى, خاصة والغرب كله يشكو من غلبة الشيخوخة وقلة النسل.
ويعني ذلك أن الخطة لا تتمثل في الاندماج أو في عدمه بالحفاظ على شكله المغلوب بل في إبداع شكل جديد ينتقل من رد الفعل الذي يخدم استراتيجية الغازي المتمثلة في معركة أنماط عيش حضاري لتعويضها باستراتيجية معركة القوة الحيوية للريادة الكونية.
التصدي لسياسة تجفيف المنابع من رد الفعل إلى الفعل2 من 4 – أبو يعرب المرزوقي