التراث، معرفته وتحديد دوره التاريخي – الفصل السابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله

– الفصل السابع –

المقال

سبق فبينت أن تحريف استعمال التراث بالمعاني التي وصفت في الفصل السادس، كفعل أول وكفعل عائد على ذاته لدرسها، قابلة للرد إلى موقف محرف من أصليه.

فالتراث كفل أول منطلقه في حضارتنا من أصلين:

–   القرآن خاصة لعلوم الملة

–   والطبيعة خاصة لعلوم الفلسفة

والتاريخ مشترك بينهما تابعا للأول أو للثانية.

لذلك فتحريفات التراث الأربعة ما له أو عليه منها، مردها إلى أصل مشترك هو الموقف من الموضوع سواء كان القرآن أو الطبيعة أو ما يتبعهما أي التاريخ.

وهذا الموقف له مستويان:

–   نظري عقدي (الكلام والفلسفة)

–   وعملي شرعي (الفقه والتصوف)

وتقابل المواقف هو بيّن الصدور عن الأصل الطبيعي والأصل القرآني.

وكل هذه المواقف في المستويين النظري العقدي والعملي الشرعي يؤمن أصحابها بأن العقل مرآة عاكسة للواقع، ويتنافسون على صقالة المرآة: كل يدعيه له.

وذلك في الفعلين:

–   في فعل التراث الأول من حيث كونه الانتاج الرمزي الخالص أو المنتج للمادي

–   ومن حيث كونه دراسة للتراث بهذا المعنى عودة وعي عليه

وكان من المفروض أن يقتصر بحثنا على الفعل الثاني، أي العودة على التراث الحاصل لدرسه وليس إبداع التراث الرمزي وثمراته المادية كالعلم والفنون. لكن لما كان الكلام على الموقف من الفعلين واحدا عند دارسي التراث، كما تبين في كلامي على هبل النخب العربية أو الواقع، فإني اضطررت لدرس الفعلين.

وهذا الموقف الواحد ذو مستويين كما أشرت:

–   ابستمولوجي علته القول بنظرية الحقيقة المطابقة

–   وأكسيولوجي علته ظنهم أن الواقع الغفل معيار التقويم.

ذلك ان المقابلة بين الحقيقة والباطل، أو الصدق والكذب رغم صلته بنظرية المعرفة، فهو ضرب من التقويم. بل أكثر من ذلك، كل أصناف القيم عندهم مجانسة، فطغى على ذوقهم الأدبي الواقعية الأدبية في الرواية مثلا، وعلى أخلاقهم الواقعية السياسية (البراجماتية)، وعلى قيم التوجيه تصور الحاصل ضروريا.

ونفي أصل التقويم كفرا بالمتعالي، وغرقا في المحايث، ظنا أن الإنسان يمكن أن يكون حرا إذا رد تاريخه الخلقي إلى تاريخه الطبيعي، لكأنه مجرد حيوان.

وهذا الموقف في الحقيقة لا يكتفي بنفي الحاجة إلى المتعاليات الدينية، بل هو ينفي المتعاليات الفلسفية: أي إنهم يقولون بمثنوية الأذهان والأعيان.

فتكون قوانين الطبيعة وسنن التاريخ مثلا، مجرد خيالات ذهنية قبالة المدركات الحسية. ولا يوجد وراء الأمرين جنس ثالث يعلل فاعلية قوانين متعالية.

فهل قانون الجاذبية، من حيث هو صيغة تصورية نيوتونية، هو الذي يحرك السماوات، وليس هو مجرد صيغة ذهنية بنموذج رياضي لما نكتشف وراء حركة الأفلاك؟

فإذا كانت منظومة الأفلاك هي الحقيقة والواقع، فكيف لما ليس هو بواقع أن يكون هو المحرك وراءها؟

هل تصورات ذهنية قادرة على تحريك السماوات؟

فلا مفر من أحد حلين:

–   إما القول بحقيقة مفارقة تحرك ما ندركه من العالم (حل أفلاطوني)

–   أو محايثة في العالم ما ندركه منه علامات دالة عليها(ارسطو)

لكن الفلسفة الحديثة مثل الدين الإسلامي على الأقل، تعتبر حقائق نظام ما ندركه من العالم متعالية حتى على ما نبدعه من صيغ قانونيه للتعامل معه.

وعلى هذه الأرضية، أمكن لكنط أن يؤسس حرية الإنسان التي من دون ذلك تصبح استثناء من قانون الطبيعة، لا يفهم. والحرية هي شرط أصناف التقويم الخمسة.

فلو كان الفكر مرآة عاكسة لواقع عيني مثل المرآة، لعكس ما يتراءى عليه، ولما استطاع أبدا أن يقيمه معرفيا أو خلقيا أو جماليا أو جهويا أو وجوديا.

وبعبارة أخرى، لاستحال أن يوجد تراث: فالتراث هو إما الابداع المعرفي أو الابداع الخلقي أو الابداع الجمالي والجهوي أو الوجودي ولا شيء غير ذلك.

فكل أمة ذات حضارة يعتد بها، لها تراث علمي وتراث خلقي-سياسي، وتراث جمالي وتراث جهوي يميز بين جهات الوجود، وتراث وجودي يفاضل بين رؤى العالم.

وهذه الأصناف مشروطة كلها بوضع واقع متعال وراء الأصناف الأربعة التي ذكرناها من “الأشياء” بصنفي ما في الأعيان وما في الأذهان كما أسلفت.

بل هي عين هذه المواقف التعييرية التي بها تتجاوز الثقافة الطبيعة بوصفها علاقة بها متعالية عليها أو هي جوهر تعريف ابن خلدون للإنسان المكلف.

فهو يعرف الإنسان بكونه “رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” أي انثروبولوجيا (نظرة إنسان) فلسفية دينية، تتجاوز الفلسفة القديمة والوسطية.

فهذا التعريف الخلدوني، يجعل العقل في حد الإنسان ذا دور أداتي.

أما الدور الغائي، فهو للإرادة التي بها يقاس الإيمان.

والإيمان غاية درجات الموقف القضوي الذي يضفي الفاعلية على الإبداع القيمي بأصنافه الخمسة: فبه تصبر الإرادة، وتتعمق المعرفة، وتتراكم الثروة، وينعتق الفن، وتتسع الرؤى الوجودية لأن ديمومة الفعل السياسي والمعرفي والاقتصادي والفني والوجودي مستمدة من إيمان القائم به بإيمان وصدق وولاء.

فالتراث لا يدرس بمستوييه الفعليين كعمل وكعودة عليه لعلمه من حيث مضمون قضاياه المعرفي فحسب، بل ومن حيث الموقف القضوي من مضمون القضايا كذلك.

وحتى نفهم أهمية البعد الابستميك (درجات العقد في حقيقة مضمون القضية) فلا نقتصر على البعد الابستيمولوجي (حقيقة القضية)، فلنضرب أمثلة توضيحية.

كل الأمور التي لا تقوم بنوعي التقويم الاقتصادي (الاستعمالي والتبادلي) تقوم بالموقف من رمزيتها. ولهذا تختلف أنظمة القيم عند الشعوب المختلفة. فالأمريكان والأنظمة الاستبدادية العربية لعلمهم بعلاقة الشرف في حضارتنا برمزية المرأة، استعملوا العدوان على الأعراض أمضى أداة لتعذيب الرجال.

فيعتدي على ابنتك أو أختك أو أمك أو زوجتك بحضورك، ويمنعك من الخيار المتمثل في الموت دون شرفك مثلا لأنه يفعلها وأنت مقيد فلا تستطيع حراكا.

وهذا من التراث القيمي عندنا، إذا ما استثنينا الدواويث من أدعياء الحداثة الذين يرضون بحياة ولا معنى عندهم للحياة بسبب “الواقعية” والبراغماتية.

لذلك، فهم يفرضون ممثلين لإرادة الأمة من لا يقدس الأرض ولا العرض ولا الدين ولا الكرامة، ويكتفي بما يسمح له به: الاستبداد والفساد على شعبه. وكل من يرفض هذا المنطق يسمى إرهابيا: يأتيك بجيوشه الجرارة فيحتل أرضك وينتهك عرضك ويجوعك ويحاصرك ويعطشك كما في غزة وإذا قاومته سميت إرهابيا.

وهو لا يكتفي بتسميتك إرهابيا، بل يصف ثقافتك بكونها هي مصدر الإرهاب والتربية على الكراهية. لكأن الشباب المقاوم هو الذي يحتل غيره لا المحتل.

ليس في مثالي هذا خروجا على البحث في التراث: فهو مثال عن اتهام التراث نفسه لتحييد أفضل ما فيه بوصفه أخلاق رعاية الذات بالاجتهاد والجهاد.

والآية تبني الاستعداد على أداتي الإبداع التراثي أو الاجتهاد والجهاد: فالقوة عامة رمز ثمرة الاجتهاد العلمي والعملي، ورباط الخيل رمز الجهاد.

الكتيب

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي