التراث، معرفته وتحديد دوره التاريخي – الفصل التاسع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله

– الفصل التاسع –

المقال

لماذا كثر الدجالون وعسر افحامهم؟

فالإنسان أكثر شيء جدلا وخاصة في المجالات التي تبعد عن العمل وتقرب من التخريف؟

والتاريخ والتوقع مجاله المفضل.

تأويل حديث أحداث الماضي هو علة التحريف التاريخي، وتحليل حديث أحداث المستقبل هو علة التوظيف السياسي. وبينهما علاقة غاية استراتيجية بوسائلها.

وإذن، فمن يحرف التراث بسبب الجهل يخرف. والذي يحرفه بسبب علمه بهذه العلاقة لا يخرف، بل هو يوظفه لتحقيق أجندات طالبي الثأر وموظفهم الاستعماري.

وطبعا فكاريكاتور الأصالة وكاريكاتور الحداثة جلهم من الجاهلين بفنيات التشويه والتوظيف التي تعود إلى هذه العلاقة وفاعليتها العلمية.

التعقيد يكمن هنا: كيف أبين الفاعلية العلمية للعبث بالتراث حتى يفقد فاعليته، بل وحتى تنعكس فاعليته فلا يبقى أصل الإبداع بل يصبح اساس الاتباع؟

تلك هي الهزيمة الروحية التي بها تبدأ الهزيمة التاريخية. وبتمامها، تتم الهزيمة الوجودية أي إن الجماعة تفقد احترامها لمرجعياتها، فيتعالم الأميون.

أزعم أن تمكن السيسي وأمثاله من الأمة، علته أن هؤلاء الرعاع صاروا مفكري الأمة بما وفره لهم المستبدون والفاسدون من سلطان على التواصل والتبادل

وأقصد بالتواصل، الاعلام والثقافة والجامعات الخ..

وأقصد بالتبادل، الاقتصاد والتجارة وكل شروط الثروة بحلب الدولة التي تصبح مرتع المافيات.

وما لم نفكك هذا الاخطبوط، لن تنجح أي ثورة. لأن هشاشة الإنسان عامة والإنسان العادي خاصة مصدرها هو التواصل والتبادل: فساد الثقافة والاقتصاد.

وتفكيكه العملي مشروط بتفكيكه النظري. ومن ثم، فكل الفصول السابقة حللت الاخطبوط وصفا وتعريفا لكنها لم تبين آليات عمله التي يستمد منها فاعليته.

والتعقيد مصدره ما سبق. وما سيأتي عصارة نظرية تفقد معناها من دون فهم نبعه من أحداث التاريخ واستراتيجيات السياسة نسيجا للإقليم ولأخلاق أهله.

وقد أعجب لو علمت أنه يوجد من لا يعجب مما يجري: كيف تكون هذه حال مصر؟ والسعودية؟ والعراق؟ والشام؟ والجزائر؟ إلخ.. حتى أرحم قلوب المؤمنين.

لا يمكن فهم الحال من دون معرفة ما حل بالتراث من تشويه، وبأخلاق الأمة الموضوعية التي فقدت جوهر الإسلام وعوضته بالمبالغة في شكليات العبادات.

والأدهى، أن النخوة التي يعرفها القرآن بأشداء على الأعداء رحماء بينهم، عوضتها أمراض الجاهلية من التفاخر على الأخ والشماتة فيه إذ يغلبه عدوه.

عبقرية ابن خلدون أنه جمع ما أحاول وصفه بعبارة بليغة هي جوهر ما نسميه حداثة “معاني الإنسانية” التي ترمز بصلاحها وطلاحهما لأحوال الأمم. وقد حكم استقراء، بأن فساد معاني الإنسانية علته فساد نظام التربية ونظام الحكم، إذ يصبحان مستندين إلى الاستبداد سلطانا على العباد بالفساد.

وهذا الحكم وصف أمين لحال الأمة وخاصة لأخلاقها الموضوعية المنافية تمام المنافاة لأخلاق الإسلام. ومن ثم، فهي ناتجة عن تشويه تراثه المستبطن.

فلنفهم العلاقة بين التأويلية التاريخية والاستراتيجيا السياسية. أي بين تأويل حديث الماضي عن حدثه وتحليل حديث المستقبل عن حدثه في علاقة الأمم.

إذا لم نتجاوز الظواهر إلى البواطن لن نفهم ذلك. فوراء علاقة التأويل بالاستراتيجيا كما قلنا توظيف التاريخ أو معاني الماضي لتحقيق أجندة سياسية.

وهذه الأجندة السياسية سواء كانت في نفس الجماعة أو بين الجماعات، هي استراتيجية غزو تبدأ بحرب نفسية وتنتهي بها، لأن الإنسان لا يهزم إلا روحيا.

وروح الإنسان التي أعنيها ليست الروح التي قال فيها القرآن الكريم إنها من أمر ربي. فهذه واحدة للجميع. إنما أقصد ما تماهى معه من تاريخ أمته.

لا أقصد روح الشعب الهيجلية، فقد تحررت من غرام شبابي. بل حكم ابن خلدون: ما فعل في الجماعة نظام التربية والحكم فأصلح معاني الإنسانية أو أفسدها.

العلاقة بين تأويلية الماضي واستراتيجية المستقبل، هي جوهر علاقة السياسي بالتاريخي، وهي علاقة عمل على علم. فلنبحث عن العلم المساند ما هو لنفهم.

بينت في رسالتي التكميلية حول إصلاح العقل في الفلسفة العربية، أن النسبة بين السياسة والتاريخ هي عين النسبة بين الرياضيات والمنطق: محل السر.

فالاستراتيجيا السياسية فعل عملي في شأن الجماعة، فتحتاج إلى التاريخ صادقه وكاذبه تصحيحا وتحريفا من أجل اجندة مستقبلية إذا كانت عملا على علم.

والرياضيات فعل نظري في الرموز. لذلك، فهي تحتاج إلى المنطق تصديقا وتكذيبا، تصحيحا وتشويها حتى تحقق استراتيجية تصوير موضوع متخيل.

فتكون نسبة التاريخ إلى السياسة، هي عينها نسبة المنطق إلى الرياضيات.

السياسة عمل على علم بالتاريخ. والرياضيات علم على عمل بالمنطق. والأصل واحد.

الأصل هو علة التلازم بين النظر والعمل: النظر عمل إبداع، مجاله عالم الرموز.

والعمل إبداع نظري، مجاله عالم الأشياء: والأصل الواحد هو الإبداع.

لا ابداع في الاستراتيجيا السياسية من دون التاريخ السياسي. ولا ابداع في الاستراتيجيا العلمية من دون المنطق الرياضي: وتلك هي عناصر المعادلة.

عناصرها خمسة: السياسة والتاريخ والرياضيات والمنطق.

والأصل هو علاقة الإبداع الرمزي والفعلي.

فإذا غاب الأول، مات الثاني: سر جمود التراث.

والتراث الجامد لا يمكن أن يكون نابعا من القرآن الذي ينبض حيوية إبداعية تجمع بين هذه الأصول الخمسة: فهو استرايتجيا سياسية وتأويلية تاريخية وهو يقول بأن العالم كله رياضي. وهو ذو نسيج منطقي ويرتقي إلى الأصل. إذ يجعل هذه العناصر الاربعة فروعا من خلق فريد النوع: تلازم القول والفعل.

وهذا الشرط الخلقي الأصل لكل ما عداه هو أهم شيء فقدته الأمة: كثر الكلام وقل الفعل.

بل أكثر من ذلك، صح وصفها بأكبر مقت إلهي: تقول ما لا تفعل.

فما وجه الشبه بين علاقة الرياضيات بموضوعها الرمزي، وعلاقة السياسيات بموضوعها الشيئي؟

هي علاقة تصوير الثانية أعسر من الأولى ومشروطة بها.

الرياضي يصور موضوعا من اختراع العقل، فيكون أكثر حرية في التصوير. لكأنه رسام أو موسيقار. فيها شيء من حرية الإبداع الفني الجمالي بحد هو المنطق.

لكن السياسي موضوعه يتمنع على التصوير. ولهذه العلة، وضع مبدأ العنف الشرعي، بمعنى أن الخضوع للقانون بحرية ليس دائما حاصلا فيحتاج التصوير للردع.

فتكون نسبة القانون إلى السياسي الشرعي (استثني المستبد) هي عين نسبة المنطق الى الرياضي المبدع: كلاهما له حد لا يتجاوزه رغم إمكانية البدائل.

وإمكانية البدائل، هي التي تجعل الرياضي المبدع قادرا على تغيير المنطق بمنطق أسمى، والسياسي الشرعي على تغيير القانون بقانون أو مؤسسة أعدل.

وإذن، فالرياضي واهب الصور الرمزية شرطا في كل معرفة نظرية. والسياسي واهب الصور الفعلية شرطا في سلوك عملي. وكلاهما من جوهر الابداع الخلقي الحر.

والتاريخ والمنطق هما الحكم بذكر الإبداعين: فالمؤسسة المنطقية والمؤسسة السياسية هما مبدعتا تراث الأمم النظري والعملي محقق دوري الإنسان الحر.

فأما الدور الأول فهو تحقيق شروط الاستعمار في الأرض.

واما الدور الثاني فهو تحقيق شروط اهلية الاستخلاف.

والأول شرط وجود. والثاني شرط كمال.

الكتيب

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي