لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الترميز
المستوى الأول:
نأتي إلى بيان دور المحميات العربية في منع النهوض والاستئناف بما تفعله في الأحياز وفي مقومات عمل الإنسان الإبداعي بمنع ما توفرانه من شرطه.
وسأقسم المسألة إلى مستويي العمل الإنساني الذي يكون الذوق فيه محددا للغايات والعلم للأدوات في متطلبات حماية الجماعة ورعايتها بدرجتيهما الأولى والثانية.
وحتى يكون كلامي متعينا سآخذ مثال الأزمة الخليجية الحالية التي أظهرت حقيقة الأمر التي تصح على كل بلد عربي مهما بدا كبيرا وفاخرا بعلو شأنه.
فقطر اليوم بصمودها ومحاولة تخطي الحصار الظالم فضحت وضع كل العرب الذين هم بالفعل وليس بالقوة في وضع الحصار الذي فضل قطر محاولة التغلب عليه.
هي تحاصر منهم بإيعاز من سادتهم لأنها أدركت حصارهم العام الذي تحاول مع تركيا -بعد رفض العرب المخرج الوحيد منه-تحقيق شروط الحماية والرعاية.
فمشكلهم مع قطر وتركيا متأت من كونهما أدركا وضع الحصار العام الذي يجعل كل بلاد المسلمين محميات ويحاولان الخروج منه: تلك علة حصارهم لهما.
وسأتكلم على الحصار العام وليس على حصارهم المحميات لقطر وتركيا. فهم توابع وحصارهم من أعراض الحصار الاصلي: منع المسلمين من النهوض والاستئناف.
ولأني مدرك لمحاولات قطر وتركيا والاتجاه الصحيح لتعرية الحصار الأصلي وراء الحصار العرضي لم آلو جهدا في بيان ما وراء مواقف قطر وتركيا النبيلة.
وأبدا بالمستوى الأول من دور الذوق غاية والعلم أداة في تحقيق شروط الرعاية والحماية للجماعة بذاتها. وما سأقوله يصح على ثمانية أقطار عربية.
فمن الخليج يمكن حسبان الكويت وقطر والإمارات والسعودية، ومن الهلال العراق وسوريا، ومن المغرب الجزائر وليبيا: من الله عليها بثروة طبيعية جاهزة.
وأقصد بجاهزة أنها ليست من عمل أهلها بل هي ثروة خام أخرجها المستعمر وتصدر من ارضهم خاما ولا ينتج عنها عمل يدفعه ذوق ذاتي بعلم ذاتي.
فالعلاقة العمودية بين الجماعة والطبيعة منعدمة. من قام بها ولا يزال هو الحامي الذي يأخذها خاما ويستعملها لغايات ذوقه بأدوات علمه في العالم.
طبعا فذلك يحصل بدرجات متفاوتة. لكن مرحلة التأميم انتهت إلى كارثة لأن استكشاف الثروات الطبيعية واستخراجها واستغلالها يتطلب شروطا منعدمة.
فقد عشنا على كذبة التقدم العلمي العراقي حتى وقع الحصار فرأينا كيف انفضحت الكذبة لأن التقدم العلمي المزعوم تبين عاجزا عن صنع قطع الغيار.
وما يصدق على العراق فهو من باب أولى أكثر صدقا على بقية البلاد العربية الثمانية التي ذكرتها. وطبعا بقية البلاد العربية وضعها أسوأ بكثير.
كيف ذلك؟
هذا هو مشكل التحديث المقلوب.
تستورد غايات الذوق دون رديفها من أدوات العلم فتعيش على الاستيراد وتقتل هذه العلاقة عندك: فلا تنتج شيئا.
محرك أي حياة اقتصادية هو هذه العلاقة بين مطالب الذوق واستجابة العمل المنتج لحاجاته. فإذا أنت استجبت لمطالب ذوق لست منتجه قتلت العمل عندك.
كل استيراد يقابله تصدير للعمل إلى من تستورد منه حاجة ذوقك. كانت مجتمعاتنا ذات دورة متكاملة: حاجات ذوقها واستجابة عملها تغنيها عن الاستيراد.
ولست أقول ذلك لأني أؤمن بالاكتفاء التام الملغي للتبادل التجاري بين الشعوب. فهذه الدورة العالمية للتبادل متزايدة. لكن شروط السيادة مستثناة.
وشروط السيادة معلومة: هي شروط الرعاية (خاصة الغذاء والصحة والبحث العلمي) وشروط الحماية (خاصة السلاح والحصانة والبحث العلمي): كلها مستوردة.
فأن يكون العراق وهو بلد الرافدين يستورد غذاءه ذلك وضع العرب المشين والمهين. ومثلها الجزائر وقد استعمرتها فرنسا التي كانت مدينة لها بغذائها.
وعندما تقتل ذوق جماعتك وتستبدله بذوق مستعمرك -عقلية الباشوات في مصر- فأنت تقتل بدورك الذوق الطالب والعمل المستجيب حتى في الحاجات الأولية.
عشت الوضعين في تونس: حصيلة التحديث المقلوب: كنا نلبس ونأكل تونسي فصرنا نلبس ونأكل فرنسي. صار منتج التونس عاطلا وصدرنا العمل لمنتج الفرنسي.
وليس هذا خاصا بتونس بل يعم كل العرب. والادهى أن استيراد فضلات الغرب هي التي تقتل انتاج المأكل والملبس وهلم جرا من معطلات الدولة ذوق عمل.
وبين الذوق والعمل لا بد من علم أو على الأقل خبرة. بتعطيل الدورة الاهلية زالت الخبرات المهنية فأصبح الشباب عاجزا عن العلم والعمل وعاطلا.
والدورة “ذوق علم عمل” هي العلاقة العمودية بين الجماعة والطبيعة. لكن توجد علاقة أخرى ضاعت معها وهي العلاقة الأفقية بين الجماعة وذاتها.
عندما تسيطر الندرة والعجز عن سدها يحصل أن العلاقة الأفقية تنخرم لأنها تعود إلى منطق التاريخ الطبيعي: الصراع متناسب مع سد الحاجات الاولية.
لما يصبح الجميع في حاجة تسيطر العداوة فيكثر الصراع ويقل الأمن ويصبح العيش المشترك حربا أهلية دائمة تبرد وتسخن بحسب السنوات سمانها وعجافها.
ثم تزداد التبعية للحامي حامي النظام العميل بعد ما سمي بالاستقلال فيصبح استبدال ذوق المحمي بذوق الحامي سياسة نسقية يسمونها تحديثا وتقدما.
ولعل أبرز مثال آخذه من تونس هو أن أول عمل رمزي قام به بورقيبة هو تهديم المدينة العربية لتعويضها بالعمارة الفرنسية: واعتبر ذلك تحديثا.
وقس عليه موقفه من الزيتونة ومن الأوقاف ومن الأسرة وحتى من الزراعة التي قتلوها وعوضوها بالسياحة والخدمات الدنيا في الفترينة التي صنعوها.
ولما حصلت الثورة فضحت كل شيء: لم نكن بعيدين جدا عن الصومال وجل بلاد افريقيا التي تخفي تبعيتها بكاريكاتور دولة تثقل كاهل الجماعة دون سيادة.
وقد لا يرى القارئ علاقة هذا بمسألة الترميز. لكن لو فكر قليلا لفهم أن الأمر كله يجري في المستوى الرمزي باستبدال ثقافة بثقافة: التبعية ذوقية.
جريمة الأنظمة العربية أنها أفسدت الذوق العربي وفتته بأن أصبح كل بلد عربي تابعا لذوق مستعمره. فمثلا الفرق بين المائدة المشرقية والمغربية.
ويتبين ذلك خاصة عند الطبقة المترفهة: فبعضها يستورد الكرواسون لفطوره والاجبان فضلا عن اللباس ومواد التجميل: تصدير للعمل واستيراد للبطالة.
التغير في مستوى الذوق طلبا أيسر من التغير في مستوى الاستجابة إنتاجا. فيزداد سلطان الاستيراد والتبعية: والنتيجة فائدة الاستعمار دون كلفته.
نقوم بكل وظائف الدولة في محمياته بلا سيادة لنحفظ أمن مصالحه ونكون له ما يحتاج إليه من كوادر وسطى ونمكنه من الاستمتاع والاستجمام والتوسع.
وهذا يقتضي أن نكون حماة سيادته علينا ضد أجوارنا من العرب الذين يخضعون لسيادة مستعمر آخر فتكون خلافاتهما اصلا لخلافاتنا وحربنا الأهلية.
حروب الحدود بين العرب ليست عربية. هي بقايا تنافس مستعمريهم عليهم. كل محمية عربية تعادي المحمية المجاورة فيبقى الجميع محميات يسمونها دولا.
وهنا أقف بعد أن فرغت من المستوى الأول من ثقافة الدورة الرمزية المنتجة لشروط القيام المستقل أعني دورة الذوق والعمل والعلم شروطا للسيادة.
المستوى الثاني:
أما ما يتعلق بالمستوى الثاني من دورة “الذوق العمل العلم” فإن المصيبة أدهى وأمر. وهنا يصبح الدور الأول للأحياز وما أدخل عليها لتحول دونها.
ذلك أن الاستجابة لحاجات الذوق السامية أعسر بكثير من الاستجابة لحاجاته الدانية. فمستواه الأول رمزه الذائقة الغذائية غاية والعلم البسيط أداة.
أما مستواه الثاني فرمزه الذائقة القيمية (كل القيم) والعلم النظري المعقد أداة. وشروطهما ما يعجز دونها أي بلد ليس له الحجم المناسب لعصرهما.
وهنا تتدخل الاحياز: قسط أي جماعة من المكان ومن الزمان ومن عمل المكان في الزمان (التراث) وعمل الزمان في المكان (الثروة) والمرجعية الموحدة.
والأحياز الخمسة التي يتحدد بها الحجم الممكن من الاستجابة للذوق الأسمى بالعلم الأسمى للعمل الأسمى لتعالج العلاقتين العمودية والأفقية بكفاءة.
فالجماعات تتمانع حول الحظ من المكان والحظ من الزمان والتمانع شرطه الرعاية والحماية مقومي السيادة وللحظين صلة بالعلاقتين العمودية والأفقية.
فالبقاء في المكان أصل كل ثروة والبقاء في الزمان أصل كل تراث ولا رعاية من دونهما ولا بقاء لهما من دون حمايتهما: وتلك هي سيادة الجماعة.
وشروط السيادة هي ما يترتب على المستوى الثاني من عمل الذوق لتحديد الغايات وعمل العلم لتحقيق الأدوات والعملان لا يقدر عليهما إلا ذو حجم مناسب.
ناظرت بين مستويات البايولوجيا الثلاثة (النبات والحيوان والإنسان) بمعيار القدرة على الحركة ومستويات الحضارة الثلاثة بالقدرة على الترميز.
وكان قصدي من المناظرة بين بعدي الحضارة -البايولوجي والثقافي-أن أبين أن الحضارات الكونية -والإسلامية منها-هي التي حققت هذا المستوى الثاني.
كل الحضارات تحقق المستوى الأول لقربيه من البايولوجي والحضارات التي صارت كونية هي الوحيدة التي تحقق المستوى الثاني من دورة الذوق والعلم.
ونظريتي: الكونية متناسبة مع السلطان على العلاقتين العمودية بين الجماعة والطبيعة والأفقية بين الجماعة وذاتها:
مستويات البايولوجيا الثلاثة تتحدد بالحركة المكانية والزمانية:
– النبات لا يتحرك في أي منهما.
– الحيوان في المكان دون الزمان.
– الإنسان يتحرك فيهما.
مستويات الترميز:
الاستعارة والكناية المباشرين.
ما لا يتجاوزهما بتوسط اللسان.
ما يبدع بهما النماذج الرياضية لقوانين الطبيعة والتاريخ.