التراث، معرفته وتحديد دوره التاريخي – القسم الثاني – الفصل العاشر والأخير

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله

– الفصل العاشر والأخير –

المقال

قدمت لكلامي على الجابري بلمحة في فكر فوكو وشروط استعماله، تلاها نقد فكره بالقياس إلى عدم استيفاء شروط هذا الاستعمال.

وأعلم أن الرد قد يكون: كل كلامك يسقط بمجرد اثبات أن الرجل لم يدع استعمال منهج فوكو.

لكن دعواه ودعوى تلاميذه بأنه يستعمل الابستمولوجيا، تثبت رغم فساد الدعويين، أن أصحابهما يقصدون الابستمي لا الابستمولوجيا. فهذه لا تدرس فكر حضارة بصورة عامة، بل هي تدرس الفنون العلمية فنا فنا. أو على أقصى تقدير عند تعميمها، فهي لا تتجاوز فروع مجموعة من العلوم من طبيعة واحدة: مثل فنون الرياضيات أو أنواع علم الطبيعة أو علم الإنسان إلخ… أما التراث ككل، فهذا من مجال الأبستمي فلسفيا على الأقل في الفكر الحديث وما بعده: والقصد علم ظهور الرؤية وتغيرها.

لذلك فلا معنى للاعتراض على مدخلنا في معنى الابستمي واستناد الجابري إليها.

إذا فصلنا الوصف الماركسي لدور العامل المادي في التاريخ عن تعليله بفلسفة مادية كان في الماركسية كثير من المشتركات مع فيما يوجد في التراث المرجعي للحضارة الإسلامية حول محركات التاريخ الإنساني وكذلك وفي الفهم السائد لهذا التراث عند الكتاب المتحررين من الكاريكاتور. فالتنافس والتنازع والتزاحم والتمانع بين البشر في كل المجتمعات البشرية مداره شروط الاستعمار في الأرض (وهو مادي بالأساس أي اقتصادي).

والفرق الوحيد حينها يتعلق بما يهمله الفكر الماركسي الاختزالي. فالتراث المرجعي الإسلامي لا يقتصر على هذا الوجه، بل هو يعتبره أحد وجهي محركات السلوك الإنساني. ومن ثم فإغفال الوجه الثاني، أي شروط الاستخلاف فيها، هو الذي يجعل التفسير الماركسي عديم الجدوى التفسيرية وناقصا من منظورها. وهو أمر أصبح الآن مفروغا منه قبل أن يراجع الماركسيون الكبار اصول تفسيرهم للتاريخ..

ومشكل الماركسية مع الإسلام خاصة، ومع أي فهم لدور الروحي والرمزي في التاريخ عامة، يأتي من ظن رده هذا العامل إلى ما تعتبره إيديولوجيا تخفي الحقيقة التي هي التفسير المادي للتاريخ بدلا من أن تكون أحد مقومات تفسيره، لأنها أحد مقومات كيانه وفاعلياته المؤثرة في صيرورته. هذا من حيث الجوهر، وهو كما سنرى مناقض لأسس الثورة التي تدعو إليها الماركسية والتي ينبغي الاعتراف بأنها دعوة خلقية وحقوقية، منطلقها تصور مثالي لحقيقة الإنسان المتعالي على مجرد حاجاته المادية. وهذا من ثوابت الماركسية حتى بعد مرحلة فكر ماركس الشاب. لأن الدافع إلى الثورة بمعناها الماركسي، هي تمكين الإنسان من حقوقه وأهما أن يكون إنسانا حرا وكريما.

والفرق الثاني مع المرجعية الإسلامية التي تجعل فكرنا متقدما على الثورة الماركسية منذ نزول القرآن، يتمثل في المنهجية الماركسية النظرية والعملية: الجدل والصراع. فالمنهج المستعار من الهيجلية أعني الجدل يمثل الخلاف النظري الجوهري بين تفسيرها للتاريخ. الصراع لتحقيق القيم يمثل الخلاف العلمي الجوهري. والرؤية القرآنية ترفض الخيارين. فالتفسير القرآني النظري والعملي يأخذ بعين الاعتبار كل مقومات البنى الاجتماعية والسياسية فيرفض المقابلات الزوجية التي تؤدي إلى القول بالجدل والصراع ويعوضها بنظرة بنيوية تتجاوز التناقضات الظاهرة إلى ما يبين أن الحصيلة هي دائما حصيلة التفاعل البنيوي متعدد العناصر بمنطق غير جدلي بل تكاملي تكامل المقومات المتعددة للكائنات الجماعية المتعالية على عناصرها.

وقد خصصت عدة بحوث لبيان وهاء النظرة الجدلية لتفاعل الأشياء البنيوي في الطبيعة وفي التاريخ وليس هنا محل العودة إليها. المهم أن المنهج الجدلي لتحليل الظاهرات التاريخية وتفسيرها (العامل الابستمولوجي) والعامل المضموني (العامل الانطولوجي) يمثلان عائقين أساسيين في الماركسية ذاتها على الأقل في شكلها الأول وخاصة في فكر الكاريكاتور التحديثي الذي لم يتجاوزه والذي يقول بالصراع الطبقي وقد مال الكثير من كاريكاتور التأصيل إلى القول ما يماثله ويسمونه التدافع الذي بينت في مواضع كثيرة أنه لا أصل له في القرآن الكريم. وكلاهما تجاوزهما الفكر الغربي الذي يدعون تمثيله بما فيه الفكر الماركسي.

لم يعد أحد -حتى من بين الماركسيين-يقول بحصر الفاعلية فيما يسمونه البنية التحتية. فالفاعلية الأفعل في الاقتصاد المتطور هي العلوم المبدعة للتطبيقات العملية. وهي من البنية الفوقية وليست من البنية التحتية. والطبقة الأكثر فاعلية في الاقتصاد ليست العمال إلا في الاقتصاد المتخلف-والآلات يمكن أن تعوضهم- بل العلماء والمهندسون والإداريون الذين ينظمون البحث العلمي وتطبيقاته وإدارة المشروعات الاقتصادية: وهؤلاء جميعا لا يمكن أن تعوضهم الآلة حتى وإن استعملوها لمساعدتهم في تسريع عملهم الآلي. أما ما عداه من التصور والإبداع فهو حكر عليهم بالجوهر.

وهذا هو ما أريد أن أبدأ به. فأصحاب الكاريكاتور من الحداثيين العرب لم يروا من الماركسية إلا شكلها البدائي ولم يتابعوا تطورها الذي انتهى في الأخير إلى الاعتراف بالعالم الروحي والخلقي حتى وإن لم ينسبه إلى نظرية دينية بسبب ضم الدين إلى ما يسميه إيديولوجيا، وبسبب عدم التمييز بين الدين وتحريفه الذي هو حتى في منظور الإسلام أفيون الشعب عندما يحرف الدين تحريفا ينتج عن حلف بين الاستبداد الروحي (الكنيسة) والاستبداد السياسي (الحكم بالحق الإلهي) (وهو بين في آل عمران).

لكن الأهم من ذلك كله هو أن الماركسية تتبين في الحقيقة-إذا عللنا أعماقها الفلسفية وبينا تناقضات التفسير المادي والغائية الروحية- ففهمناها فهما يليق بمن يريد أن يؤسس عليها نقده للتراث. هذه الماركسية لم تبعد كثيرا عن الهيجلية رغم كاريكاتور الملحة القائلة بأن ماركس وجد عالم هيجل مقلوبا يمشي على رأسه فأرجعه ماشيا على رجليه. ذلك أن دور العاملين الرئيسيين في فلسفته لا يعود لبنية سفلى مادية، بل إلى مفهومين هما أساس الفكر الماركسي حتى بعد فترة شباب ماركس وهما مفهومان هيجليان بالجوهر:

  • الأول هو مفهوم الوعي (حتى لو نسبناه إلى الطبقة بخلاف نسبة هيجل له إلى روح الشعب). فالوعي بالوضع يؤدي دور العلة الفاعلية في التغيير بالاصطلاح الأرسطي. فمن دونه لا يكون للتغير المادي أثر في التغير البينوي للمراحل الاجتماعية في فلسفة ماركس التاريخية.

  • الثاني هو مفهوم غايات الإنسان من حيث التحرر والحقوق وهي نفس الغايات الهيجلية لأنها تؤدي دور العلة الغائية بالاصطلاح الأرسطي كذلك. فمن دون طلب هذه الغايات لا معنى لطلب التغيير في التاريخ الإنساني الذي يختلف عن التغير في الظاهرات الطبيعية التي ليس فيها وعي ولا غائية متقدمة عليه.

والجمع بين العلتين الفاعلية والغائية في نظرية الثورة الاجتماعية التي هي التغير النهائي الذي سيحرر الإنسانية من الصراع الطبقي، هما سر الثورة الاجتماعية في نظريات ماركس وكلاهما هيجيليان بالجوهر حتى وإن لم يقالا بالمصطلح الهيجلي. وهما في الحقيقة مفهومان دينيان لأن فلسفة التاريخ الهيجيلة هي بدورها دينية (التاريخ عنده ثيوديسيا أي بيان العدل الإلهي) أو على الأقل خلقيان دون أساس عقدي ديني وليسا ماديين:

1-فالوعي بالظلم والعدوان في الحقوق المادية والمنزلة الخلقية هو العلة الفاعلية لسعي الإنسان نحو تحصيل حقوقه بالقلب واللسان واليد إن لزم الأمر. وهذا من أهم مبادئ الفاعليات التاريخية في النقد القرآني للتجارب الروحية والسياسية السابقة.

2-والغايات التي هي عين حقيقة الإنسان هي المحرك الغائي في الدين. لأن الوعي بالظلم والعدوان ممتنع لو لم يكن الإنسان ذا غايات يكون وعيه بها في نسبة طردية مع حرمانه منها. وهذا أيضا من أهم مبادي الفاعليات التاريخية في فلسفة القرآن التاريخية.

وعند النظر في هذين المفهومين، يسقط الفهم الساذج للواقع وللعقل وفلسفة التاريخ التي لا تميز بين محركات الأحداث والاحداث: فالأحداث التاريخية في صيرورة أبدية، لكن محركاتها مثلها مثل قوانين الطبيعة سنن ثابتة هي بالأساس هذه العلة الفاعلية والعلة الغائية اللتين هما جوهر كيان الأنسان الثابت. فلا يمكن تصور فلسفة في التاريخ لا تستند إلى نظرية فلسفية في حقيقة الإنسان بوصفه متعاليا على العلية الطبيعة التي تستثني دور الوعي بالوضع ودور الغايات الإنسانية في تغييره.

وهنا أيضا نجد شيئا من الهيجلية لأن هيجل لا يعني بأن العقل واقع والواقع عقل الواقع والعقل الساذجين، بل هذان المعنيان العميقان اللذان هما حقيقة الإنسان المتعالية على ظاهر حقيقته : فالعقل والواقع هما هذه العلة الفاعلة والعلة الغائية التي تكون في البداية الإنسان في ذاته وفي الغاية الإنسان لذاته عندما يصبح جوهره عين وعيه بشروط قيامه الذاتي وقد تحقق في قيامه الموضوعي فيتطابق الذاتي والموضوعي وذلك هو معنى التطابق بين الواقع والعقل غير الساذجين بخلاف تخريف كاريكاتور التحديث لدى حداثيي العرب الذين ضربنا منهم مثالين لعلهما أفضل من فيهم : الجابري وأبي زيد.

نص من الجلي في التفسير

إن القضية الفلسفية النظرية التي يمكن أن نحدد بالانطلاق منها الخلل الذي يطرأ على سلطتي الرمز من صورة العمران (التربية) ومن مادته (الثقافة)[1] هي مسألة حدود المعرفة الإنسانية وطبيعتها الاجتهادية التي يؤدي إغفالها إلى تكون الطاغوت الرمزي في مجالي التربية والثقافة أعني في المقوم الرمزي لكل عمران إنساني سوي. وهذه القضية هي قضية الاجتهاد بمعناه القرآني من حيث هو بديل من المعرفة الميتافيزيقية المطلقة التي تفسد وظيفة النخب الرمزية. وسنعود إلى المسألة الملازمة لكل المحاولة من بدايتها إلى نهايتها. إنها مسألة قانون التأويل الذي وضعه الغزالي وأطلقه الرازي وتمكن من تجاوزه الفيلسوفان المؤسسان لإصلاح فكر المسلمين النظري (ابن تيمية) لجعل العمل يعود فيصبح ممكنا[2] عند المسلمين أعني الجهاد الحقيقي ولإصلاح فكرهم العملي (ابن خلدون) لجعل النظر يعود فيصبح ممكنا[3] عند المسلمين أعني الاجتهاد الحقيقي: وإذن فالمشكل هو الاجتهاد والجهاد كيف يفسدهما طغيان النخب؟

يعتبر مثالنا أحد الرموز الناطقين باسم مدرسة التأويل العقلاني للمرجعيات الإسلامية (إنه ناصر حامد أبا زيد نضر كلامه في التراث الكاريكاتوري) مثالا لبيان سوء الفهم المسيطر على المفكرين الذين يفسدون النهضة ببعديها التحديثي والتأصيلي (ردا من الثاني على الأول) فضلا عن إسقاط بعض الخصائص في المواقف الحديثة على المدارس القديمة. فكلا الحزبين يقول بهذه النظرية إما إيجابا (العلمانيون) أو سلبا (الدينيون). يقول أبو زيد في كتابه فلسفة التأويل:

(نص نصر حامد ابي زيد)”والمنظور الذي نفترضه هنا هو النظر إلى الفلسفة الإسلامية في جوانبها المتعددة من خلال جدلية بين عناصر ثلاثة هي العناصر المكونة لمضمون هذه الفلسفة. ومضمونها: العنصر الأول هو الواقع التاريخي والاجتماعي الذي نشأت فيه هذه الفلسفة وتطورت. والعنصر الثاني هو دور النص الديني بالمعنى الواسع الذي يشمل القرآن والأحاديث النبوية ونعني بالنص هنا التراث التفسيري في حركته المتطورة لا مجرد ما هو مكتوب بين دفتي المصحف وفي مجموعات الحديث. وأما العنصر الثالث فهو التراث الفلسفي السابق الذي انتقل إلى المسلمين بكل ما تعنيه كلمة تراث من شمول وتنوع ودون توقف عند حدود الفلسفة اليونانية في عصورها المختلفة. والأساسي في هذه العناصر هو العنصر الأول (=الواقع التاريخي والاجتماعي) وإن قامت العلاقة بين هذه العناصر الثلاثة على التفاعل المستمر[4]. ومما يؤكد هذه القضية أن القرآن قد نزل مستجيبا لحجات الواقع وحركته المنظورة خلال فترة زادت على العشرين عاما“[5].

الأول هو أن للعقل القدرة على إدراك حقائق الأشياء بإطلاق ومن ثم فالعلم الذي في الذهن ليس فيه من مخالفة لموضوعه في العين إلا بسبب الخطأ الإنساني الذي يمكن تجاوزه ومن ثم معرفة حقائق الأشياء كما هي في ذاتها فلا يبقى لمفهوم الغيب معنى ويصبح أصحاب هذا الرأي قادرين على الكلام في كل شيء كلاما وثوقيا هو عين الفكر الديني المتخلف الذي نهى عنه القرآن وهم يتصورون أنفسهم ثائرين عليه.

والثاني هو أن السبيل إلى ذلك هي الانطلاق من حقائق أولية هي جوهر العقل أو مبادئه التي تطابق قوانين الوجود في ذاته إن الغيرية الوجودية لم تكن واردة عندهم ومن ثم فالحقائق الأولية -ومنها مبادئ العقل-ليست مجرد مواضعات إنسانية لبناء الأنساق المعرفية التي هي مجرد أدوات للتعامل مع اللامتناهي المجهول بالطبع في الظاهرات التي تتلقاها حواسنا.

وتلك هي مطالب العلم القديم في شكله الأسمى معرفيا أعني في العلم الرياضي الذي يتعامل مع موضوعات فرضية تؤدي دور العلوم الأدوات في علم الموجودات الفعلية. والأمر لم يتغير في العلم الحديث من حيث المطالب بل هو أضاف إليها تنسيب هذه التمييزات فردها جميعا إلى النوع الأخير إذ حتى النظريات  فإنها ليست إلا تحصيل الكائنات الذهنية التي لها انطباق على النظريات والبناءات التصورية في المشاكل الرياضية مع الانتقال من غفلة ظنها حقائق إلى الوعي بكونها مبدعات إنسانية لعلاج ذريعي لا يتجاوز الفاعلية النظرية والتقنية إما لمسائل نظرية في القول العلمي ذاته من حيث صورته (وكلها راجعة إلى قضايا المنطق الصوري: شروط التناسق العلمي التي هي دائمة التطور والتدرج) أو لمسائل نظرية في علاقة القول العلمي بموضوعاته أي من حيث صلته بمادته (وكلها راجعة إلى قضايا المنطق المتعالي: شروط المطابقة العلمية التي هي دائمة التطور والتدرج).

وطلب هذين النوعين من الشروط هو المحرك الأساسي للمعرفة الإنسانية. وكلاهما يقتضي نوعي المراجعة المدبرة والمقبلة. فبالمراجعة المدبرة يعاد النظر في الأسس لتحقيق التناسق بين النظريات. وبالمراجعة المقبلة يعاد النظر في المناهج لتحقيق أكبر قدر ممكن من المطابقة مع الموضوع. ولعل الجامع بين هذين النوعين من العلاج هو جوهر الفكر الرياضي المجرد والمطبق. وحتى لو سلمنا بأن الوجود الفعلي موضوع الميتافيزيقا أسمى وجوديا من الوجود التصوري موضع الرياضيات فإن علم الميتافيزيقا دون علم الرياضيات صرامة منطقية ودقة علمية ومن ثم فينبغي أن تكون الميتافيزيقا دون الرياضيات ادعاء للوثوقية: لأن ما يتوقف عنده الرياضي في المجال المعرفي حدا لا يمكن أن يتجاوزه الميتافيزيقي إلا إذا اعتبر أمانيه حقائق.

ولنأخذ أوضح مثال لمفهوم التأويل في دلالته العلمية حتى نفهم هذه الإشكالية لأن تأويل النصوص مهما حاولنا رده إلى ممارسة علمية يبقى الغالب عليه الذوق الأدبي ومن ثم التحكم التأويلي بلغة حجة الإسلام في فضائح الباطنية حتى وإن لم يخل التأويل الأدبي من محددات منطقية ولسانية ونفسية واجتماعية قابلة للعلاج شبه العلمي فلا يكون أفضل مجال لبيان مصداقية المؤولين. لذلك فسنختار مثالنا من المجال الذي وضع أول نظرية في تأويل الأعراض الأقرب إلى العلم لقابلتيه لشرطي المعرفة العلمية أعني التجريب (تجريب العلاقة بين منظومات الأعراض والمرض المدلول عليه بها) والإحصاء (إحصاء الحالات التي يصدق فيها التوقع التأويلي للعلاقة بين منظومة الأعراض والمرض المدلول عليه بها): في التشخيص الطبي المجهز بتحليل الأعراض في المخابر فضلا عن فراسة الأطباء المجربين.

والمعلوم أن تأويل أعراض المرض عند الأطباء هو المعنى الأول لمفهوم السيميولوجيا العلمية التي تقبل الاحتكام إلى التجربة تجربة الفرضيات التأويلية الناقلة من الأعراض إلى تصنيف الأمراض بمقتضاها لتحديد عللها فعلاجها. فهل يوجد حقا علم يمكن الطبيب من استنتاج علمي دقيق يبرر التعصب لما يسمى بالتأويل العقلاني استنتاج للمرض من تأويل بسيط ومباشر للأعراض التي يلاحظها على المريض في جل الحالات أو حتى في أغلبها فضلا عن توهم إمكان ذلك لها كلها؟ هل يوجد ما يجعل العقلاني يتكلم بكل وثوقية على معرفة تمكن صاحبها من زعم الحسم في مسائل الوجود والدين؟ ما الذي يجعل الأطباء يحتاجون إلى الكثير من التحاليل وإلى لجان من الأطباء تقرأ نتائجها وتفحص المريض وتاريخه وتاريخ أسرته إلخ…وتتعاون في تأويل الأعراض لتحديد المرض دون جزم بالتحديد اليقيني إلا في الحالات البسيطة والنادرة؟ وكم من طبيب متعنت أو متسرع في التأويل فوت على نفسه شروط الفهم هذا إن لم يقتل المريض بأدوية تخطئ ما يعاني منه المريض وتفقده الحصانة؟

فسواء انطلقنا من أعراض المرض إلى تأويلاتها أو من أنظمة تأويل الأمراض إلى أعيان تطبيقاتها فإننا لا نملك طريقا ملكية نسلكها واثقين من الوصول إلى الغاية فنحدد المرض بصورة يقينية من تأويل الأعراض أو نحدد معاني الأعراض بصورة يقينية من تحليل النظرية التأويلية إلا بالتدرج البطيء علما وأن تعقيد بدن الإنسان يعد أمرا بسيطا بالمقارنة مع فهم الوجود التاريخي والروحي للإنسانية. ولعل الأمر في التأويل الطبي مناظر من حيث الصعوبة والتعقيد لعملية التحقق من الفرضيات العلمية في كل العلوم التجريبية. لذلك فالتأويل بهذا المعنى يقاس على بناء النظريات العلمية فيها. فمن الظاهرات الطبيعية التي هي أعراض لـ”أمور مجهولة الطبيعة” تأويلها هو القانون إلى القانون الذي يؤولها نكتفي بالفرض والترجيح. ومن القانون إلى الظاهرات نكتفي بالتشاكل بين حدود العبارة الرمزية عن القانون الفرضي وما نعتبره مقوما من عناصر هذه الأمور المجهولة أو العوامل التي نتصورها ذات فاعلية فيها: أي إن كل ظاهرة نجد مشاكلة بين ما نتصوره مقوماتها وبين الرموز التي تتألف منها عبارة القانون نعتبرها عينا من الأمور المجهولة التي يصح عليها ذلك القانون. ولذلك كانت صفة القانون الأساسية من حيث هو رمز دال أنه رمز متشاكل ببنية عناصره الموضوعة مع المرموز ببنية عناصره المفروضة  Diagramme.

لكن ذلك كله اجتهادات لا يحق لصاحبها أن يزعم لها أكثر مما يزعم لعبارة القانون العلمي من تفسير مؤقت للظاهرة الموضوع وللتشخيص الطبي للمرض. فقد نكتشف أن ما تصورناه عاملا مؤثرا ليس هو كذلك سواء في المرض الذي نطلب تشخيصه أو في الظاهرة التي نطلب قانونها ولا أحد يزعم أن ما عنده من معطيات كاف للحسم في مثل هذه الأمور بالوثوقية التي تجدها عند عقلانيينا المزعومين. وإذا كان ذلك كذلك في هذه الأمور البسيطة فكيف به في أسرار الوجود الإنساني أو الكوني أعني فيما تهتم به الأديان والفلسفات من قضايا كلية تخص معاني الوجود عامة والوجود الإنساني خاصة؟ العقلانية ليست هي إذن الموقف الذي يقول بالعقل دون تحديد بل هي بالذات الموقف الذي يقول بالعلم الاجتهادي أعني العقل الذي يعرف حدوده: إنه المعرفة التي تعلم حدودها فلا تؤله الإنسان بإطلاق عقله ومن ثم فهي تؤمن بأن وراء الشاهد غيبا مجهولا لا يدركه الإنسان بعلمه وعمله فيسلم وجهه لرب الغيب والشهادة.

[1] ويناظرهما سلطتا الفعل من صورة العمران (الحكم) ومن مادته (الاقتصاد) ويخصان السلطة الفعلية والانتاج المادي. فما يعنينا في هذا البحث هو السطلة الرمزية أي التربية والثقافة أو الانتاج الرمزي في نقد التراث الذي ساد لدى كاريكاتور التحديث وطبيعة علاقته بهذا البعد الثاني المضاعف.

[2] كيف يكون إصلاح النظر شرطا في العمل؟ العلاج التيمي اعتمد على فرضيتين أولاهما دينية والثانية وفلسفية. فأما الدينية فهي اعتبار الشريعة تابعة للعقيدة لتبعية العمل للنظر. وأما الفلسفية فهي اعتبار ما بعد التاريخ أو الفلسفة العملية تابعة لما بعد الطبيعة أو الفلسفة النظرية لنفس التبعية الموضوعية. ولما كان تشخيصه للأزمة التي تمر بها الأمة هي بنسبة المرض إلى الجبرية في الفكرين الفلسفي الكلامي والصوفي الفقهي فإنه قد رأى أن العلاج يقتضي تحرير الإرادة الإنسانية بدحض الفلسفة والكلام والتصوف والفقه التي آلت كلها إلى القول بالجبرية. وإذن فإصلاح الفلسفة النظرية والعقيدة يؤديان في علاجه إلى إصلاح الفلسفة العملية والشريعة.

[3] كيف يكون إصلاح العمل شرطا في النظر؟ العلاج الخلدوني اعتمد على فرضيتين مقابلتين تمام المقابلة للتشخيص التيمي رغم أن المشكل الذي يتصدى له هو نفس المشكل. فعنده أن العقيدة والفلسفة النظرية يتبعان الشريعة والفلسفة العملية أي إن التربية والسياسة هما اللتان تكونان الإنسان على الخنوع والاستسلام للأقدار وفقدان معاني الإنسانية. لذلك فينبغي إصلاح السياسة والتربية أي الفلسفة العملية والشريعة لكي يصبح الإنسان قادرا على الاعتقاد الصحيح والفكر الصحيح فضلا عن الشجاعة الخلقية وطلب الفضائل الذي هو غير ممكن في رأيه إذا ربي الإنسان أو عاش في نظام يزيل معاني الإنسانية.

[4] لن نسأل عن الكلمة السحرية للتفاعل. فهذا أمر يبدو عند هذا المفكر أمرا مفهوما ولا يحتاج إلى تحليل. سنكتفي بما هو أبسط لنسأل: إذا كانت العناصر الثلاثة هي على التفاعل المستمر فكيف تبقى ثلاثة؟ هل العلة هي أن الكاتب يميز بين جوهرين ثابتين ثم علاقة التفاعل بينهما فتكون بذلك العناصر ثلاثة؟  لكن ماذا لو اعتبرنا الحدين اللذين بينهما التفاعل هما بدورهما كائنين غير ثابتين فلعلهما هما بدورهما تفاعلان لعناصر أخرى إلى غير غاية. وللمساعدة فلنسلم بأن العناصر المتفاعلة ثابتة ولنسأل: أليس التفاعل مشاركة بين المتفاعلين فهل نميز بين فعل س في ص وفعل ص في س أم نعتبرهما شيئا واحدا ذا اتجاهين؟ إذا ميزنا فبم نمير؟ وإذا لم نميز فلم لا نميز؟ وفي حالة عدم التمييز ألا تكون الفاعلية في التراث ككل خاضعة لقاعدة مجموعة أقسام المجموعة فتكون 2 (الواقع والفكر) قوة ثلاثة (إما الفكر يفعل في ذاته أو في غيره أو الواقع يفعل في ذاته أو في غيره أو كلاهما يفعل بالتوازي دون تفاعل أو بالتفاعل أو لا واحد منهما يفعل كأن يجمد كل شيء وهو أمر ممكن وكل هذه الحالات تحصل بحسب الظاهرة التي نريد فهمها بهذا المنهج) وإذا ميزنا اتجاهي التفاعل ألا تصبح 2 قوة 6؟ فكيف سينحصر الأمر خاصة والتفاعل هو بدوره يتفاعل إلى غير غاية؟ أم هل إن هذا ليس من العقل الذي يقول به صاحب التأويل العقلي؟

[6] لا أحد سليم العقل يمكن أن يتصور كل هذه الأمور قابلة لأن يحيط بها عقل إنساني فيعالجها علاجا يزعم له أدنى قدر من العلمية. وإذا كنا قد أدركنا منذ أمد طويل أوهام العلم الميتافيزيقي الكلي لعالم الطبيعة فكيف لم يدرك هؤلاء بعد أن الاستحالة أكبر بخصوص عالم التاريخ الذي يقتضي حل معضلات الطبيعة بالإضافة إلى معضلاته حتى لو قبلنا بما يراه العقلانيون بأنه لا وجود لما وراء هذين العالمين؟  وكان يمكن أن يقبل مثل هذا المشروع من شخص متواضع يريد أن يدلي برأي تحكمي حول تصوره لعلاقة هذه الأمور بعضها بالبعض بمجرد بادئ الرأي أما أن يزعم أن ذلك عمل يمكنه من الحكم في قضايا الوجود والدين والزعم بأنه يقدم معرفة ذات دلالة فإن ذلك إن لم يكن من السذاجة أو من الغفلة فهو من اللامبالاة بعقول المخاطبين. ولهذه العلة فإن المرء يحق له أن يزعم أن المتعاقل من المفكرين العرب أكثر تعصبا وأقل فهما لمعنى العقل من كل المتعصبين من الحزب المقابل رغم أن الحزبين كلاهما مجانب للصواب بسب الابتعاد عن معاني القرآن الكريم في مفهوم المعرفة الاجتهادية.

[7] تقديم الواقع مبدأ وجوديا للتفسير علام يدل؟ إنه يدل على عدم إدراك امتناع ذلك وعلى الواقعية الغفلة التي تتصور الوجود شفافا بحيث يستطيع العقل الوصول إليه من غير وساطة الرموز الفاصلة بيننا وبينه دائما. ومما يعجب له المرء أن هذا الكلام يأتي ممن يزعمون الموقف التأويلي: فمن المفروض أن يكون أصحاب هذا الموقف أكثر فهما من غيرهم لدلالة التأويل وما تقتضيه من دور للرمز متقدم على ما يسمونه واقعا.

[8] التثليث الجدلي مبدأ منهجيا وفيه من السذاجة المنطقية فضلا عن المعرفية القدر الكبير. فهبنا سلمنا بأن الأمر يتعلق بعلاقة بين الفكر والواقع فلم هي إذن في اتجاه واحد؟ أليست علاقة ثنائية تقبل الاتجاهين؟ وبأي معنى يعتبر فعل الواقع في الفكر وينسى فعل الفكر في الواقع؟ ثم لم يعتبران أمرا واحدا إذا قبلنا بأن الوجه الثاني لم يهمل؟ ثم أين نضع الاعتقاد بفاعلية الواقع أو بفاعلية الفكر أعني الموقف التفضيلي لأحد العاملين على الآخر في الفاعلية؟ هل هو من الواقع أم من الفكر أم ماذا؟

[9] استدلالا بالنص نفسه حجة على نفسه. هذه الحجة تعود إلى القول بأسباب النزول والتلازم بين القرآن كحديث والأسباب كأحداث. أليس هذا الوهم من جنس من يظن أن النظرية في العلم مثلا لها صلة بالأمثلة التي يضربها الأستاذ لتلاميذه في التدريس ليفهمهم النظرية أوالتي تنطبق عليها النظرية في الاستدلال التجريبي على فاعلية النظرية التفسيرية؟

الكتيب

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي