لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالتشخيص والعلاج لأزمة الأمة: النموذج المصري والتونسي
إذا بقيت مصر على ما هي عليه ولم يقم الشعب المصري بما قام به الشعب التركي ليخرج المافية العسكرية الفاسدة من الاستبداد بأمره فلن تخرج مصر وحدها من التاريخ وربما من الجغرافيا بعد تجفيف عروقها بل هي ستخرج كل الاقليم العربي (بمن فيه من غير العرب) معها لأن شعبها يمثل ربع سكانه. وحتى يكون كلامي واضحا فمصر التي يحكمها السيسي هي غاية الانحطاط الذي اصابها منذ بداية ما يسمى بثورة الخمسينات إلى اليوم أعني منذ أن حكمها العسكر. والمقارنة مع تركيا في الحل علتها المقارنة أيضا في المشكل. فتركيا قبل أن يحسم أمر العسكر نهائيا في السنة الماضية كان يحكمها العسكر. فكان مسار تعافيها متناسب طردا مع الحد من تدخله بسبب شروط الدخول إلى السوق الأوروبية وهو ما مكن من وصول حكم رشيد كاد القضاء عليه يتم في السنة الماضية لولا أن الشعب التركي فهم الفرق بين حال تركيا المدينة قبل النظام الحالي وتركيا التي بدأت تصبح عملاقا بفضل صلاحه. وما جعل العلماء العرب وإيران وإسرائيل وطبعا بقيادة رئيس جوقة الإرهاب العالمي أي الولايات المتحدة عجلوا بانقلاب السيسي خوفا من أن يحدث في مصر ما حدث في تركيا من استرداد العافية بحكم رشيد اختاره الشعب بإرادته الحرة ومن ثم فهو لن يكون عميلا لهم وحاميا لمصالح أعداء شعبه. ولما نجحوا في الانقلاب على الشرعية في مصر ظنوا أن ذلك بات ممكنا في تركيا فاشترك نفس المجرمين في الانقلاب الفاشل ولله الحمد. والمهم في هذا الفشل هو من أفشله. صحيح أن القيادة الراشدة كان لها دور كبير في حسن التصرف وحكمته لكن البطل الحقيقي هو الشعب التركي الذي فتح عهدا جديدا للأمة. وما ظلت قيادات الشعب المصري تقدم صراع الحضارات الداخلي على تحقيق شروط الحرية والكرامة للشعب كله بصرف النظر عن الفروق في الرؤى الحضارية بين التأصيلي والتحديثي فسيظلون مجرد أدوات للصراع الحضاري العالمي ضد الإسلام والامة ولن تقوم لمصر قائمة فتصبح أضحوكة العصر. ولأن دورها في الإقليم العربي ذو ثقل فإن مهزلة الصدام الحضاري الداخلي المقدم على شروط النهوض الحضاري المتصالح مع الذات صارت “لبانة” كاريكاتور النخب التأصيلية والتحديثية وباتت الأنظمة العربية عسكريها ثم قبليها تدعي خوض معركة التحديث وهي الحائل الأول دون النجاح فيها. فصار الحمار السيسي والغبيان المراهقان من الخليج يقودان العلمنة التي ليس فيها منها إلا التشجيع على الانفلات في ما دون السرة أما القيم التي فوقها فهي آخر همومهم لأنها لا يمكن أن تسمح باستبدادهم وفسادهم جزاء الاعداء للعملاء من الحكام والنخب مقابل سيطرتهم على العباد وثروات البلاد. لن يكون كلامي على مصر بمجرد المماثلة مع تونس -لتشابه الوضعين-لأني لا أكتفي في تحليلي على التشابه بل سيكون كلامي مبنيا على لقاءات حقيقية مع أصناف النخب المصرية في تونس وفي مصر وفي السعودية وفي تركيا في مناسبات عديدة مكنتني من الحوار المفتوح معهم لفهم ما يجري عيانا وليس مجرد تصور. ففي تونس حضر الكثير منهم والتقيتهم على هامش مؤتمر النهضة الثامن الذي دعيت إليه مثلهم وفي السعودية كان بمناسبة أول جنادرية حصلت بعد الانقلاب وفي مصر كان قبل أسبوع من الانقلاب بمناسبة مشاركتي في ندوة علمية أعدتها جامعة برلين الحرة بالتعاون مع دار العلوم. وفي استنبول عديد المرات. ففهمت أمرين أحدهما يصف غاية التردي والانحطاط الذي آل إليها وضع مصر -مثلها مثل تونس واعتقد أن الأمر عام في كل بلاد العرب-وفي آن بداية الفرج: فالسيسي ونظامه لا يمكن أن يوجد قرار دونه فهو في أسفل سافلين: مصر يقودها أحقر عميل يحركه أرذل أمير بالرز فيصبح جيش 72خاتم في إصبع العدو؟ والأمر الثاني وهو الأهم هو علة نجاح الانقلاب في مصر. وهي علة كتبت فيها سابقا من منطلق معرفتي بنخب تونس وما كنت أريد التعميم على نخب مصر رغم أن لي علاقة بنماذج من اصنافها بعضها في مستوى اللقاءات الأكاديمية في مصر وخارج مصر: صدام الحضارات الداخلي الاقوى من أصله الخارجي. الصل الخارجي لصدام الحضارات لا يحتاج إلى أن أعرفه فهو خرافة نهاية التاريخ وخرافة الانتقال من الحروب بين الشعوب لغايات سياسية واقتصادية إلى الصدام بينها لغايات حضارية تغطي عن النوع الاول وهما كذبتان وضعهما صحافي صغير جعلوه علامة عصره في الاستراتيجيات المحددة لتاريخ الإنسانية. ومن يفهم حتى قليلا في الفلسفة يعلم أنها ترجمة صحفية لفكرتين هيجليتين هما: فكرة نهاية التاريخ وفكرة صراع أرواح الشعوب. ولا أنوي الكلام في سخافة النسخة الصحفية الباهتة لان فضلت دحض الأصل في الهيجلية نفسها. فليس للتاريخ نهاية قبل نهاية الإنسان ولا تحركه روح هيجل ولا مادة ماركس. المشكل ليس مع هذه الأسطورة التي تخفي الفواعل الحقيقية في التاريخ بنفس الطريقة التي كانت تخفيها الصبغة الدينية لها من جنس ما يسمى بالحروب الصليبية. فالتبرير الديني لهذه الحروب كان خدعة كنسية وحكام بما يسمى الحق الإلهي في الحكم لحملة استعمارية تريد نهب ثرة الشرق وثقافته. وهو ما يحاوله الغرب حاليا بدعوى نشر حضارة الديموقراطية والحرية والكرامة الإنسانية ويجمعها مفهوم حقوق الإنسان التي لا يطبقها إلا عنده ويحارب كل من يسعى إليها حقا ولا يسمح إلا لاستغلالها مبررا لحربه على كل الحضارات حتى يفرض نموذجه بإخضاعهم لعملائه حتى يخدموا استعماره لشعوبهم فما يسميه ديموقراطية ويسمح به لغيره هو جمهوريات الموز. أما إذا اختار شعب من الشعوب من يمثل إرادته وأهم عنصر في إرادة الشعوب هو التشريع الذاتي (أوتونومي) فإنه يحاصرها ويحاول إفساد نخبها وإن لم ينجح يسعى لإفلاسها وإن لم ينجح يحدث انقلابا فيها وإن لم ينجح يحدث فيها حربا أهلية. كل الحروب الأهلية اليوم وخاصة في بلاد العرب هي حروب علتها النسخة المنحطة من صدام الحضارات بين كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث. فلا فرق بين طالبان ومراهقا الخليج: الأولى كاريكاتور تأصيل والثانيان كاريكاتور تحديث. وكل النخب العربية التي تقبل بالصدام الحضاري الداخلي هي كذلك. فعندنا في تونس مثلا: لا فرق بين اليسار الاستئصالي والسلفية الجهادية. كلاهما كاريكاتور الأول من الحداثة والثاني من الأصالة. ولا علاقة لهذين الكاريكاتورين بما يدعيان الكلام باسمه. فلا السلفية الجهادية إسلامية ولا اليسار الاستئصالي حداثي. كلاهما يعيش صداما حضاريا داخليا. شخصت الداء وبقي البحث عن الدواء. لحسن الحظ يوجد في الأمة من تحرروا من هذين الكاريكاتورين ورغم قلتهم في الحداثيين وكثرتهم في الإسلاميين فإن وحدتهم لم تحصل بعد. ولا يمكن أن تخرج الأمة من صدام الحضارات الداخلي من دون أن يكثر الحداثيون من هذا الصنف وأن يترك الإسلاميين لهم الفرصة. فالعيب كل العيب على الإسلاميين الذين أساؤوا فهم طبيعة المعركة ففهموا الديموقراطية فهما سطحيا وآليا متصورين أنها تقاس بالأغلبية والاقلية وليس بضرورة الحظ المتساوي للتقابل الطبيعي في السياسة بين خمسة خيارات لا يمكن تصور السياسة من دونها في كل حقب التاريخ الإنساني. وهذه سنة تاريخية تشبه القانون الطبيعي في الحياة السياسية استنتجتها من تدبر محركات التاريخ بعد تجاوز تبريرات الحركة التاريخية بالعامل الديني (في القرون الوسطى) أو بأرواح الشعوب (هيجل) أو بالطبقيات (ماركس) وهي سنة اكتشفت لاحقا عندما حاولت فهم القرآن فلسفيا أنها عين تفسيره للتاريخ. فمحركات التاريخ هي عين مقومات الإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض منها مورد رزقه ومستخلف فيها منه قيم استعاره لها إخلادا لها أو تعاليا عليها. وهذا يعني أن كل القوى السياسية تقبل التصنيف إلى هذين النوعين بالوصل بين البعدين أو بالفصل بينهما. فتكون الأحزاب خمسة ضرورة. ويمكن باستعمال الاستعارة المكانية التي ورثناها عن الثورة الفرنسية أن نعتبر الاحزاب خمسة على النحو التالي: أقصى اليمين واقصى اليسار ويسار اليمين ويمين اليسار والمركز أو الوسط الذي لا يصنف في أي منها. فيكون طرفان حدان متقبلان تقابل الاقتصار على الاقتصاد أو الاقتصار على الاجتماع. ولما يفشل هذان الخياران في نظام يصبح للقاعدة الشعبية فيه دور يأخذ الأول بعضا من الثاني والثاني بعضا من الاول فيكون يسار اليمين ويمين اليسار بعد اليمين المتطرف واليسار المتطرف اللذين يمكن تصورهما في نظام فاشي قومي أو ماركسي ليس للشعب في حكمه رأي. أما الوسط فهو الحزب الانتهازي الذي ينضم إلى الحزب الذي يتوقع نجاحه في الانتخابات ليشارك في الحكم وقد يكون عامل تغليب عندما يتقارب الحزبان فيساومهما لينضم إليهما في التحالف الحاكم. وهذا هو منطق القوى السياسية في الديموقراطيات الغربية التي تغطي على حكم المافيات بالشرعية الشكلية.