لتحميل المقال أو قراءته في ص-و-م pdf إضغط على العنوان أو الرابط أسفل النص
1- وعدت في كلامي على الخلافة بتحليل أربعة مفهومات أخرى هي “الأمة والهوية والشريعة والتراث” دون أن أحدد علة وصل هذه المفهومات بالخلافة مع تأجيل كنت أتصوره سيطول. لكن الله يسر.
2-لم أعين أجلا مسمى لإنجاز ذلك تاركا الأمر لتوفر الفرصة. وأراد الله أن تتوفر. هذا الفجر شعرت بحاجة إلى الشروع في الإنجاز بدءا بالوصل المعلل بين المفهومات الخمسة لأنه هو جوهر الإشكال في كل منها: طبيعة ترابطها
3-يتضح الوصل بترتيب المفهومات كما أوردتها فوضعنا الهوية في القلب وقبلها مفهومان هما الخلافة والأمة وبعدها مفهومان هما الشريعة والتراث.
4-فهذا الترتيب حول الهوية نواة يتقدم عليها مفهومان ويتلوها مفهومان هو جوهر العلاقة بين هذه المعاني وجوهر الإشكال التاريخي في أزمة الحضارة العربية الإسلامية في عصرها الراهن : وبيان ذلك هو الدافع الأساسي للمحاولة.فالتحقير مما يسمونه بالـ“هووي” يمثل غاية سوء فهم دور التراث في الفكر الإنساني.
5-نشرح هذه المعاني بتحديد: العلاقة بين المفهومات الخمسة أولا ثم نحدد ثانيا الإشكال التاريخي من منطلق حاجة الاستئناف للبدء بتحرير السنة والجماعة من عقدها أو مركبات النقص الذي تجعلها دائما في موقف الدفاع الذي يشبه الخجل بما ينبغي أن تفخر به.
6-ومثلما بدأت بأول هذه المفهومات– الخلافة– فسأستأنف البحث من آخرها “التراث“. ذلك أن كل المعركة بين الكاريكاتورين مدارها دعوى الدفاع عن التراث (التأصيل الكاريكاتوري) والحرب عليه (التحديث الكاريكاتوري).
7-وكما أسلفنا في غير موضع فالكاريكاتوران يمثلان لانحطاطين إذ تحولا إلى صدام حضارات داخلي بين التأصيل والتحديث المزعومين مدعوم بصدام حضاري خارجي يشجع كلا الصفين لتغذية المعركة وتشويه الاستئناف.
8-والصدام الحضاري هو بين موقفين: تجفيف المنابع موقفا لكاريكاتورالتحديث ورد الفعل الدفاعي موقفا لكاريكاتور التأصيل: وكلاهما“بوكو حرام” التحديث والتأصيل .وطبعا فما سأقوله في هذه المحاولة التي كنت أنوي تأجيلها سيسعد عٌمش التحديث والتأصيل الاستبداديين من طلبة طبيب الانقلابيين الذي تسمع له الفلاسفة “السيسي” وأبواق إصلاح الخطاب الديني.
9- وفيه شيء من الاستطراد اعتذر عنه مقدما لما فيه من ترجمة ذاتية: فقد كلفت بتدريس الفلسفة (الباكالوريا) بالفرنسية -1970- وكنت من دعاة تعريبها منذ كنت طالبا في دار المعلمين العليا فشرعت في ترجمة بعض الأعمال ذات الصلة بهذه القضية عينها.
10-اخترت نصين لترجمتهما بمجرد أن شرعت في التدريس رغم تأليفي لعمل منهجي بالفرنسية: نص التنوير لكنط ونص حول معاني التاريخ من التأملات غير المناسبة لنيتشه. والأول يبدو دعوة للتحرر من التراث والقطع مع سلطته. والثاني يحدد المواقف من التراث مع تغليب النقدي على الوجهين الآخرين.
11-وكان أول عمل نشرته حول هذه الهموم حينها نص “بحثا عن اليابسة” في مجلة دار الثقافة ابن خلدون حددت فيه موقفي مما كنت أشعر به من غرقي شخصيا وغرق الأمة في قضية التراث وطلب شروط الاستئناف السوي.
12-وهذا ما أريد الكلام عليه بعد نضوج السنين-45 سنة– من تأمل الصدام الحضاري بين ممثلي الانحطاطين في معركة الكاريكاتورين بين نجوم الساحة. وما أكثر هذه النجوم في كل ميادين ما يسمونه إبداعا وفكرا وفيهما من النكبات ما يفوق الحاصل في الاقتصاد والسياسة وفي كل أوضاعنا الحضارية الحالية.
13-سأذكر أولا بمنطلق المعركة وعلل وصلي بينها وبين شيء من الترجمة الذاتية: نص كتبه بلوخ “حول اليسار الأرسطي“بمناسبة ألفية ابن سينا سنة 1961 كان اصل خرافة التقدمية الرشدية والحرب على الغزالي: خرافة اليسار الأرسطي وظلامية الغزالي (دعوى العقول الثلاثة الجابرية ولاعقلانية المشرق وعقلانية المغرب من توابع هذه الخرافة).
14-خرافات اليسار العربي ضد الغزالي ومع الرشدية التنويرية تمثلان منطلق الجمع بين اهتمامي بالفلسفة الغربية والنظر الجانبي في المعركة والاهتمام بالفلسفة العربية التي لم تكن من اهتماماتي حتى نهاية المرحلة الجامعية ما قبل دراسة الدكتوراه.
15-تلك هي علة شروعي في دراسة فكرنا الفلسفي وخاصة في دراسة القانون الفرنسي الوضعي لفهم العقلية الفقهية –التي لا تختلف كثيرا عن العقلية القانونية الوضعية– التي كنت أتصورها ممثلة لأهم مميزات فكر الغزالي (وحتى ابن رشد وهو تلميذ الغزالي رغم مكابرة الرشديين).
16-بهذين المدخلين سأتكلم على مفهوم التراث لدى أصحاب معركة الكاريكاتورين: برنامج تربوي مثلت له بنصين من كنط ونيتشة مع تكوين أرسطي هيجلي سابق ومحاولة لعلاج معركة ابن رشد والغزالي في أصولها.
17-وقصدي بأصولها أمرين: أعمال الرجلين وتجاوز الموضة التي نتجت عن قراءة ابن رشد اللاتيني (رنان) وابن رشد ممثل اليسار الأرسطي (بلوخ) وعقدة النقص التي هي منطلق قراءات اليسار: تقويم فكرنا بما يزعم له من تماثل مع فكرهم الذي صار المعيار.
18-وإذن فالمعركة مضاعفة: فهي أولا بين ابن رشد والغزالي وهي ثانيا صداها لدى الكاريكاتورين بسبب التقليد البليد لنص بلوخ خاصة حول تنويرية ابن رشد وظلامية الغزالي وحتى لنص ابن رشد اللاتيني (جدل عبده ضد القول بعلمانيته والجابري مع القول بها).
19-اكتفيت بكتابة بحث علمي هو رسالة ماجيستار حول “مفهوم السببية عند الغزالي” قدمته بالفرنسية في السوربون سنة 1972 لإنصاف الغزالي من تخريف اليسار وتضخيم دور ابن رشد دون فهم فكرهما بسبب تقليدهم الساذج لأرنست بلوخ وأرنست رنان.
20-صحيح أن محاولاتي لم تؤخذ بعين الاعتبار ولله الحمد والمنة. لكن موقفي الرافض لكليشهات اليسار العربي والتحديثين الذين تسكرهم زبيبة أتم نهائيا عزلتي ولله الحمد ثانية. فهي عزلة حررتني من تبعات معركة الكاريكاتورين. فمكنتني من التفرغ للعمل الجدي المثابر والصابر.
21-والشروع الفعلي في فهم إشكالية التراث ليس الإسلامي فحسب بل الأبعاد الخمسة من مقومات حضارتنا ودليل كونيتها: اليوناني القديم والإسلامي الوسيط والغربي الحديث والنقلتان من الأول إلى الثاني ثم من الثاني إلى الثالث.
22-فالنقلتان من القديم اليوناني إلى الوسيط الإسلامي ثورة في كل أبعاد التراث الإنساني أعدت للنقلة من الوسيط الإسلامي إلى الحديث الغربي. ونحن الآن في طور النقلة الجامعة التي يحققها الاستئناف لتجعلنا اكثر أمم العالم كونية حتى يتحقق التطابق بين وجود الأمة وصورتها عن ذاتها في مرجعيتها القرآنية: فالفكر هو حياة التراث في كل أمة ذات مشروع كوني إيقاعه هو منعرجات تاريخها.
23-فالتراث لغويا وقرآنيا حقيقته “الثروة المادية” (الفجر 19). لكنه لدى ممثلي الانحطاطين يعني عموميات رصيد فكري ورمزي ينتقونه تحكميا مع إهمال بعدين مهمين وخاصة علاقتهما بدور التراث في اصطلاحهما به تعينا لكيان الجماعة الروحي. فمن دون هذه المعاني لا يبقى إلا العضوي والملكات الخاوية.
24-فالبعد الأول هو صلة هذا المعنى المجازي بالمعنى الحقيقي الوارد في القرآن والذي هو جوهر التراث المادي. والبعد الثاني هو صلته بمعنى الوراثة في دلالتيها إرثا (كما في الفرائض) ووراثة (كما في الأرحام). والوصل بين الأمرين في القرآن الكريم بين في سورة النساء.
25-وهذه هي المعاني التي ينبغي فهمها للوصل بين التراث والخلافة والأمة والهوية والشريعة مع التذكير بأن المركز في هذه العلاقات يبقى الهوية كما نبين: فهي ثمرة ما تقدم عليها وغايته (الخلافة والأمة) وهي أساس حفظ ما تأخر عنها (الشريعة والتراث). فالحضارة هي التراث بما هو كائن حي جسده حيز المكان وثمرته المادية وروحه حيز الزمان وثمرته الروحية.
26-فما علاقة نص كنط بالإشكالية؟ علاقته هي بيان سوء فهمها وعدم التمييز بين التنوير والتخدير عند التنويريين العرب (وكلهم فاشيون لحلفهم مع الأنظمة الفاشية إن ليس في بلادهم ففي غيرها). فقد ظن اليسار العربي وأصحاب تجفيف المنابع كنط داعيا للقطع مع الذات بدلا من التحرر من التقليد للذات أو لغيرها.
27- لم يتحرروا كما يتوهمون بل عوضوا تقليد الماضي الأهلي بتقليد الماضي المستورد وسموا ذلك تنويرا وتحديثا وهو أكثر رجعية من تلقيد الماضي الذاتي. وإذن فالمعركة هي بين تقليدين كاريكاتوريين مما يدعيانه من المهام. إنه صدام حضارات داخلي.
28-التراث ثمرة مادية أولا (الفجر 19) لفعل روحي (الإنتاج الاقتصادي وشروطه المعرفية والتقنية) قد يستعبد صاحبه (يأكل التراث أكلا لما ويحب المال حبا جما) وقد يحرره من سلطانه بالأخلاق الإسلامية المحررة من “هذا ما وجدنا عليه آباءنا“.
29-وحتى أتمم تحديد هذا المعنى نقلت إلى العربية نص نيتشة في دلالات التاريخ الثلاثة أو ضروب التعامل معه من كتابه “تأملات غير مناسبة“: التاريخ المعلمي أو مواصلة النموذج والتاريخ النقدي أساس التجديد والتاريخ المتحفي أو المقبرة. واعتماد المصادر الأجنبية غايته أن الأصالة السوية ليست قطيعة مع الإبداع أيا كان مصدره إذا كان نابعا من كليات الكيان البشري عقلا ووجدانا.
30-ومن له دراية بالقصص القرآني يجد هذه المعاني الثلاثة مع وضعها في مستويين ضمن نفس الحضارة وفي تاريخ الإنسانية الدنيوي والمتعالي عليه أو الروحي. والحصيلة: هي أن التراث هو حفظ النماذج والتحرر من “هذا ما وجدنا عليه آباءنا” في آن. وعلى كل فهو ليس “تجفيف المنابع” وتعويض الذاتي بالمستورد أو تقويمه به.
31-تلك هي العلاقة بـمعاني “الخلافة” التي بينا في محاولة الأمس والتي هي جماع التراث الإسلامي لأنها جماع قيمه في الأذهان والأعيان: المنزلة الوجودية والاستبدال العالمي بين الأمم والاستبدال الخاص في الجماعة الواحدة ثم التحرر من القول بـالشعب المختار ومن القول بالحق الإلهي في الحكم.
32-فالتراث السوي يتضمن المعاني الثلاثة الموجبة الأولى وثمرتها التحرير من المعنيين السالبين. والتراث المرضي يتضمن المعنيين السالبين وتمرتهما إلغاء الثلاثة الأولى لتأسيس التمييز العنصري وتأليه الحكام والوسطاء.
33-وتلك هي معركة الإسلام مع أعداء الرسالة الخاتمة والأمة الشاهدة: فهم يقولون بالأخيرتين–شعب الله المختار(إسرائيل) والحق الإلهي في حكم البقية (الإمامية) نكرانا للأخوة البشرية ومن ثم سعيا لاستعباد الناس الذين يعدون جوهيم وعبيد الوسطاء.
34-فتكون الوجوه الموجبة من الخلافة (المعاني الثلاثة الأولى) محررة من الوجهين السالبين (المعنيين الأخيرين) وهي الأساس الأول للنظر في التراث. والنظر في التراث يكون مطابقا وظيفيا للاستعمار في الأرض (ومنه الدولة) وخلقيا للاستخلاف فيها (ومنه الأمة).
35-مضمون سورة النساء: فهي تبدأ بإثبات المعاني الثلاثة الأولى مضمون الاخوة البشرية الكونية وهي تصلها بالتراث بمعانيه الثلاثة: الثروة (اقتصاديا) والتراث (ثقافيا) والوراثة (بايولوجيا) ومجموعها بمزاج معين يمثل هوية حضارة من الحضارات.
36-أتكلم من موقف يحدد في المعركة سلبا لأنه لا أحد من الصفين يعتبرني منه: فالتاصيلي والتحديثي– كلاهما ينسبني إلى خصيمه. لست منتسبا إلى أي منهما: وتلك هي نعمة الحرية ومزية عدم التبعية وسلطاني على نفسي واحتقاري للشللية.
37-خذ الآية الأولى من سورة النساء: فالناس كلهم من نفس واحدة. ولهم رب واحد. وإذن فالرحم الكوني واحد وهو الأخوة البشرية والخالق واحد وهو الرب. وكلاهما مضطر لا خيار فيه وليس اختياريا: النفس الواحدة والرب الخالق.
38-ثم يأتي الرحم والألوهية وكلاهما اختياري وحر: فتنقسم الإنسانية إلى شعوب وقبائل وشرائع مختلفة على أرضية الوحدتين الأوليين (النفس الواحدة والرب الخالق). والله رقيب لأن الرقابة تتعلق بما هو اختياري.
39-مفهومان للرحم: الكلي (خلقكم من نفس واحدة) والجزئي (والأرحام) وللمطلق الربوبية (اتقوا الله الذي خلقكم) والألوهية (اتقوا الله الذي تساؤلون به). بالثانيين الاختياريين (الأرحام والله) يكون الإنسان تراثا حضاريا ماديا (الثروة) وروحيا (التراث) ليحقق التطابق مع الأولين (النفس الواحد والرب).
40-من هذا المبدأ العام أو الاستخلاف منزلة وجودية للإنسان تتفرع الخلية الاسرية (شرط تواصل النوع: الاستمداد من الحياة) والملكية (شرط بقاء الفرد الاستمداد من الطبيعة) ثم الحكم والدولة (شرط الحماية والرعاية) فالعلاقات بين الحضارات المتساوقة والمتوالية شرط التبادل والتنافس للتدرج نحو الإنسانية الفعلية المطابقة للفطرة.
41-لذلك فالتراث بمعناه المادي (المعنى القرآني الأول الفجر 19) وبثمرتيه ثروة مادية وروحية وتواصل الرحم تتكون الحضارات ومن دون هذه المعاني لا حياة ولا فكر ولا خاصة مدد مادي من الطبيعة وروحي من التاريخ.
42-لذلك فالقاطع مع التراث ليس منبتا فحسب بل هو كاذب لاستحالة القطع ولأن ما يظن كذلك هو في الحقيقة استبدال تراث بتراث. وكل بديل مستورد لا يدل إلا على فكر قاصر وحيوية عاجزة مع سوء فهم للبديل وللمبدل منه.
43-وتجميد التراث إرثا ماديا وتراثا ثقافيا ووراثة عضوية ونسلية يجعل الجماعة مومياء والقرآن يحررنا منها برفض” هذا ما وجدنا عليه آباءنا” دون قطع أو عارية لأنه يعتبر قيم الاستخلاف باقية ومورثة عضويا وخلقيا والتغير مقصور على العرضي (الفطرة).
44-وإذن فالتراث هو الحياة في سيلانها المتجدد عضويا وروحيا بتوالي الأجيال المجددة للحياة وبتوالي الابداعات المجددة للأدوات والغايات وباليفاع الدال على نجاحهما أو فشلهما. ومن علامات الفشل التي لا تكذب هي الحيوية العضوية.
45-دلالات الخلافة بمعانيها الإيجابية الثلاثة وبمعنييها السالبين. تراث الإنسان الذي يحقق الإنسانية من حيث هي ترجمة للقيم والإرادة الإلهية. وهذا الشرط لا تخلو منه حضارة حتى التي تدعي الإلحاد والعلمانية: لا بد من مرجعية متعالية على الوقائع تكون ما وراء لها.
46-زبدة القول: فالاستخلاف يقتضي استعمار الإنسان في الأرض بشروط تجعله تحقيقا للإنسانية المكرمة أو الحط منها بجعلها أداة بدلا من أن تكون غاية. وهذا يعني تعمير الأرض وتحقيق شروط الكرامة أي مؤسسات تنتج مددا ماديا ومددا روحيا شرطي الحياة حماية ورعاية.
47-التراث هو استعمار الإنسان في الأرض مطابقا أو غير مطابق لاستخلافه فيها. لذلك فهو مناط الخير والشر في آن وغالب الآيات تصفه بالخير إما فرضا أو شرط الفروض كلها كما بينا في محاولة سابقة (ولعل أهم ما يثبته تعريف البر في البقرة 177 ).
48-وليس ذلك مقصورا على المعنى الوجودي بل هو يشتمل كذلك على معنيي الاستبدال بين الأمم في تاريخ البشرية ثم في نفس الأمة في تاريخها: فإذا فسد التراث –فابتعد على قيم الاستخلاف– وقع الاستبدال لتحقيق الغاية.
49-فما يضيفه الإنسان لفطرته –أي التراث– بما فيها من قدرات على الإضافة إذ هو الحي الوحيد الذي له تراث يضاف إلى كيانه العضوي هو مناط التكليف السياسي والخلقي والديني للحماية والرعاية الذاتيتين وتشملان ما يسميه ابن خلدون بمعاني الإنسانية: الإنسانية الجديرة بالاستخلاف.
50-فلكأننا قلنا إن التراث –بمعانيه الثلاثة وراثة عضوية وإرثا ماديا وتراثا فكريا– هو ما به يثبت الإنسان جدارته وصلاحه بالاستخلاف أوعدمهما. والإثبات يكون عضويا بما يؤدي إليه الترف من شيخوخة وضيق بالحياة وروحيا بفقدان معاني الوجود.
51-بكلمة التراث هو ما ينتجه الإنسان من أدوات وطرائق يستكمل بها كيانه العضوي (العنفوان والحيوية) لتحقيق غايات الاستخلاف وحتى ما ينتجه لنقده وتجاوزه ومنعه من التحريف والطغيان والفساد في الأرض فهو محكوم بما هو من ممكناته.
52-ولما كان عنفوان التراث علامته الأساسية الطاقة الحيوية فإن استيراد تراث الأمم التي شاخت استيراد لأمراضها وعلل شيخوختها. فالتراث بهذا المعنى هو جوهر الإنسان عضويا وروحيا ولا يقدر الإنسان الانفصال عنه حتى عندما يحلق بانعكاس عليه لنقده والتحرر من سلطانه.
53- ومثلما تتجدد الأجيال عضويا يتجدد ما تضيفه الثقافة للطبيعة بإيقاع هو الإيقاع الذاتي للحضارة. ومن يتوهم تعويض تراث أمته بغيره هو كمن يتصور البروتاز قابلة لأن تصبح عضوا حيا. ذلك أن مراجعته هي عين فطرته التي تقوم الأدوات بالغايات في الذات: ففي الإنسان الاستخلاف هو الغاية والتراث هو الوسيلة دائمة التجدد.
54-ودوام التجدد في التراث لا يمكن أبدا أن يكون بتعويضه بتراث آخر لأن عين المقام في الأحياز الخمسة المكان وثمرته المادية والزمان وثمرته الروحية وأصلها جميعا أو ما يوحد بينها حصانة روحية ومناعة مادية.
55-التجدد الحي ليس هو إلا نمو السالف في الخالف. وهو عضويا أجيال شابة. وهو رمزيا إبداعات الجماعة التي هي عين ذاتها. وهو في السلطان المادي للإنسان المستعمر في الأرض عين سلطانه: إنه مدد مادي وروحي حي للاستخلاف: التراث هو ثمرة استعمار الإنسان في الأرض.
56-وفي الجملة فإن كل الغارقين في جدل التراث اقتصروا على سطحه فلم يدركوا أن تراث الأمم فروعه بعدة وظائف الدولة التي تصوره. فاكتفوا بعموميات لفظية لا تحيل على منجزات حضارية تمكن من تحديد مضامنها الفعلية.
57-لذلك حاولنا هنا ان نبين على الأقل صلة التراث بصورة العمران (حكما وتربية) وبمادته (ثقافة واقتصادا) وبطبيعة العلاقة بالأحياز أي المكان وثمرته (الثروة) والزمان وثمرته (التراث بالمعنى الرمزي) واصل ذلك كله النظام المرجعي في الأقوال وسلوكيا في الافعال.
58-فالتراث الذي أسس للمدن العظيمة والمراصد والمستشفيات ونظريات الحكم والمنجزات التقنية اكتفوا برده إلى أفكار سطحية لا تتجاوز الكلام على القبيلة والغنيمة وكل الثلاثيات السخيفة.
59-فالحضارة التي أسست أكبر إمبراطورية في التاريخ الوسيط كله وبقيت صامدة إلى نهاية الحديث وبداية ما بعده تكون بمثل هذه التحليلات قد وجدت وصمدت بمجرد الدعاء والهراء.
60-لذلك نحاول هنا بيان العلاقة بين التراث واستعمار الإنسان في الإرض إما بوعي منه أنه مستخلف أو بإغفال لهذا التكريم فينكص للتاريخ الطبيعي الذي يحول الحضارة إلى ما نشهده في منطق العولمة التي يصبح فيها الجميع عبيدا وأدوات بدلا من أن يكونوا سادة وغايات.
61-وبذلك فما يوحد ما يسمى تراثا يتجاوز الأفكار العامة بل هو منظومة الحضارة بمقوماتها المادية (علاقة بالطبيعة) والروحية (علاقة بالتاريخ) سنامها المرجعية الفلسفية والدينية التي تمكن من جعل المكان جغرافيا ترسم طبيعة التعيين الفعلي لشروط البقاء المادي والزمان تاريخيا يحدد دلالات هذا التعيين تحديدا يمكن من بيان منحنى التحقق المتدرج لاستعمار الإنسان في الأرض إما بقيم تسمو به فتحرر من الإخلاد إلى الأرض أو بقيم تحط من شأنه فتجعله لا يختلف عن سائر الحيوانات.
يرجى تثبيت الخطوط
أندلس Andalus و أحد SC_OUHOUD
ونوال MO_Nawel ودبي SC_DUBAI
واليرموك SC_ALYERMOOK وشرجح SC_SHARJAH
وصقال مجلة Sakkal Majalla وعربي تقليدي Traditional Arabic بالإمكان التوجه إلى موقع تحميل الخطوط العربية
http://www.arfonts.net/