لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالترميز
سأتوقف عند إشكالية النظم ومعنى المعنى. فلهما علاقة بما نريد شرحه من أن الترميز اللساني يتميز بكونه متأخرا ومتقدما في آن على ترميزين أعم منه. فهو متأخر عن الرسم والموسيقى عامة لكنه متقدم عليهما عندما يستعملهما لتشكيل مادته بعد نشأته فينتج أساليبه بتشكيلهما بنسب مختلفة بينهما. فالأساليب الشعرية مثلا دور التشكيل الموسيقي فيها أهم من دور الرسمي والأساليب النثرية العكس والأسلوب الأسمى في القرآن لا يرد إلى أي منهما. لكن كل الأساليب بما فيها القرآني ترد إلى الرسمي والموسيقي المتقدمين على اللساني وهو ما يجعل إمكانية تجاوز العبارة اللسانية إلى الترميز العام. وعلى هذا الأساس كتبت “الشعر المطلق والإعجاز القرآني”. فتجاوز اللسان إلى أصله الذي هو أحد فروعه هو ما يشرئب إليه الشعر لكنه يبقى دون الاعجاز. وعبارة الشعر المطلق اقصد بها ما وعد به ابن سينا خلال شرحه لكتاب أرسطو في الشعر ولم ينجزه: شعر متحرر من اختلاف الأشكال باختلاف الثقافات. فقد ميز ابن سينا بين الشعر اليوناني (كتاب أرسطو) والشعر العربي ووعد بكتابة مصنف في نظرية الشعر المطلق بمعنى الشعر الذي يمثل الكلية الإنسانية. ولعل القرآن هو ما أوحى لابن سينا بهذه الفكرة: فالقرآن يعتبر الإسلام الديني في الأديان أي الديني الذي هو الكلي الإنساني فوق اختلاف الثقافات. لا أستطيع الجزم بفكرة ابن سينا. لكنها عندي قرآنية: فالقرآن ليس نصا مقدسا مثل غيره بل النصي فيها: إنه المعادلة الوجودية وحقيقة الإنسان الكلية. وهذه الحقيقة عرفها القرآن نفسه بما جعل آدم أهلا للاستخلاف: القدرة على التسمية وهي أعم وأشمل وأتم من تعريف الفلسفة للإنسان باللسان والعقل. لهذا رددت كل وظائف الترميز إلى وظيفة واحدة هي التسمية التي تبدع نوابا يمثلون الأشياء وعلاقاتها بما فيها الرموز وعلاقاتها: حقيقة الإنسان. وهي بعبارة أخرى أوضح: القدرة على التواصل في غياب الأشياء باستعمال نوابها الرمزية بدائل منها متحررة من المكان والزمان في علاقتي التواصل. وعلاقتا التواصل مباشرة بين الإنسان وما يعتبره ربا له في الاتجاهين وغير مباشرة بين الإنسان وما يعتبره وسيطا بينهما أي الطبيعة والتاريخ. والتواصل بالواسطة الطبيعية وبالواسطة التاريخية هما ثمرات الذوق والعلم بمستوييها الأول والثاني كما وصفناهما في سابق البحوث: حصيلتها الحضارة. يمكن للقارئ أن يتابع التحليل إذ أخذ بعين الاعتبار أن النظرية هي كالأدوات المكانية لكنها رمزية لعلاج الإشكال في تعليل الظاهرات وتفسيرها. بهذا المعنى فرد البلاغة إلى النظم النحوي عند الجرجاني ونظرية معنى المعنى (ولها ما لا يتناهى من التوالي) أدوات لعلاج إشكال التسمية عامة. ومن يفهم ذلك يتحرر من سخافات المقابلة بين الحقيقة والمجاز ويدرك أن معنى المعنى يجعل المعنى المتقدم يتحول إلى دال على المعنى المتأخر بلا حد. وقد يكون ذلك لغاية بلاغية لكنه أيضا لغاية التعامل مع عجز العبارة. فعندما استعمل “يقدم رجلا ويؤخر أخرى” أعلم معناها كرسم لحركة المتردد. فيصبح المعنى الأول “حركة المتردد” اسما يرسم مشهدا مدلوله هو المعنى الأول وهذا المدلول يتحول إلى دليل على ا لمعنى الثاني: وليس مجازا. هي علاقة بين مشهدين أحدهما حسي والثاني غير حسي. وتلك هي علاقة الترميز عامة: إذ قلنا إن الترميز يقسم الموجود إلى رامز ومرموز عند جماعة. وهذا هو المستوى الأول من معنى المعنى لما يكون الأمر متعلقا بمعنيين من عالم الشهادة. والثاني يتعلق بمعنيين أحدهما من الشهادة والثاني من الغيب. فالمتكلمون يظنون العلاقة بين حقيقة ومجاز. وهي سوء فهم: فكلاهما حقيقة إحداهما معلومة لأنها من الشاهد والثانية غير معلومة الحقيقة: دلالة تناسب. ذلك أن الترميز كله ليس حقيقة بل هو علاقة بين شيء ونائبه في تواصل جماعة. ولا علاقة لحقيقة الرمز بحقيقة المرموز. هي علاقة بين مواضعتين. الأولى مواضعة تنشئ الرموز ومنظومتها والثانية مواضعة تنشئ التمييز بين الأشياء وتنظيم العالم في جماعة معينة بالتناظر مع المواضعة الاولى. مثال ذلك أننا كعرب نسمي عضو اليد “يدا”. لكن نفس العضو يسميه غيرنا باسم آخر. النسبة بالاسم والمسمى واحدة لكن حقيقتهما لا دخل لها في النسبة. القول إن العضو يد مرموزا للرمز يد في العربية علاقة حقيقة بين الرمز والمرموز حماقة. لأنها لو كانت علاقة حقيقة لاتحد البشر في تسمية عضو اليد. ومثلما تواضع العرب على تسمية عضو اليد يدا تواضعوا على تسمية شيء آخر مجهول الطبيعة بتناسب الفعلين وليس بحقيقة الأمرين: قضية رسم تناسبي. ولأضرب مثال من الخرائط الجغرافية. الكرة الارضية يمكن أن ترسم في شكل كويرة فوق مكتبي ثم أختار سلم تناسب الأبعاد بين الكرتين: مثلا 1من مليار. هذا المثال في الحجوم. لكن إذا كان متعلقا بالقدرات وقلت إن الله ليس كمثله شيء فإن كل تناسب يبقى تناسب بين حدين أحدهما معلوم والثاني مجهول. ولا معنى للخلاف السخيف بين من يقول إن لله يدا ومن يدعي تنزيهه عن الجسمية. فالأمر لا يتحلق بالجسمية بل بالتناسب بين فعلين متناه ولا متناه. عندما أقول الله صانع العالم فمن الغباء تصور أني اعتقد أنه مثل النجار او الحداد أو أي صانع آخر. التناسب لا يتعلق بالله والصانع بل بالفعلين. عندما أصف نفسي بالإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود وهي كذلك صفات ذاتية لله فهل ادعي أن اقيس الله على الإنسان؟ أو الإنسان على الله؟ كلا التصورين يفترضهما أصحاب المقابلة بين الحقيقة والمجاز بسبب سذاجتهم: فصفات الإنسان هنا من “يقدم رجلا ويؤخر أخرى” للدلالة على التردد. لكنها ليست مثلها في كون “ليس كمثله” يعني أن التناسب هو طريقة التعبير لكنه لا يتعلق بطرفي التناسب بل بفعليهما مع فارق ليس كمثله شيء. أنا أريد وأعلم وأقدر وأحيا واوجد الله وأنسبها إلى الله بوصفها معنى معناها دون أن يكون الله مثلي ولا أنا مثله ولاوجود للمقابلة حقيقة مجاز. طبعا الجرجاني لم يكن قصده الكلام على هذه القضية بل هو اكتشف وظيفة الرمز النائب لما يكون رسما لمدلول عبارة يصبح دالا على مدلول عبارة أخرى. وهو يقف عند رتبة ثانية لو يتكلم على رتبة ثالثة فضلا عن رتب لا متناهية في تحول المدلول إلى دال على مدلول أرقى. لكن الإدراك الإنساني يتكرر بلا نهاية. فأنا أدرك أن أدرك ثم أدرك أني أدرك أني أدرك بلا نهاية. والوعي يحاكي بذلك تراكب الترميز إلى ما لانهاية له: التداول بين المدلولية والدالية. والقدرة على التسمية التي علمها آدم فصار أهلا للاستخلاف: لأن حضور المطلق لديه لا يكون إلا بفضل هذه القدرة وبها يخلف الله بتوسط خطابه. والخليفة نائب نيابة الرمز للمرموز في الجماعة التي تؤمن بهذه العلاقة بين الله وخليفته. ويترتب على النيابة هو تنفيذ إرادة المنوب بقدر الوسع.