لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالترميز
انطلاقا مما تقدم في الكلام على الترميز أصلا للعلاقة بين الذوق والعلم بمستوييهما سنسمي ذلك البعد الثقافي وبتفاعله مع الطبيعي يكون الحضارة؟ وهذا التصور هو منطلق مقدمة ابن خلدون: مسائل البال الأول الذي يدرس الجغرافيا وصلتها بالثقافة استجابة للذوق بالعلم بمستوييهما: تكون الحضارة. ولما تكلمت على الظاهرة الحية مميزا بين التطور العضوي والقطائع الوظيفي بين طبقاتها الثلاثة أي النبات والحيوان والإنسان اشرت إلى حدي القطيعة. فالآليات الإحيائية واحدة فيها ثلاثتها لكن مستويات عملها مختلفة اختلافا كيفيا ولها حدا قطيعة بين النبات والحيوان ثم بين الحيوان والإنسان. نظرية التطور الداروينية بالانتخاب الطبيعي ركزت على محاولة تجاوز القطيعة الثانية بين الحيوان والإنسان وأهملت القطيعة الاولى بين النبات والحيوان. والقول القديم بتواصل المستويات الثلاثة يقدم مثالين: – النخيل بين النبات والحيوان – والقرد بين الحيوان والإنسان. وأولاهما دليل قطيعة لا اتصال. فعندي أن النخيل هو الحد الذي يتوقف عنده تطور النبات ولم يستطع تجاوزه. والقدر هو الحد الذي يتوقف عنده تطور الحيوان ولم يستطع تجاوزه. كل ذلك تذكير لما سبق لا غير. ما يعنيني هو هل يوجد في الثقافات ما يناظر ذلك في الثقافي توازيا بين بعدي الحضارة الطبيعي والثقافي؟ تلك هي الفرضية التي أقدمها مقترحا لفهم فلسفة التاريخ القرآنية: فلا تخلو حضارة من الجمع بين البايولوجي والثقافي. لكن هل مناظر للبايولوجي؟ هل توجد ثقافة مثل النبات وثقافة مثل الحيوان وثقافة مثل الإنسان؟ وهل يوجد بين الاولى والثانية حد مثل النخل وبين الثانية والثالثة حد مثل القرد؟ مماثلة في حد القطيعة. طبعا هذه الأسئلة تبدو غريبة خاصة إذا ظن البعض أن فيها مفاضلة وأن القول مثل النبات والحيوان والإنسان اعتبار الاولى والثانية غير إنسانية والحدان تحقير. وهنا اذكر بأن الأمر يتعلق بالتناسب وليس بحدوده. لا أقارن الثقافة الاولى بالنبات والثقافة الثانية بالحيوان والثقافة الثالثة بالإنسان. بل بتناسب الظاهرتين. فالأنواع الثلاثة من الثقافة لابد فيها من مقومات الإنسان أعني العمل الذوقي والعمل العلمي والعلاقتين العمودية مع الطبيعة والأفقية بين البشر. ولا بد أن يكون هذا العمل في الأحياز الخمسة: المكان والزمان وفعل الاول في الثاني (التراث) والثاني في الأول (الثروة) ومرجعية الهوية الروحية. واحقاقا للحق فهذه الفرضية خلدونية هي بدورها: يبدو وكأنه لا يتكلم إلا على نوعين من العمران البدوي والحضري لكنه في الحقيقة يميز بين بداوتين. يميز بين ثلاث: عمران بدوي قبل الحضري ويعد له ويغذيه ولا يصبح مثله وبداية ليست من العمران البدوي ولا تقبل أن تصبح حتى مثل العمران البدوي. ويوجد حدان مثل حالة البايولوجيا: بين الأولى والثانية وبين الثانية والثالثة سنعود إليهما بعد أن نحسم القضية المتعلقة بالمستوى الأول الذي وصف به ابن خلدون العرب. فقد ظن الكثير من الحاقدين على العرب كجنس أن الكلمة تعني جنس العرب وليس مفهوما انثروبولوجيا عرفه ابن خلدون بدقه ونسبه إليهم وإلى غيرهم. وقد عرف ابن خلدون هذا المفهوم بما يشبه ما عرف به القرآن الأعراب وهو موجود في كل الأمم: نسبه إلى أمرين رعاية الأبل وأقاصي الصحاري. فضرب أمثلة من غير العرب ومن العرب كأجناس فلا يكون المفهوم ذا دلالة عنصرية بل هو تحديد لمرحلة انثروبولوجية يكون فيها سلطان الطبيعة قاهرا. وبذلك نكتشف معيار التصنيف ومن ثم الحد الفاصل بين 1 و2 والحد الفاصل بين 2 و3. وهذا المعيار خلدوني بامتياز: فشل التكيف ونجاحه مع الطبيعة. والمشكل هو ما سر نجاح التكيف وفشله في جماعات دون جماعات وهل يوجد حد ثقافي وليس بايولوجيا يعلل ذلك في نظرية ابن خلدون أولا ثم عندنا للمزيد. هل في الثقافة مثل البايولوجيا مستويات مناظرة للنبات والحيوان والإنسان وما الحد الفاصل في الحالتين البايولوجية والثقافية دون عنصرية؟ إذا كان هذا الحد موجودا فينبغي أن يكون متعلقا بعمل الذوق والعلم ودورهما في العلاقتين العمودية بالطبيعة والأفقية بالبشر: فشل العمل فيهما. للجواب احتجت لكل هذا الهندام للكلام على الترميز ودور التراث والثروة ثمرتي عمل الإنسان في تفاعل المكان والزمان والعلاقتين العمودية والأفقية. إذا افترضنا التوازي بين الوظائف العضوية في البايولوجي والوظائف الرمزية في الثقافي فإن البحث يصبح يسيرا. فالحي النباتي ثابت في المكان. والحي الحيواني متحرك في المكان لكنه ثابت في الزمان لا يتجاوز الحاضر. والحي الإنساني متحرك فيهما زمانه هو زمان الحضارة الإنسانية كلها. وزمان الحضارة الإنسانية يضرب في المستقبل ضربه في الماضي وهو مضاعف أحداث وأحاديث بتقديم وتأخير: الحديث سابق الحديث ماضيا والعكس مستقبلا. وهو يختلف عن الحيوان بهذه الحركة في الزمان والحيوان يتجاوز النبات بالحركة في المكان. فهل يوجد أمر يتعلق بالثقافي وما معيار الحد الفاصل. ولنذكر بأن قوانين الحي والوظائف الأساسية للحياة واحدة في النبات والحيوان والإنسان والأنسان لا يتجاوز الوظائف الحية إلا بالرمزي كما حددناه. وآليات الرمزي واحدة ولها نفس القوانين والوظائف. الفرضية أنه توجد مراتب وفواصل كيفية في عمل الحضارات الرمزي بخيارات ناجحة وخيارات فاشلة. ولما كان الترميز يمر بثلاث مراحل كما بينا: ما قبل اللسان واللسان وما بعد اللسان. فإن الرتبة الأولى تفشل في النقلة من الأول إلى الثاني. فيكون الحد الفاصل لغة تتجمد ولا تصل للرتبة الثانية. والرتبة الثانية تصل إلى لغة لا تتحول إلى الرتبة الثالثة. والحل اكتشاف الحدين الفاصلين. ولا علاقة لهذا الفشل بالعضوي لأن قدرة الترميز العضوية واحدة عند كل البشر: إذن الأمر يتعلق بدور الترميز الذي اختير وأدى إلى طرق مسدودة. وقد رأينا بالمثال الذي بدأنا به أعني اكتشاف الكتابة أن الكتابة التصويرية كانت خيارا وكل حضارة بقيت عليها لا يمكن أن تتجاوز الحد الاول. ثلاثة أنواع من الكتابة: الكتابة التصويرية والكتابة الصوتية والكتابة الرياضية. تلك هي الرتب الثلاث والحدان هما الصينية والهيروغليفية. فالصينية في نسبة النخيل للنبات. والكتاب الهيروغليفية في نسبة القرد للحيوان. والكتابة الرياضية في نسبة الإنسان للإنسان. ولهم جميعا لغة لسانية. واللغة العربية لحسن الحظ وصلت إلى الرتبة الثالثة وهي تستند إلى مرجعية روحية تعتبر الطبيعة تتكلم لغة الرياضيات وحتى التاريخ كذلك. والآن نفهم لماذا يعتبر القرآن الوجود الشاهد والغائب مكتوب وقابل للتقويم الرياضي طبيعة وتاريخا والرمز هو الفرائض في الملكية فهي نسب جبرية. ومن منا لا يعجب من النموذج الفلكي في التعليل القرآني لنظام العالم والاستدلال بنظام الأفلاك وتقويم الزمان والمكان الرياضي في نصوص القرآن. أعتقد أنى الآن وفيت بما التزمت به: أن أثبت أن الاستئناف ليس ممكنا فحسب بل هو حتمي لأن كل شروطه متوفرة أعني شرطيه الطبيعي والثقافي. لكن حكام العرب ونخبهم بغباء كثير وبخيانة أكثر هم الذين فتتوا شروط الثروة وقتلوا شروط التراث بسبب عدم فهمهم لهذه العلل العميقة لكل نهوض. ويكفي مثالا أن التعليم ما يزال غير معرب وأن القرآن بدأ يفقد دوره في التربية وأن الأنظمة تقدم اللهجات على العربية لعمالة أو لجهالة أو لخوف. ومسؤولية مصر في ذلك تلامس الإجرام: فهي بعنجهية فرعونية استعملت الفنون لفرض اللهجة المصرية حتى بات جل العرب عيين لغويا وعاجزين عقليا. وقد حصل في تونس البورقيبية وخاصة في عهد المجرم ابن علي أن صارت الشباب التونسي عييا لا يتكلم أي لغة بل جعلوا كلامه مثل مالطة خليطا هجينا. فعندما يصبح شيوخ الأزهر من أكبر اللاحنين ناهيك عن حكام العرب عامة والخليجين خاصة فلا يمكن أن ينام هانئا من يحلم برؤية الامة تستأنف دورها. وحتى نعلم دلالة هذه الرتب فلنعلم أنها رتب التجريد المعرفي: التصويرية أقلها تجريدا لم يتجاوز أداتي البلاغة البسيطين الاستعارة والكناية. والرتبة الثانية لم تتجاوز أساسي البلاغة المركبين مع اللسان. لكن الرتبة الثالثة تبدع النماذج النظرية للقوانين العلمية بالكتابة الرياضية. فنحن مدينون بهذا: 1. للقرآن 2. وللفلسفة اليونانية 3. ولانفتاح الدولة الإسلامية على شعوبها 4. للنهل من ثقافاتهم 5. لتوظيفهم وإن لم يسلموا ولما كانت الشروط الموضوعية حاصلة (الأحياز والأنظمة الرمزية) فإن ما بقي هو تحرير ها مما حال دون فاعلية التراث والثروة شرطي الحماية والرعاية.