لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
– الفصل التاسع –
المقال
جمعت ممثلي الكاريكاتور التأصيلي فلم أدرس أمثلة معينة بل اكتفيت بأسلوبي علاجهم للتراث أعني التقليديين وأدعياء استعمال العلم والقيم الحديثة
وكان يمكن أن أعامل كاريكاتور التحديث نفس المعاملة لأنهم لا يبتعدون كثيرا عنهم، ولأنهم ليسوا قلة ما يعسر انتخاب الأمثلة العينية. فضلت العكس.
وعلي أن اعلل انتخابي مثالين هما الجابري وأبي زيد، وليسوا أفضل من يمثلهم لكني أعتقد أنهم أكثرهم نجومية وشهرة. ومن ثم أكثرهم تأثيرا منذ ثلاث عقود.
أو بصورة أدق، أكثرهم تمثيلا للمدرستين السائدتين في درس التراث ونقده، إما بمنطلقات ماركسية أو ما بعد ماركسية، أو غيرها عامة حداثية أو ما بعدها.
وكان يمكن أن اختار أركون مما يعد الماركسية الما بعد حداثية. لكنه لم يدرس شيئا لأن كل أعماله وعود بلا إنجاز. ومن ثم فجعجعته لا طحين لها.
وكان يمكن أن اختار حسن حنفي وهو أكثرهم اجتهادا في الجمع بين التأصيل والتحديث بقراءة يمكن نسبتها إلى ما يناظر الماركسية أو اليمين الهيجلي.
لكني عندئذ أكون قد اخترت مثالين من المشرق، بل ومن مصر. وفي ذلك اجحاف بالمغرب العربي الذي هو حاليا-وبكل تواضع-قاطرة الفكر الحديث بلا منازع.
وفيه يمكن القول إن ملحة “بضاعتنا ردت إلينا” لم تعد صالحة. ورغم أني لست من محبذي هذا الموقف، إلا أنه أعاد التوازن بين جناحي الوطن. وفي ذلك خير.
ولعل الجابري هو أفضل ممثل من هذه الناحية: جعل هذه العقدة بين الجناحين أهم صفة مميزة من كلامه على التراث في مقابلته الشهيرة التي دحضتها.
فالمقابلة بين المشرق اللاعقلاني والمغرب العقلاني لاتصف حقيقة في التراث، بل عقدة في أنفس بعض المغاربة من سخافة التكبر المشرقي في الكلام عليه.
وهي ليست عقدة جديدة. لأن ابن خلدون خصص لها فقرات طويلة في الفصل الأخير من المقدمة وعللها بالتفاوت الحضاري في عصره ليبين أنها عقدة زائفة.
وبعد هذه العقدة بين الجناحين، نجد عقدة أخرى أخطر في الجناح المشرقي: المقابلة بين عرب الشمال والخليجيين: دعوى الحضارة وثروة البدو النفطية.
وهذه العقدة ناتجة هي بدورها عن درس التراث. وقد تدخلت فيها الطائفية الإسلامية الداخلية (تحقير السنة) والطائفية بين الأديان (تحقير الإسلام)، أي إن البداوة صارت سبة ضد السنة الخليجية، وبالتدريج سبة ضد الإسلام نفسه. حتى إن بعضهم صار يعتبر الرسول نفسه بدويا غازيا من أجل المال والجنس.
تلك هي الأمراض الناتجة عن درس التراث عندما يصبح كاريكاتوريا سواء كان تأصيليا أو تحديثيا. ولأجل ذلك، وفي صلة بالأحداث الجارية، قمت بهذا العمل.
وهو عمل بين بين. ليس أكاديميا بأتم معنى الكلمة حتى وإن تضمن أهم خصائص البحث الأكاديمي، لاعتماده خبرة طويلة بالمجال لكنه موجه للقارئ العادي.
فرأيت من العدل أن اختار أفضل ممثل لدرس التراث في المشرق من مصر، وأفضلهم في المغرب العربي من المغرب الأقصى، وكلاهما جدير بتمثيل الجناحين.
وسأبدأ بالجابري لأني إلى حد الآن لم أكتب في عمله إلا جميلات قصيرات تحرجا مما سأقول إذا كتب خصيصا للكلام عليه. أما ضمن بحث عام فلا بأس منه.
أما نصر حامد أبو زيد فقد كتبت فيه نصا (في كتاب التفسير) سأكتفي بنشره في خاتمة هذا البحث حول الكلام على كاريكاتوري درس التراث التأصيلي والتحديثي.
وإذن فسأبدأ بالجابري. وعلي أن أشرح لماذا وضعته ضمن كاريكاتور التحديث. فما أسميه كاريكاتور التحديث، هو التعامل التطبيقي السطحي مع الفكر الجاهز.
وشرط هذا التعامل، يكون دائما ناتجا عن تكون في الفكر القديم ومحاولة تجاوزه بدعوى استعمال الفكر الحديث بإغفال هوة سحيقة بينهما يعسر القفز عليها.
وللتوضيح، فإن من يعتبر ابن رشد ممثلا للعقلانية لا يمكن ان يفهم فوكو مهما حاول فضلا عن أن يدعي استعمال أهم مفهوم فوكلدي لدرس التراث الإسلامي.
تلك كانت مشكلتي مع المرحوم الجابري. كنت اتجنب تنبيهه إلى ذلك بعد أن رأيت رد فعله، إزاء ملاحظة عابرة في هامش رسالتي التي كان أحد مناقشيها.
وهي ملاحظة أوردتها في كتاب صدر بعد وفاته رحمه الله، بعنوان أشياء من النقد والترجمة عن دار جداول. وتتعلق الملاحظة بثالوثه وبثالوث عبد الرحمن.
لذلك فهذا الفصل سيتضمن مطلبين: ما معنى الابستيمي الفوكلدي الذي أجزم بأن الجابري طبقه بسطحية لا تليق علميا. وما علامة عدم اللياقة العلمية.
فوكو كان أستاذنا في جيلي وأنا في تونس مدة سنتين، وألف كتاب الكلمات والأشياء في تونس كذلك أو هو صدر وهو مقيم في تونس ولي بعض دراية بمضمونه.
اعتقد أن كل من له تكوين فلسفي ومنطقي، يعلم أن دراسة المعرفة عامة بمنظور منطقي، تميز بين المضمون القضوي في الخطاب العلمي والموقف القضوي.
والدرس الأول هو الذي يسمى ابستمولوجي، أي إنه يدرس المضمون العلمي للقضايا العلمية دون اهتمام بمواقف الذات العارفة منها من حيث درجات عقدها.
أما درس مواقف الذات العارفة ودرجات عقدها في مضمون القضايا، فيسمى ابستيميك من جنس أظن أعتقد أو أنا متيقن أن كذا هو كذا إلخ.. من درجات العقد.
نعم الجماعة العلمية تصل إلى قناعة تجعلها تثق أن ما اعتبرته علميا في قضاياها علمي لتوفر شرطي العلمية: أفضل تفسير للظاهرة مع قابلية الامتحان.
وبصورة عامة، لكأن الابستيمولوجي ليس إلا غاية الابستميك في الجماعة العلمية. أي إنه الدرجة النهائية في عقدهم لتحقق الشرطين في العلمية بضمانتين.
الضمانتان:
– منطقية، وهي الاندراج المتناسق في متن العلم الذي تنتسب إليه لأن المتن نظام متكامل.
– تجريبية، هي قابلية الامتحان التجريبي المتكرر.
الابستمي هي ما وراء هذين الأمرين: أي شروط إمكان ظهور الأشياء بفضل شروط إمكان الكلام عليها التي هي محددة مناظير الرؤية لهذه الأشياء.
وواضح لذي عقل أن هذا المفهوم يناقض تمام المناقضة للنظرية الماركسية: الرمزي وصيرورته هما المحددان للشيء وصيرورته، لأنهما يجليان المرئي عقليا.
وحتى أساعد القارئ فلنترجم هذا القلب للعلاقة بين الرمزي والشيء في تحديد شروط مرئية الاشياء بأنه هيجلية محدثة، بشرط أن نفهم المنعرج اللساني.
وترجمتي لفلسفة الابستمية بالهيجلية المحدثة تعني أمرين: تقدم الرمزي على الشيء أو الروحي على المادي. وتاريخية هذه الرؤية للعالم وما فيه.
وإذن، ففلسفة الابستمية الفوكلدية تقتضي التاريخانية المطلقة لصيرورة الأنظمة الرمزية، ويتبعها التاريخانية المطلقة لما يرى من العالم وأشيائه.
ولهذه العلة ربطت الأمر بفلسفة الأشكال الرمزية وصيرورتها نورا يسقط على العالم ليرينا ما فيه فيكون العالم متعددا بتعدد الحضارات وصيرورتها. فتبرز أهمية الألسن في رؤية العالم وأشيائه ويتحرر العقل من وهم كونه مرآة لعالم موضوعي واحد ينعكس عليه بل هو بوظيفته الرمزية منتج ومنتوج الرمز.
يكفي أن نعوض “الوظيفة الرمزية” بـ”وظيفة الروح” الهيجلية حتى نفهم القصد بالابستمي بشرط التخلص من الجوهرية الهيجلية والاقتصار على الرمزية.
والتخلص من الواقع والعقل، شرطه التخلص من الذات والمؤلف، لأن كل ما يجري في المجال الرمزي يشبه الأدب الشعبي: طبقات قصصية تتراكم من دون مؤلف.
الفوكلدية مضادة للماركسية لأنها بلغة ماركسية تجعل الـ”بنية الفوقية” الرامزة محددة لـ”البنية التحتية” الأشياء المرموزة وتنفي الذات الفاعلية.
وحتى لا أطيل في القسم الثاني من كلامي على الجابري بعد توضيح مفهوم الأبستمي، سأكتفي بأسئلة وأجوبة تلغرافية حول ثالوثه وتنافيه مع الابستمي.
وأترك لغيري ما اعتبره عيبا خلقيا لا يغتفر في تعامل الباحثين: فلست أشكك في أمانة الرجل ولا في ذكائه كما فعل أحد الذين كانون من المعجبين.
علاقة عناصر الثالوث:
هل هي متصاحبة دائما أم إنها في صيرورة تجعل الأدنى يصعد إلى الأعلى مثلا؟
هل هي متفاعلة أم أنها في جيتوات متجاورة؟
والجواب معلوم للجميع. هي متجاورة ولا تفاعل بينها؟ وعلى كل لا يصير الواحد منها غيره أبدا، ومن ثم فهي جيتوات لا تاريخية لها مقبلة أو مدبرة.
بإيجاز، هل البياني يصير عرفانيا مثلا؟
وهل يصير برهانيا؟ أم العكس؟
وهذا ينسف أحد عناصر الابستمية الأهم. أعني التاريخية والصيرورة وتراكب الرؤى.
والعنصر الثاني غائب تماما:
ما علاقة الموقف القضوي الذي تتمايز به عناصر الثالوث بالمضمون القضوي؟
وكيف يكون الابستمي شرط إمكان لهما؟
لكن الأخطر هو أن تفضيل البرهاني على البياني والعرفاني يعني قولا صريحا بالوثنين الواقع (موضوع البرهان) والعقل (الذات الفاعلة للبرهان).
وكلا الوثنين خارج اللعبة محيطين بها: البياني والعرفاني لم يصلا إليهما، والبرهاني هو الذي وصل إليهما، فيكون علمه مطابقة بين العقل والمعقول.
وهذه الرؤية للعلم والمعلوم بوصف المعرفة البرهانية، هي المطابقة بين العقل والواقع (وثني الحداثيين العرب) هي التصور البدائي لنظرية المعرفة.
ولهذه العلة، كانت ملاحظتي التي أخرجت الجابري عن طوره في مناقشة رسالتي كما يشهد من حضر، هي قلب سلم ثالوثه بمنطق الحداثة وخاصة ما بعدها.
فأولا، البرهاني بمعناه القديم والوسيط لا وجود له. والبديل هو المتناسق منطقيا. فالبرهان هو ما يستمد من مقدمات ذاتية لموضوع موجود بالفعل.
أما النتيجة المتناسقة في العلم الحديث، فهي ما يطابق فرضية في نسق رمزي يعد نموذجا تفسيريا يقبل التطبيق على موضوع فعلي دون مطابقة مطلقة.
ولنفرض جدلا وجود البرهان، فينبغي أن يكون دون العرفاني لأنه شرطه في الفلسفة القديمة: فالديانوزيس (النظر) مشروط بالنيوزيس (الحدس العقلي). والعرفاني دون البياني، لأن العارف يقرأ رموزا ويؤولها ليتجاوزها، وإذن فشرطه البياني. فيكون أرقى الأشكال لأنه شرطها جميعا: المنطق الأرسطي.
والمدخل الأهم بعد المنعرج اللساني، هو ما جعل الفوكلدية تصبح ذات معنى-وهنا يأتي دور الالعاب اللسانية بمعناها عند وتجنشتاين: الرمز يبدع المرموز.
وهذا يقتضي أن تصبح اللسانيات مقدمة على المنطقيات والأشكال الرمزية، ومقدمة على الأنظمة المعرفية. فيكون البيان مقدما على العرفان وعلى البرهان.
وبذلك يتبين أن فقدان التاريخية وفقدان علاقات عناصر الثالوث وطابعها الجيتوي وتراتب التعقيد يجعل اللسان الأول وبعده العرفاني البرهان الأدنى.
لم أفعل إلا هذه الملاحظة التي أغضبت المرحوم، ولم أطل في تحليل العلل لأنها كانت هامشا في جزء الرسالة الأساسي، وليست في جزئها التكميلي.
فهي وردت في منزلة الكلي في الفلسفة وليس في إصلاح العقل. لكن إصلاح العقل اعتمد على بيان تجاوز ابن تيمية وابن خلدون للفلسفة القديمة والوسطية.
فلكأن الرسالة التكميلية كانت استكمالا للملاحظة، لأن أساس إصلاح العقل كان بيان دور الرمز والطابع الاسمي للموضوع العلمي طبيعيا كان أو تاريخيا.
وفيها كلام على الوسيميات (سيميوتكس)علما رئيسا بديلا من الميتافيزيقا: العلوم كلها من جنس علم القانون هي تشريع من إبداع العقل لموجودات فرضية.
فالاسمية تعني أنه لا يوجد وراء النظريات العلمية إلا أسماء فرضية لما أصبح مرئيا من الوجود المجهول أو الذي يتجلى متدرجا تدرج العبارة الرمزية.
الكتيب