لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالتسمية
نبحر الآن في بحث لا أعلم له ضفافا محدودة. فقد انطلقت من مستويات الحياة العضوية الثلاث والحدود الفاصلة بين أولها وثانيها وبين ثانيها وثالثها.
واعتبرت ما ذكره ابن خلدون وقبله اخوان الصفا بكونه تواصلا بين الرتب الثلاث النبات والحيوان والإنسان حدودا فاصلة تثبت القطيعة الكيفية بينها.
فالنخيل لا يصل بين النبات والحيوان رغم وجوه الشبه، والقرد لا يصل بين الحيوان والإنسان رغم وجوه الشبه. الحد دليل طريق مسدودة لا تواصل طرفيه.
وكلامنا هنا على أمر طبيعي في الظاهرات الحية. وهذه الرتب الحية لا تعني أدنى تفاضل فكل منها يحقق مهامه بنفس الآليات العضوية ذات نفس القوانين.
فالنبات عاجز عن الحركة في المكان والزمان. والحيوان متحرك في المكان دون الزمان. والإنسان متحرك فيهما معا. فيفضل الثاني بحركة الزمان والأول بالحركتين.
وهذه الفوارق كلها بايولوجية طبيعية. ولما نسأل عن قدرة الحركة في المكان نجدها مرتبطة مباشرة بالتسمية أو بالترميز المفقود في النبات والحيوان.
والفرضية التي حاولت إثباتها هي أن هذا الفضل الذي هو أصل الثقافي المضاف إلى البايولوجي في حياة البشر الحضارية له نفس البنية التي للحي عامة.
وافترضت أن للترميز ثلاث مستويات وحدين. فبين المستوى الأول والثاني ما يشبه النخيل وبين الحد الثاني والثالث ما يشبه القردة: وجه شبه وحد فاصل.
واقتضى ذلك:
تغيير نظرية العناصر المقومة للترميز اللساني.
واعتبار الترميز أعم من اللساني لأنه يشمل التسمية بأي نائب يرمز للمسمى في جماعة.
والنتيجة:
للترميز اللساني بعدان متقدمين على الاسم والفعل والحرف مستمدان من الرسم والموسيقي.
اللذين هما أعم نظام تسمية على الإطلاق.
والرسم نظام مكاني والموسيقى نظام زماني وكلاهما فن تشكيلي أحدهما لمادة تقبل تشكيل الصور والثاني لمادة تقبل تشكيل الأصوات. والتشكيلان للتواصل.
وتشكيلا التواصل ينتجان نوايا ترمز إلى موضوعه فيحققان تواصلا في غيابه فتحصل الحركة في الزمان مع ثبات الموضوع رغم نقلة نائبه الرمزي زمانيا.
وهما يساعدان النقلة في المكان لكنها قد تحصل بانتقال المتواصلين وموضوع التواصل دون حاجة للنائب الرمزي كحالة الزمان بين الأجيال المتوالية.
ثم إن المستوى الثاني من البايولوجي له قدرة الحركة في المكان التي يشترك بها مع الإنسان ولها القدرة على التواصل دون حاجة للترميز الذي لا يملكه.
وقد أثبتت البحوث أن النحل لها تواصل رمزي بحركاتها لكنه مقصور على التواصل بالتحاضر المباشر بين المتواصلين وهو مختلف عما يحصل بين الأجيال.
ولهذه العلة فالترميز الإنساني هو الوحيد الذي يحقق التواصل المتجاوز للحائل الزماني: وهو سر التراكم التراثي ومفارقة تقدم الكتابة على الكلام.
ولهذه العلة كان التناظر ليس بين اللغات اللسانية في حد ذاتها بل بما فيها من الكتابي التشكيلي للمكان والزمان من حيث هما أداتا العلاقين.
والقصد بالعلاقتين العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة والعلاقة الأفقية بين الإنسان والإنسان: وهما شرط العلم والعمل في الطبيعة والإنسان.
ولما كان ذلك يعني الكتابة -تشكيل المكان والزمان-فقد بات تصنيف مستويات الثقافة (عامل الحضارة الثاني) هو مستويات الكتابة ودورها في العلاقتين.
وهذا هو البحر الذي أريد الولوج إليه لأني بخلاف فاتح المغرب الإسلامي لن أقف على ضفة الأقيانوس لعلمي بأن وراءه أرضا لا حد لها: قدرة التسمية.
ضفة البداية في هذا الأقيانوس هي فرضية المقومين المتقدمين على القسمة التقليدية لمقومات اللغة: الاسم والفعل والحرف: طبيعة اللفظ وظيفة التلفظ.
لن أعيد كل ما قدمته في المجموعة السابقة حول “انطولوجيا الترميز والترميز اللساني” سأكتفي بكلمة وجيزة حول طبيعة اللفظ ووظيفة التلفظ.
فاصل طبيعة التسمية اللفظية لفظ أصلي يسمى نفسه (رمزا ومرموزا في آن) وأصل وظيفة التلفظ اللفظية لفظ أصلي يسمي نفسه (رمزا ومرموزا في آن).
وهما متقدمان على أصناف الكلام الاخرى اسما وفعلا وحرفا. ويوجدان في النحو ويعتبران تابعين للاسم: اسم الصوت واسم الفعل. ولا يعتبران مبدئين.
لكننا اعتبرناهما مبدئين ووضعنا مفهوم الهرم اللساني ذي القاعدة المربعة: لفظ يسمي نفسه تلفظ يسمي نفسها ثم اسم وفعل والقمة حرف يصل بينها.
أريد أن أضيف تدقيقا وحيدا للتلفظ: اسم الفعل يفيد لا يفيد بالصوت الملفوظ بل بما يصحب نبرات التلفظ من تعبير بدني فاللفظ لا معنى له: صه شت…
فاللفظ الأول والتلفظ الأول كبداية لسانية كلاهما دال ومدلول في آن. والأول انتقال من الرسم والموسيقي الى اللسان حيث يتطابق فيه الاسم والمسمى.
والتطابق في اللفظ استعارة أساسها أداؤه دور الدال والمدلول المتماثلين في آن والتطابق في التلفظ كناية أساسها علية بينه دالا ومدلولا في آن.
والتلفظ لا يدل باللفظ بل بما يصحبه من نبرة ومن تعبير بدني عند المتلفظ فيكون اللفظ مجرد صوت ينبه بنبرته إلى معنى التعبير الجسدي للمتلفظ.
تلك هي بداية النقلة من تشكيل المكان (الرسم) والزمان (الموسيقى) ليكونا دالين على التلفظ (تشكيل بالاستعارة) وعلى اللفظ تشكيل بالكناية).
فينتج عن ذلك تقدم آليتي البلاغة على النقلة من الرسم والموسيقى إلى اللسان كأحد فروع التسمية عامة. الآن فرغت من التذكير بحصيلة البحث السابق.
وهذه الحصيلة هي ملخص ما سميته انطولوجيا الترميز أو انطولوجيا القدرة على التسمية التي ترد إليها كل اصناف الترميز واللغة اللسانية أحدها.
وبذلك توصلنا إلى أن اللغات الأساسية ثلاثة: التسمية التشكيلية بالرسم والموسيقى والتسمية اللسانية بأحد فروعهما والتسمية الرياضية المجردة.
والتسمية التشكيلة رياضية لأن مادتها المكان والزمان والتسمية الرياضية تتجاوز المكان والزمان فتنتج ما لا يتناهى من الفضاءات غير التشكيلية.
وبينهما التسمية اللسانية. فتكون التسمية الاولى هي الأعم والأتم لكنها قد لا تكون مفصحة ومنها يغتذي النوعان الثاني والثالث اغتذاء الحيوان والإنسان من النبات.
اللغة اللسانية مثل الحيوان هي الوسطى. واللغة الثالثة لا متناهية التسمية المفصحة تحقق علميا وعمليا العلاقتين العمودية والافقية شرطي سلطان الإنسان.
واللغة الأولى أعم لكنها تصل إلى طريق مسدودة: عدم الإفصاح.
والثانية مفصحة لكنها تصل إلى طريق مسدودة: لا تمكن من العلم والعمل المحققين لسلطان الإنسان.
اللغة الثالثة تحقق الإفصاح التام والعموم التام فتجمع بين خصائص الأولين(الترميز) وتتضمن ما ليس فهما العلم والعمل في الطبيعة والتاريخ.
والحضارة التي تصل إلى المستوى الثالث تصبح ذات حضارة كونية. والحمد لله فإن الحضارة العربية وصلت إلى مستواها: رموز النماذج الرياضية المجردة.
فبها تعلم قوانين الطبيعة وسنن التاريخ وبها يمكن للإنسان أن يحقق مقومي وجوده: فهو مستعمر في الأرض ومستخلف فيها وذلك لا يتم إلا بهذه اللغة.
سأدرس في المحاولة قدرة التسمية بهذا المعنى وما بين المستويات الثلاثة من نقلة كيفية ورمز للحدين الفاصلين بين الأولى والثانية وبين الثانية والثالثة مثل البايولوجيا.
والقرآن حدد أهلية الاستخلاف بالقدرة على تعلم الأسماء كلها. واعتبر الطبيعة ذات قوانين رياضية (كل شيء خلقناه بقدر) والتاريخ ذا سنن خلقية.
فإذا لم أثبت ذلك بصورة نظرية علمية تحرر الامة من العلوم الزائفة التي جعلتها طيلة أربعة عشر قرنا تهمل عالم الشهادة وتغرق في التخريف عن عالم الغيب