لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالترميز
وعدت بالعودة إلى البعدين الضروريين اللذين ينبغي إضافتهما لعلوم اللسان الثلاثة حتى نحدد طبيعة عناصرها ووظائفها أي ما يمدها بعدي الترميز عامة. والترميز عامة هو التسمية التي تبدع نائبا عما يدور حوله التواصل في غيابه لكأنه هو بحكم تمثيل الاسم للمسمى. وليس ضروريا أن يكون ذلك لسانيا. فالترميز اللساني رغم أهميته وفاعليته الفائقة ليس هو الوحيد ولا هو الأصل في بداية الترميز لأنه يوجد ما هو أعم منه لأن الصورة أعم من الصوت. ولما كنا لا نعلم كيف تكونت اللغة الصوتية وكانت الفرضيات متعددة حول نشأتها فإني رأيت أن أقيسها على اللغة الرسمية أو الكتابة فرضية جديدة. لا أهمل ما سبق (أفلاطون روسو هردر..) وأتجاوزه إلى ما يقبل التحقق منه لعلمنا بمراحل اكتشاف الكتابة عامة وكتابة اللغة الصوتية في الشرق العربي. والمبدأ العام في ابداع النواب هو انتخاب بعض الموجود لأداء هذه الوظيفة. وإذن فالبداية هي تقسيم الوجود إلى رامز يسمي ومرموز يسمى به. وبذلك يكون الترميز عملية مناظرة بين قسمين من الوجود: قسم يمثل مجموعة الرموز وقسم يمثل مجموعة المرموزات في كل جماعة بمجريات حدثية مختلفة. وللفارابي في ذلك أفكار مفيدة جدا وردت في كتاب الحروف حول المجريات الحدثية التي تنشأ بمقتضاها عملية الترميز الاولى ثم تستقر في الجماعة. ما اريد أن أضيفه لأفلاطون والفارابي ورسو وهردر هو أن ذلك لا يحصل بمصادفات مجرى الأحداث بل له علل تجعله يحدث بنفس الطريقة رغم اختلاف المواد. والبداية هي من ترتيب الحواس بحسب المسافة الفاصلة بين الحاس والمحسوس. فالأبعد هو البصر ثم السمع ثم الشم ثم الذوق وأخيرا اللمس. والشم حد أوسط. فهو مثل البصر والسمع قابل لأن يحصل عن بعد لكنه مثل الذوق واللمس لا بد أن يصل المحسوس بذاته وماديا إلى الحاسة. وهذا هو أول محدد للنيابة. فالبصر أكثر المحسوسات قابلية للنياية بالرسم يليه السمع بالموسيقى. أما باقي الحواس فلا يمكن أن توجد فيها نيابة ولا شركة بين الحاسين لها. لو دققنا لوجدنا أنه لا شركة في أي حس. لكن مقدار الشركة في البصر والسمع الممكن كبير وهو أساس التواصل الممكن السابق على نشأة اللغة اللسانية. وقصدي أنه الوحيد الممكن للأبكم اليوم بالرسم والتصويت المصاحبين للإشارة إلى المرموز إن كان موجودا أو لما يعد منهما علامة عليه في غيابه. إنها البداية التي افترضها أصلا للغة اللسانية: وبها يبين لنا ما اعتبرته محددا لطبيعة عناصر اللسان ووظائفها علمين متقدمين على الثلاثة المعلومة. سأفترض حوارا بين أبكمين من نفس الحضارة حول أمر غائب: سيتفاهمان بالرسم والصوت دون لغة لسانية. ولا حاجة لحركة الشفاه المشيرة إلى لغة لسانية. الفرضية هي التالية: هل يوجد صوت هو في آن علامة المرموز؟ نعم: اسم الصوت. وهل يوجد رسم هو في آن علامة المرموز؟ نعم وهذا أيسر لأن رسم الشيء مثله. الأهم الآن هو: هل يوجد رسم مصوت؟ نعم وهو: اسم الفعل. صوت لا يدل على شيء فالدال فيه هو تعبير المصوت الجسدي خلال التصويت: مثل صه وحدك. التعبير البدني (رسم حي) المصاحب لاسم الفعل (صوت) يفيدان أمرا بعدم التصويت سواء كان لسانيا أو مجرد تصويت غناء أو حتى بكاء مصوت. وهذه هي المفارقة: الكتابة سابقة عن اللسان. فالرسم النائب للمرسوم كتابة سواء كان في الموضوعات أو تعبير الرامز البدني. الترميز النائب الأول. والانتقال إلى الكتابة الحالية بمعنى كتابة اللغة الناطقة مر بمرحلتين أساسيتين: بداية الهيروغليفية المصرية وغاية الفينيقية إذ هما تطورتا. المرحلة المصرية كلها تمثلت في محاولة اعتماد رسم الأشياء نوابا عنها في التواصل. والمرحلة الفينيقية عكست: صارت دالة على اسمائها لا عليها. مثال ذلك أن رسم الجمل لا يدل على الجمل بل على الجيم. فبدلا من أن يكون رسم الشيء نائبا له صار نائبا للحرف الأول من اسمه فصار اللسان مكتوبا أرسم مجموعة من الحيوانات مثلا مجموع حروف أسمائها الاولى تؤلف “كلمة”. إنها الكتابة الألفبائية أو الابجدية التي صارت عالمية وإن بأشكال مختلفة. وما يعنينا من كل هذا هو قس نشأة اللغة اللسانية على اللغة الكتابية التي افترضت أنها متقدمة عليها وشارطة لتكونها: الإنسان يكتب قبل أن يتكلم وأعني بـ”يكتب” قبل أن “يتكلم” أن الرسم والموسيقى هما أساس كل لغة ناطقة. ورسوم الأشياء تحدد طبائع الألفاظ ورسوم العبارة الحية تحدد وظائفها. والرسوم التي تحدد طبائع النواب تستمدها من طبائع المنوبين من جنس اسم الصوت. والتي تحدد وظائفها تستمدها من العبارة البدنية للمتكلم: اسم الفعل لا بد إذن من اضافة نوعين آخرين من المفردات: قبل الاسم والفعل والحرف لا بد لفظ نائب وطبيعة (اسم الصوت) ولفظ هو نائب ووظيفة (اسم الفعل). فتكون نواة كل لغة النائب الذي هو عين الطبيعة المنوبة والنائب الذي هو عين الوظيفة المنوبة ثم بعد ذلك يأتي الاسم والفعل والحرف. والحرف. والحرف هو ذروة كل لسان لأن الوصلة الضرورية بين الاسم والفعل البسيطين وبين ما يؤلف منهما. فتكون عناصر اللغة اللسانية خمسة قلبها الحرف. وقد اخترت من الكتابات ما كان منها مناسبا لفرضية تقدم اللغة الكتابة على اللغة اللسانية. فرسم المعاني الصيني والمسماري مثلا غير مناسبين. ما يناسب الفرضية هو رسم الأشياء والطريق المسدودة التي ينتهي إليها ورسم الاصوات وهو الحل النهائي للكتابة الإنسانية: وكلاهما متأخر طبعا. وينبغي أن يكون متقدما على اللسان كذلك لأنه شرطه: إذا لم يوجد صوت اسما لذاته (اسم الصوت) وصوتا اسما لوظيفته (اسم الفعل) تمتنع التسمية عامة. والتسمية التي هي أصل كل ترميز وأعم من اللسان مستحيلة من دون الفن التشكيلي والموسيقي أي رسم الأشياء والأصوات ليكونا مادة للترميز ومنه اللسان. اللسان من أقوى أنظمة الترميز يبدأ بالصوت الدال على طبيعته كلفظ مسم لنفسه (اسم الصوت) وبالصوت الدال على وظيفته كتلفظ مسم لوظيفته (اسم الفعل). وما حال دون النحاة عامة ونحاة العربية خاصة اعتماد هذين المفهومين أصلين ومقومين لكل لغة هو بالذات استعمال إحدى المقولات الثلاث لتسميتها. ففي النحو العربي نجد كلاما على اسم الصوت واسم الفعل. لكن النحاة بسبب هذه التسمية ظنوهما أسمين عاديين واكتفوا بالاسم والفعل والحرف. وهو خطأ. ذلك أن التسمية تبدأ بهما لتجعل الصوت يعود على نفسه ليكون اسما لها ثم يصبح بداية تسمية للأشياء التي تختص بذلك الصوت أو بما يلازمه. وبعد طبيعة اللفظ تأتي وظيفته: فالوظيفة في اسم الفعل يمثل التعبير البدني والنبرة المصاحبة للتلفظ به:كصه وشت أو ساينلس أو وضع اليد على الفهم. وهذه فرضية عمل علمي لا يمكن التأكد منها إلا بامتحانها من قبل الكثير من الباحثين. لذلك فالأستاذ رغم اعتقاده في صوابه فالخطأ محتمل كذلك. وهي فرضية مفيدة جدا لأن فهم لغة القرآن مشروط بها. ذلك أن رسم القرآن للأشياء والتعبير الجسدي للرسول الذي قد نجد بعضه في السنة أساسيان. فمن لم يعش مع الصحابة الخطاب الحي للرسول وهو يتلو القرآن قد لا يرى من القرآن سر تأثيره الكامل لأن الوظائف ليست كلها قابلة للحضور في النص. بعضها يحضر وهو دور البلاغة والنظم بين مفردات النص. لكن العنصر الذي لم يكتب منه الكثير في القرآن هو التعبير البدني للرسول في الوضعيات الحية. وحتى بالنسبة إلى الإنسان العادي فالفرق بين كلامه المكتوب وخطابه الحي الذي قد يسهم في التأثير أكثر من نص كلامه ثمرة للتعبير البدني المصاحب له. والأهم من ذلك كله هو بيان العلاقة بين فعل التسمية الذي هو الترميز عامة وهو معنى وعلمه الأسماء كلها أي قدرة التسمية والترميز اللساني. فالقرآن لا يقتصر على الترميز اللساني بل إن الترميز الدرامي فيه أهم ألف مرة من الترميز اللساني: فالمشاهد التي يعرضها تعبر بالأفعال الدرامية. من يقتصر على النص بمعنى الألفاظ لم يرمن القرآن إلى جزءا ضئيلا. ومن يتصور القرآن مسألة عبارة لسانية فحسب فرط في ثروة القرآن وثورته الأسلوبية. صحيح أن نظرية النظم ومعنى المعنى اضافت الكثير للفهم القرآن. فمعنى المعنى والنظم كلاهم ذو صلة بالرسم الشكلي والصوتي اللذين أشرنا إليهما. وسنشرح هذه العلاقة لاحقا. لكنها لم تفهم على حقيقتها: فالمعنى الأول رسم يعتبر دالا على معنى ثان هو الدال على المعنى المقصود في الوجود. ولما كانت كل الموجودات في القرآن آيات فهي معان. ولما كانت هذه المعاني متواصلة بات نظام القرآن ونظمه هو الذي ينبغي الانطلاق منه لفهمه. وتلك هي فرضية العمل التي انطلقت منها في محاولة قراءة القرآن فلسفيا: لابد من فرضية حول نظام القرآن يعرف به ومنه يمكن استنتاج قصوده الممكنة.