لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالتسمية
لم يكن العرب أول من ورث التراث الفلسفي اليوناني والتراث الديني الشرقي كلهما. فقبل الإسلام كانا إرثا للإقليم كله بل هو ثقافته العامة. فما الذي حال دون السريانية والعبرية والفارسية أن تصبح لغات فلسفة وعلم عالمية؟ ولماذا آل هذا الدور إلى العربية لغة القرآن. وللإنجليزية علاقة. وعدت بتبرير خياري الإنجليزية من اللغات الحديثة لأوليها منزلة مماثلة لليونانية والعربية واللاتينية رغم أن الشائع ان لغة الفلسفة هي الألمانية. عندما وصلت إلى تحدد مراحل اللغات تدخل عامل العلاقة بين الذوق محددا للغايات والعلم محددا للأدوات بمستوييهما كليهما فأصبحت المسألة مضاعفة. إنها مسألة تواصل أفقي بين البشر وتواصل عمودي بينهم وبين الطبيعة: في صلة بالذوق غاية وبالعلم أداة فتعلق والامر متعلق بنظرية الرمز والعلم. وهو متعلق بهما من حيث هما مقوما الإنسان من حيث مستعمر في الأرض بغايات ذوقية وأدوات علمية كلتاهما ذات مستويين مباشر للعيش وغير مباشر لمعناه. والجامع بين المقومين بمستوييهما هو نظرية الترميز أو السيميوتكس (الوسميات) التي لها حضور في الذوق بمستوييه غاية وفي العلم بمستوييه أداة. ومستويا الذوق هما موضوع الأكسيولوجيا أو القيم ومستويا العلم هما موضوع الابستمولوجيا أو نظرية المعرفة ويجمع بينهما نظرية الترميز ببعديه. ملخص بعدي الترميز: الأفقي للتواصل بين البشر والعمودي للتواصل بينهم وبين الطبيعة. ومادة الترميزين هي مستويا الذوق غاية ومستويا العلم أداة. نفي بما وعدنا به في الفصل السابق: لما اخترت الانجليزية في اللغات الحديثة؟ ليس لشيوعها الآن. فالإسبانية لا تقل عنها شيوعا وغيرهما موجود. العلة نجدها في علة مآل الكونية الفلسفية والدينية للعرب رغم أن غيرهم في الإقليم كانوا حاصلين على ثقافة أديان الشعوب السابقة واليونان. موقف القرآن الكريم من الأديان السابقة هو عينه موقفه من الفلسفات السابقة: موقف نقدي بمعيار عجيب هو: التصديق والهيمنة أي نقد يحفظ ويتجاوز. وخلافي الأساسي مع من وصفتهم بكاريكاتور الحداثة وكاريكاتور الأصالة أنهم يقلدون فلا يحفظون ولا يتجاوزون. عقمهم ناتج عن كونهم ميتين ولا يشعرون. قد يعترض معترض بأن كلامي عن الموقف القرآني الناقد بمعيار التصديق والهيمنة يصح في حالة الأديان ولا يصبح في حالة الفلسفات: اعتراض يبدو وجيها. ما النقد القرآني لتحريف الأديان؟ أليس هو نقد نصوصها وأثر تطبيقها على الإنسانية؟ وبهذا المعنى فالفلسفة دين طبيعي ينقد نظره وعمله كالصابئية. ولست بحاجة إلى بيان أن كل تاريخ الفكر الفلسفي النقدي في الإسلام (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون) كان ذا تأسيس قرآني وجوديا وابستمولوجيا. يكفيني البعد الإبستمولوجي وله بالوجودي صلة: دور التجربة (ابستمولوجيا الصدقية) وحدود العلم (وجوديا الغيب) هما إضافة مرحلة النقد العربية. وهذا بالضبط ما ورثته المدرسة الانجليزية التي أدخلت التجريبية لفكر أوروبا الحديث لتحريره من غلبة علم الكلام على الفكر الفلسفي المسيحي فيها. فكانت نسبة الانجليزية في نهايات القرون الوسطى إلى اللاتينية هي عين نسبة العربية في بدايتها إلى اليونانية. وتاريخ الدورين شديد التماثل. يكفي اي مهتم أن يقرأ معركة العقل والتجربة (حوارات لايبنتز ولوك) فيه ليفهم العلاقة بين المرحلتين اليونانية-العربية-ثم اللاتينية-الإنجليزية. واظن هذا كافيا لمعرفة دور علاقة الترميز اللساني بالترميز الرياضي والكتابة الصوتية فيه ليس بذاتها بل بقلب علاقة الترامز بين الاسم والمسمى. ولا يوجد من بين العلماء من يجهل دور المرحلة العربية إلا كاريكاتور الحداثة العرب. فهؤلاء هم أجهل خلق الله بحضارة الإسلام بل وبكل حضارة. فأغلبهم من جنس من تسكره زبيبة. يقرأ مجلات القريب الجمهوري فيعتبر نفسه حاز العلم كله ثم يصبح مفتيا في كل شيء مع جهل بأبجديات الفكر وأخلاقه. اكتشفنا الحدود الفاصلة بين أصناف الترميز: وقبل التذكير بها فلنحدد القطبين غير اللسانيين: المتقدم على اللسان الطبيعي والمتأخر عنه. فأما القطب المتقدم على اللسان الطبيعي والذي هو أصل كل لسان من بعده هو اللسان الفني الذي يشكل المكان بالرسم والزمان بالموسيقى الكونيين. وكل اللغات فيها شيء من هذا لكنه يغلب خاصة على اللغات البدائية ويظهر في ضروب التسمية التي تشير بها إلى الأشياء مع فاعلية سحرية للفن. وهذه اللغات حدها اقتصار فاعلية السحر على العلاقة الأفقية بين البشر وعجزه عن علاج مسائل العلاقة العمودية بينهم وبين الطبيعة: خبرة دون علم. وطبعا ما أقوله عنها يصح عليها قبل أن أصبح بوسع أي لغة أن تتصالح مع العلم فتتجاوز السحر: الألسن صارت قابلة للتطوير لتتضمن العلم بدل السحر. ومعنى ذلك أن الهنود الحمر لو كانت لهم دولة الآن فإنه بوسعهم أن يطوروا لسانهم ليصبح قابلا للوصل بين اللساني لغة ما بعد للرياضي لغة موضوع. وسأضرب أمثلة من لغات الهنود الحمر ومن لغة الملاويين لبيان أن الأولى ماتت بموت أصحابها والثانية انبعثت بانبعاث اصحابها رغم نفس العائق. وكلامي ليس على الشعوب فلست عنصريا بل هو على حلول الحضارة لمشكل تكيف الشعوب مع محيطهم الطبيعي وعلى دورة الذوق غاية العلم أداة بمستوييهما. والأمثلة من لغة جاوة المالاوية أيسر لأني عشت في ماليزيا أربع سنوات. والأمثلة من لغة الهنود الحمر فضلت أن آخذها من الأدب الأمريكي لغاية. ولسوء الحظ لم أحصل بعد عن النص الإنجليزي لرواية وليام سارابندا The Sacred Stones فقرأته في الترجمة الألمانية Land der heiligen Steine. فضلت الرواية عن التاريخ فما يعنيني ليس حقيقة ما جرى بل ترجمته الفنية من كاتب مبدع. ولن أهتم إلا بضروب التسمية والوظيفة المشعرية والسحرية. بالنسبة إلى المالاوية يكفي مثال واحد لأن السحر والشعائر البدائية تجاوزهما الملاويين بعد أن أسلموا. لكن الطابع البدائي للغة يظهر في الجمع. فالجمع صورة من حضور الجماعة يكرر الاسم مرتين للدلالة على أن الحاضرين كثرة وليس واحدا وذلك هو الترميز التصويري لمعنى الكثرة من الشيء. فلكي يجمع المالاوي مسلم مثلا كما نفعل نحن “مسلمون” يقول “مسلم مسلم”. وهذا ترميزي تصويري إذ نرى معنى الجمع مصورا بكثرة الشيء المجموع. وهذا كاف للمالاوية التي تخطت هذه المرحلة. لكن الهنود الحمر وئدت حضارتهم ولغتهم توقفت عند حد قريب من لغة الفن: لوحة من العالم المحسوس المعيش. نأخذ مثال التسمية والشعائر: “Kommt” rief sie ihrem Samm su Ysuna , die tohchter der Sonne hat in ihren Taümen Wisionen gehabt.Himmelsdonner der Grossvater des Stammes der Weisse Geist und das Totem unserer Vorfahren hat zu mir gesprochen. Himmelsdonner freut freut sich über das Feisch der Jugfrau die freiwillig die Braut Maliwals sein will”. هذا خطاب كاهنة القبيلة يوسنا:” “نادت قبيلتها “اقتربوا”. فيوسنا بنت الشمس رأت في أحلامها رؤى. فقد كلمني رعد (السماء) وجد القبيلة والروح الابيض ووثن أوائلنا. فالرعد سعيد بلحم العذراء التي قبلت- مختارة أن تكون خطيبة ماليوال” (الشخص الذي سيضحي بها ليأكل لحمها رعد السماء)”. انتهى النص. ثلاث مستويات مترامزة بتسميات راسمة. فالأحداث تجري في: 1. أحلام الكاهنة 2. في عالم الآلهة 3. في عالم القبيلة. وعالم الآلهة متصل بجد القبيلة ووثنها (توتام). والأسماء هي المسميات. الكاهنة بنت الشمس والجد هو الرعد والروح الأبيض (هو الماموت الأبيض أصل غداء القبيلة) والوثن هو حجر مقدس والرعد سعيد بأكل لحم العذراء الأضحية. والمجموع لوحة حية أو مشهد حي من وحدة الرموز والمرموزات في حياة القبيلة حيث لا فرق بين الاحلام والشعائر والحياة مترامزة في تناغم وجودي.