الترميز – انطولوجيا الترميز والترميز اللساني – الفصل الخامس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الترميز

المستوى الأول:

نأتي إلى بيان دور المحميات العربية في منع النهوض والاستئناف بما تفعله في الأحياز وفي مقومات عمل الإنسان الإبداعي بمنع ما توفرانه من شرطه.

وسأقسم المسألة إلى مستويي العمل الإنساني الذي يكون الذوق فيه محددا للغايات والعلم للأدوات في متطلبات حماية الجماعة ورعايتها بدرجتيهما الأولى والثانية.

وحتى يكون كلامي متعينا سآخذ مثال الأزمة الخليجية الحالية التي أظهرت حقيقة الأمر التي تصح على كل بلد عربي مهما بدا كبيرا وفاخرا بعلو شأنه.

فقطر اليوم بصمودها ومحاولة تخطي الحصار الظالم فضحت وضع كل العرب الذين هم بالفعل وليس بالقوة في وضع الحصار الذي فضل قطر محاولة التغلب عليه.

هي تحاصر منهم بإيعاز من سادتهم لأنها أدركت حصارهم العام الذي تحاول مع تركيا -بعد رفض العرب المخرج الوحيد منه-تحقيق شروط الحماية والرعاية.

فمشكلهم مع قطر وتركيا متأت من كونهما أدركا وضع الحصار العام الذي يجعل كل بلاد المسلمين محميات ويحاولان الخروج منه: تلك علة حصارهم لهما.

وسأتكلم على الحصار العام وليس على حصارهم المحميات لقطر وتركيا. فهم توابع وحصارهم من أعراض الحصار الاصلي: منع المسلمين من النهوض والاستئناف.

ولأني مدرك لمحاولات قطر وتركيا والاتجاه الصحيح لتعرية الحصار الأصلي وراء الحصار العرضي لم آلو جهدا في بيان ما وراء مواقف قطر وتركيا النبيلة.

وأبدا بالمستوى الأول من دور الذوق غاية والعلم أداة في تحقيق شروط الرعاية والحماية للجماعة بذاتها. وما سأقوله يصح على ثمانية أقطار عربية.

فمن الخليج يمكن حسبان الكويت وقطر والإمارات والسعودية، ومن الهلال العراق وسوريا، ومن المغرب الجزائر وليبيا: من الله عليها بثروة طبيعية جاهزة.

وأقصد بجاهزة أنها ليست من عمل أهلها بل هي ثروة خام أخرجها المستعمر وتصدر من ارضهم خاما ولا ينتج عنها عمل يدفعه ذوق ذاتي بعلم ذاتي.

فالعلاقة العمودية بين الجماعة والطبيعة منعدمة. من قام بها ولا يزال هو الحامي الذي يأخذها خاما ويستعملها لغايات ذوقه بأدوات علمه في العالم.

طبعا فذلك يحصل بدرجات متفاوتة. لكن مرحلة التأميم انتهت إلى كارثة لأن استكشاف الثروات الطبيعية واستخراجها واستغلالها يتطلب شروطا منعدمة.

فقد عشنا على كذبة التقدم العلمي العراقي حتى وقع الحصار فرأينا كيف انفضحت الكذبة لأن التقدم العلمي المزعوم تبين عاجزا عن صنع قطع الغيار.

وما يصدق على العراق فهو من باب أولى أكثر صدقا على بقية البلاد العربية الثمانية التي ذكرتها. وطبعا بقية البلاد العربية وضعها أسوأ بكثير.

كيف ذلك؟

هذا هو مشكل التحديث المقلوب.

تستورد غايات الذوق دون رديفها من أدوات العلم فتعيش على الاستيراد وتقتل هذه العلاقة عندك: فلا تنتج شيئا.

محرك أي حياة اقتصادية هو هذه العلاقة بين مطالب الذوق واستجابة العمل المنتج لحاجاته. فإذا أنت استجبت لمطالب ذوق لست منتجه قتلت العمل عندك.

كل استيراد يقابله تصدير للعمل إلى من تستورد منه حاجة ذوقك. كانت مجتمعاتنا ذات دورة متكاملة: حاجات ذوقها واستجابة عملها تغنيها عن الاستيراد.

ولست أقول ذلك لأني أؤمن بالاكتفاء التام الملغي للتبادل التجاري بين الشعوب. فهذه الدورة العالمية للتبادل متزايدة. لكن شروط السيادة مستثناة.

وشروط السيادة معلومة: هي شروط الرعاية (خاصة الغذاء والصحة والبحث العلمي) وشروط الحماية (خاصة السلاح والحصانة والبحث العلمي): كلها مستوردة.

فأن يكون العراق وهو بلد الرافدين يستورد غذاءه ذلك وضع العرب المشين والمهين. ومثلها الجزائر وقد استعمرتها فرنسا التي كانت مدينة لها بغذائها.

وعندما تقتل ذوق جماعتك وتستبدله بذوق مستعمرك -عقلية الباشوات في مصر- فأنت تقتل بدورك الذوق الطالب والعمل المستجيب حتى في الحاجات الأولية.

عشت الوضعين في تونس: حصيلة التحديث المقلوب: كنا نلبس ونأكل تونسي فصرنا نلبس ونأكل فرنسي. صار منتج التونس عاطلا وصدرنا العمل لمنتج الفرنسي.

وليس هذا خاصا بتونس بل يعم كل العرب. والادهى أن استيراد فضلات الغرب هي التي تقتل انتاج المأكل والملبس وهلم جرا من معطلات الدولة ذوق عمل.

وبين الذوق والعمل لا بد من علم أو على الأقل خبرة. بتعطيل الدورة الاهلية زالت الخبرات المهنية فأصبح الشباب عاجزا عن العلم والعمل وعاطلا.

والدورة “ذوق علم عمل” هي العلاقة العمودية بين الجماعة والطبيعة. لكن توجد علاقة أخرى ضاعت معها وهي العلاقة الأفقية بين الجماعة وذاتها.

عندما تسيطر الندرة والعجز عن سدها يحصل أن العلاقة الأفقية تنخرم لأنها تعود إلى منطق التاريخ الطبيعي: الصراع متناسب مع سد الحاجات الاولية.

لما يصبح الجميع في حاجة تسيطر العداوة فيكثر الصراع ويقل الأمن ويصبح العيش المشترك حربا أهلية دائمة تبرد وتسخن بحسب السنوات سمانها وعجافها.

ثم تزداد التبعية للحامي حامي النظام العميل بعد ما سمي بالاستقلال فيصبح استبدال ذوق المحمي بذوق الحامي سياسة نسقية يسمونها تحديثا وتقدما.

ولعل أبرز مثال آخذه من تونس هو أن أول عمل رمزي قام به بورقيبة هو تهديم المدينة العربية لتعويضها بالعمارة الفرنسية: واعتبر ذلك تحديثا.

وقس عليه موقفه من الزيتونة ومن الأوقاف ومن الأسرة وحتى من الزراعة التي قتلوها وعوضوها بالسياحة والخدمات الدنيا في الفترينة التي صنعوها.

ولما حصلت الثورة فضحت كل شيء: لم نكن بعيدين جدا عن الصومال وجل بلاد افريقيا التي تخفي تبعيتها بكاريكاتور دولة تثقل كاهل الجماعة دون سيادة.

وقد لا يرى القارئ علاقة هذا بمسألة الترميز. لكن لو فكر قليلا لفهم أن الأمر كله يجري في المستوى الرمزي باستبدال ثقافة بثقافة: التبعية ذوقية.

جريمة الأنظمة العربية أنها أفسدت الذوق العربي وفتته بأن أصبح كل بلد عربي تابعا لذوق مستعمره. فمثلا الفرق بين المائدة المشرقية والمغربية.

ويتبين ذلك خاصة عند الطبقة المترفهة: فبعضها يستورد الكرواسون لفطوره والاجبان فضلا عن اللباس ومواد التجميل: تصدير للعمل واستيراد للبطالة.

التغير في مستوى الذوق طلبا أيسر من التغير في مستوى الاستجابة إنتاجا. فيزداد سلطان الاستيراد والتبعية: والنتيجة فائدة الاستعمار دون كلفته.

نقوم بكل وظائف الدولة في محمياته بلا سيادة لنحفظ أمن مصالحه ونكون له ما يحتاج إليه من كوادر وسطى ونمكنه من الاستمتاع والاستجمام والتوسع.

وهذا يقتضي أن نكون حماة سيادته علينا ضد أجوارنا من العرب الذين يخضعون لسيادة مستعمر آخر فتكون خلافاتهما اصلا لخلافاتنا وحربنا الأهلية.

حروب الحدود بين العرب ليست عربية. هي بقايا تنافس مستعمريهم عليهم. كل محمية عربية تعادي المحمية المجاورة فيبقى الجميع محميات يسمونها دولا.

وهنا أقف بعد أن فرغت من المستوى الأول من ثقافة الدورة الرمزية المنتجة لشروط القيام المستقل أعني دورة الذوق والعمل والعلم شروطا للسيادة.

المستوى الثاني:

أما ما يتعلق بالمستوى الثاني من دورة “الذوق العمل العلم” فإن المصيبة أدهى وأمر. وهنا يصبح الدور الأول للأحياز وما أدخل عليها لتحول دونها.

ذلك أن الاستجابة لحاجات الذوق السامية أعسر بكثير من الاستجابة لحاجاته الدانية. فمستواه الأول رمزه الذائقة الغذائية غاية والعلم البسيط أداة.

أما مستواه الثاني فرمزه الذائقة القيمية (كل القيم) والعلم النظري المعقد أداة. وشروطهما ما يعجز دونها أي بلد ليس له الحجم المناسب لعصرهما.

وهنا تتدخل الاحياز: قسط أي جماعة من المكان ومن الزمان ومن عمل المكان في الزمان (التراث) وعمل الزمان في المكان (الثروة) والمرجعية الموحدة.

والأحياز الخمسة التي يتحدد بها الحجم الممكن من الاستجابة للذوق الأسمى بالعلم الأسمى للعمل الأسمى لتعالج العلاقتين العمودية والأفقية بكفاءة.

فالجماعات تتمانع حول الحظ من المكان والحظ من الزمان والتمانع شرطه الرعاية والحماية مقومي السيادة وللحظين صلة بالعلاقتين العمودية والأفقية.

فالبقاء في المكان أصل كل ثروة والبقاء في الزمان أصل كل تراث ولا رعاية من دونهما ولا بقاء لهما من دون حمايتهما: وتلك هي سيادة الجماعة.

وشروط السيادة هي ما يترتب على المستوى الثاني من عمل الذوق لتحديد الغايات وعمل العلم لتحقيق الأدوات والعملان لا يقدر عليهما إلا ذو حجم مناسب.

ناظرت بين مستويات البايولوجيا الثلاثة (النبات والحيوان والإنسان) بمعيار القدرة على الحركة ومستويات الحضارة الثلاثة بالقدرة على الترميز.

وكان قصدي من المناظرة بين بعدي الحضارة -البايولوجي والثقافي-أن أبين أن الحضارات الكونية -والإسلامية منها-هي التي حققت هذا المستوى الثاني.

كل الحضارات تحقق المستوى الأول لقربيه من البايولوجي والحضارات التي صارت كونية هي الوحيدة التي تحقق المستوى الثاني من دورة الذوق والعلم.

ونظريتي: الكونية متناسبة مع السلطان على العلاقتين العمودية بين الجماعة والطبيعة والأفقية بين الجماعة وذاتها:

  1. علمية تقنية

  2. وسياسية خلقية

مستويات البايولوجيا الثلاثة تتحدد بالحركة المكانية والزمانية:

– النبات لا يتحرك في أي منهما.

– الحيوان في المكان دون الزمان.

– الإنسان يتحرك فيهما.

مستويات الترميز:

  1. الاستعارة والكناية المباشرين.

  2. ما لا يتجاوزهما بتوسط اللسان.

  3. ما يبدع بهما النماذج الرياضية لقوانين الطبيعة والتاريخ.

ومستويات البايولوجيا النبات والحيوان والإنسان حلقة متكاملة مع قطائع وآخرها هو سيدها ومستويات الثقافة آخرها هو سيدها وهو سيد سيد الأولى.

وكل حضارة سادت بالمستوى الأخير من الترميز كانت كونية وإذا فقدت ذلك فقدت كونيتها لكنها قادرة على استردادها عندما تحقق شروط ووصولها إليها.

كل هذا العمل النظري الذي احتجت إليه هدفه بيان أن الحضارة الإسلامية سادت بما ذكرت ثم فقدته ولها قدرة استرداده لكن العائق متعلق بالأحياز خاصة.

والاحياز هي المكان والزمان وأثر المكان في الزمان (التراث) وأثر الزمان في المكان (الثروة) والمرجعية الروحية الموحدة لها بوصفها حضارة واحدة.

هذه الأحياز فتتها ما يسمى دولا وطنية وهي في الحقيقة محميات استعمارية أكثر من الاستعمار وهي تحول دون شروط الحجم الكافي للرعاية والحماية.

وقد بين عصر العماليق أفضل بيان أنه من دون الحجم الكافي (العماليق) لا يمكن للجماعة غير العملاقة أن تحقق شروط المستوى الثاني من الذوق والعلم.

وما تفعله المحميات بسند من الحماة هو تفتيت المكان وتشتيت الزمان فيحول ذلك دون التنمية المادية والتنمية الرمزية فتمتنع الرعاية والحماية.

وبذلك تتأبد التبعية وزوال السيادة فتنكص الامة التي كانت قادرة على المستوى الثاني من دورة الذوق والعلم الأسمى إلى المستوى الأدنى كحالنا.

ولا أعتقد أن من لا يفهم هذه المعطيات النظرية جدير بقيادة شعبه. القيادة من دونها دليل غباء او خيانة. فلا مطمع في السيادة من دون حجم الأحياز.

ذلك ما فهمته دول أوروبا بعد الحرب الثانية رغم أنها كانت دولا استعمارية: فرنسا أو انجلترا أو اسبانيا أو إيطاليا أو بلجيكا أو هولاندا.

فهموا أن حجمهم لم يعد كافيا ليناسب عصر العماليق: اوروبا تقاسمها الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة اللذين ربحا الحرب وأصبحا عملاقي العالم.

وهذا الكلام لا يصدق على العرب وحدهم. فحتى إيران أو تركيا اللتان تتوهمان أنهما قوة كلاهما يخدع نفسه وشعبه لأنه في الحقيقة محمية بمقتضى حجمه.

لكن العرب أكثر منهما تبعية لأن شعب العرب فتتت جغرافيته وتاريخه وشروط تنميته المادية والرمزية ومرجعيته بمفعول قيادات غبية أو خائنة وتبيعتهم.

فتوهم قبيلة أو مجموعة قبائل أنها دولة وتخفي أنها محمية دليل على أن قياداتها إما اغبياء أو خونة. واحترامي للبعض هو بقدر سعيهم لتجاوز الوضع.

ولو لم أكن أعتقد-وقد أكون مخطئا-أن تركيا وقطر تسعيان للم شمل العرب (بداية دولة الإسلام) والأتراك (غايتها إلى الحرب الأولى) لكنت أول الناقدين.

فلا ألومهما على الوضع الراهن الموروث بل يشفع لهما السعي لتجاوزه كل بقدر حجمه: قطر اختارت استعمال أداتي السلطان الحديث: الكلمة والعملة.

وتركيا تستعملهما وتضيف إليهما ما يوفره لها حجمها الكبير بالقياس إلى قطر لحماية هذا التوجه بالنسبة إلى ثورة الربيع العربي ملجأ لقياداته.

ولست ممن يتخذ المواقف اعتباطا أو لمصلحة شخصية: فكل موقف لم تسنده نظرية شروط النهوض والاستئناف العلمية اعتبره نفعيا ولا أحترمه ولا أتبناه.

وبهذا المنطق وقفت من الانقلاب في تركيا ومن الحصار على قطر ووصلت بينهما وبين المعركتين الكبريين: معركة الربيع ومعركة المقاومة الفلسطينية.

فالأعداء يحاربونهما كعائقي الصفقة الكبرى التي يسعى إليها مخمس الحرب على الأمة والإسلام: إيران وروسيا ثم إسرائيل وأمريكا والأنظمة العميلة.

وعندما حللت خطابي قائد قطر الشاب لم يكن يعنيني ما اعتنى به غيري من مدح للرجل كقطري بل كان يعنيني ما في خطابه من إدراك للوضع كما أحاول وصفه.

تجاوز حصارهم لقطر إلى حصار اعداء الجميع لأمة: فكان ناصحا لمحاصريه أكثر من معاد له. ذلك ما أردت بيانه في كلامي على خطابيه الأول والثاني.

ولما وصفت اردوغان بكونه معاوية فلدهائه وتعامله مع الاعداء الذي يبقي على شعرة معاوية ولا يغفل عن الهدف الأسمى أي النهوض واستئناف دور الأمة

وقد توهمت في البداية أن سلمان كان ميالا إلى إيقاف العداوة مع الثورة وتبني المقاومة الفلسطينية والتصدي لإيران. حمق ابنه خيب ظني. ولست الوحيد.

وما خيب ظني أكثر امران آخران: أمراء الحرب في الربيع سواء العنيفة (كما في سوريا وليبيا) أو اللطيفة (كما في تونس ومصر): هم نكبة على الربيع.

لذلك انعزلت وتفرغت للمقاومة النظرية بعيدة المدى.

إنها ضرورية لأن كل النكبات علتها العلوم والأعمال الزائفة التي خذلت الأمة وينبغي علاجها.

الكتيب

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي