التحرر والتحرير أو الشروط الثقافية والاقتصادية للاستئناف – الفصل الخامس

**** التحرر والتحرير أو الشروط الثقافية والاقتصادية للاستئناف

مهدنا في الفصل الرابع للعودة من ذروة الهرم-الفرد-إلى قاعدته العلاقات الأربع-العموديتين والافقتين اللتين درستهما في الفصول المتقدمة. فسلطانه على ذاته أو حريته يتعين في علاقته العمودية مع بدنه والأفقية مع روحه ويقاس بسلطانه على الرمزين وسلطانهما عليه: دور العملة والكلمة في حياته. ومعنى ذلك أن مقوماته الخمسة (الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود) وقيمه الخمس (الحرية والحقيقة والخير والجمال والجلال) كلها تتعين في رمز الفعل أو العملة وفي فعل الرمز أو الكلمة فتردان إلى ما يجمع بين العلاقتين العمودية والافقية في كيان الإنسان وفي أحياز وجوده اللذين درسنا. بسطت الفلسفة اليونانية ممثلة بأكبر رموزها-أفلاطون وأرسطو ومحاولة الجمع بينهما لدى أفلوطين-مقومات الذات الإنسانية في قوى ثلاث هي العقل والغضب والشهوة. عليها بنت نظرية النظر والعمل والتاريخ وما بعده وأسقاطهما على الطبيعة وما بعدها بنزعة نفسانية ساذجة تجاوزها ابن خلدون. بحث في تناظر عجيب بين علاقتين عمودية في أحياز وجود الإنسان (الجغرافيا وثمرتها أو الاقتصاد والتاريخ وثمرته أو الثقافة والمرجعية رؤيته للعالم ومنزلة الإنسان فيه) والعمودية في كيانه (بدنه وثمرته او الديموغرافيا ثم روحه وثمرتها أو الانثروبولوجيا). فكان فكره منعرجا كونيا لم ينل حظه. وغياب الاهتمام بهذا المنعرج في مستوى العلاقة العمودية الخارجية (أحياز وجود الإنسان) والداخلية (كيان الإنسان) حال دون التفطن إلى المنعرج في مستوى العلاقة الأفقية الخارجية (التواصل الكوني) والداخلية (التواصل مع الذات) فأصبح الهرم الذي نصفه وهو ما تنبني عليه رؤية القرآن مجهولا تماما. والمنطق الجدلي الذي أرفضه ينتج عن تبسيط شبيه بالتبسيط اليوناني بالاقتصار على جعل تحليل مقومات الكيان الإنساني المقابلة بين العقل والشهوة بتوسط أداتهما أو الغضب والتبسيط الحديث بالاقتصار على تحليل أحياز وجود الإنسان بالمقابلة بين الثروة والتراث بتوسط النظر(هيجل)أو العمل(ماركس). ومعنى ذلك أن هيجل كان محقا عندما بين أن منطق أرسطو لا يمكن أن يمر من دور الارغانون لعلاج الشكل إلى دور العلاج المضموني لفعل المعرفة من دون أن يتحول إلى منطق جدلي بنموذج بايولوجي هو في الحقيقة مضمون الميتافيزيقا الهيلومورفية ويقتضي تغيير نظرية القضية لتصبح تأملية ولا تبقى تحليلية. فلا يمكن تأسيس أصل المبدئين الشكليين (التناقض والثالث المرفوع) من دون المبدأ الأول (الهوية) والهوية نموذجها بايولوجي عند أرسطو وهي إذن تغير يحلل ضرورة بمفهوم الكون والفساد وما يجمع بينهما هو ثالث موضوع وليس مرفوعا وهذا الثالث الموضوع هو الصيرورة بالمعنى الهيجلي. فيكون المنطق الجدلي أو الذي يعترف هيجل بأنه أرسطي بل وجوهر المنطق الأرسطي الذي يتعلق بالمضمون وليس بالشكل وهو في الحقيقة كتاب التحليلات الاواخر ونظيره المنطق المتعالي لكنط أعني المنطق الذي يعلل الجمع بين الذاتي(شكل العلم)والموضوعي(مضمون العلم).وقد أفصح عن ذلك في ضميمة فلسفة الدين. وكنت أقبل مثل هذه الرؤية لو كانت نظرية المعرفة المطابقة مقبولة لدي. ولا يمكن أن أقبلها لأن حجة ابن خلدون ومن قبله ابن تيمية أقنعتني أكثر من حجة كنط وهيجل وقبلهما أفلاطون وأرسطو: ما أوتينا من العلم إلا قليلا حتى في عالم الشاهد ناهيك عن عالم الغيب المجهول بإطلاق. لا يمكن لشكل العلم -كل أنواع المنطق وكل لغات الإنسان بما فيها الرياضيات-لا يمكن أن تكون مطابقة لحقيقة الوجود بل هي دائما ذات وظيفة أرغانونية -أدوات معرفة كشفا وعبارة-وكل أطلاق لما يحصل بفضلها رد للوجود إلى الإدراك هو موقف سوفسطائي يجعل الإنسان مقياس كل شيء. وهذا هو جوهر النقد التيمي للمنطق لأنه لم يجادل فيه كأرغانون بل في وهم المطابقة الذي يجعل الوجود مردودا إلى الإدراك الذي هو عين الموقف السوفساطي القائل إن الإنسان مقياس الموجود والمعدوم. ونفي المطابقة عنده وعند الغزالي قبله وابن خلدون بعده يختلف عن قول ما بعد الحداثة. بخلاف الظاهر فما بعد الحداثة هي غاية الموقف الموقف السوفسطائي: فهي لا تنفي المطابقة بل تنفي أيضا نفيها بمعنى أنها تدعي أنه لا يوجد وراء علم الإنسان شيء يمكن أن تحصل معه مطابقة أو عدمها. علم الإنسان سرديات لا فرق بينها وبين أي منتج خيالي. فلا يكون مقياسا لغيره بل لا يوجد سواه. وفي هذه الحالة الحكم الحاسم الوحيد هو إما خاصيات رمز الفاعلية (في الاقتصاد) أو فاعلية الرمز (في الثقافة) وكلاهما عنف السلطان المادي للاقتصاد وعنف السلطان الروحي للثقافة: صراع القوى الاقتصادية وصراع القوى الثقافية هو الحقيقة الوحيدة التي يكتفي الإنسان بإبداع سردياتها الخيالية. فلسفة ما بعد الحداثة هي الترجمة الفلسفية لدين العجل وللتربية والحكم باسم بعديه معدنه (العملة) وخواره (الكلمة) اللذين يتحولان من أداة للتبادل والتواصل إلى أداة للسلطان بهما على التبادل والتواصل فيكون خواره أداة استعباد روحي (الاعلام والترفيه) خدمة لاستعباد مادي (البنك والمال). والقرآن لا ينفي هذه الواقعات بل هو يصفها ويبحث في عللها وشروط علاجها بصورة تجعلها لا تنحرف فتنتقل من كونها أدوات سلطان الإنسان على الطبيعة والتاريخ إلى أدوات لسلطان الإنسان على الإنسان فلا تبقى أدوات تحرر وتحرير بل تتحولان إلى أداة أخلاق عبيد مرتين. ذلك أن المستبعد لا يقبل عبودية عن العبد. وهنا نفهم التناظر بين العلاقتين في احياز وجود الإنسان والعلاقتين في كيانه. فالعبد عبد بسبب العلاقتين في الاحياز وخاصة في الثروة والتراث والمستبعد له عبد بسبب العلاقتين في كيان الإنسان. المستعبد في كيانه يستعبد من ليس متحررا في الاحياز. ولأضرب مثال من العلاقات الفردية ومثال من العلاقات الجماعية. صاحب الثروة يظن نفسه قويا ومتحررا من الأحياز فيستعبد الفقير الذي هو مستضعف لتبعيته في الاحياز. لكن صاحب الثروة ما كان ليفعل من دون أن يكون مستعبدا من قوى كيانه العضوي والروحي: فهو بعد لما في كيانه من وهمي القوة والحرية. ثورة الإسلام هي الحرية الروحية (التحرر من الوساطة) والسياسية (التحرر من الوصاية) بالمعنيين: 1. تحريرالمستقوي الذي يعتبر استعباد غيره قيمة فيحرره مما في كيانه من عبودية. 2. تحرير المستضعف الذي يعتبر العبودية لغيره قيمة فيحرره مما في الأحياز من عبودية: الثورة السياسية والخلقية في القرآن. وهي إذن ثورة ثقافية تعلل العبودية بفساد العلاقتين العمودية والافقية في كيان الإنسان وفي أحياز وجوده. لذلك فهي في آن ثورة خلقية هدفها سلطان الإنسان على بدنه وثمرته وروحه وثمرتها ومادية هدفها سلطان الإنسان على جغرافيته وثمرتها (الثروة) وعلى تاريخه وثمرته (التراث).. وسلطان الإنسان على بدنه وروحه هو الحرية الروحية الشارطة للحرية السياسية سلطان الإنسان على جغرافيته وتاريخه هو الحرية السياسية الشارطة للحرية الروحية. والتشارط بين الحريتين هو المعادلة التي هي عين الهرم الذي وصفنا: وهذا الهرم هو جوهر المضمون القرآني لنظرية التربية والحكم فيه. فبماذا يتميز العلاج الفلسفي لدى فلاسفة المدرسة النقدية العربية (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون) من التبسيط الفلسفي اليوناني؟ بأمرين: 1. رفض القول بالمطابقة في نظرية المعرفة فعلم الإنسان محدود ومن ثم فهو دائما اجتهاد لتصوير ما ندركه من الوجود وليس هو إياه. 2. الجدل ينتج عن التبسيط. فعندما لا نرى من العلاقات إلى الثنائيات التي تبدو في تضاد وفي صراع يبدو منطق الجدل هو الوصف الموضوعي لعلم يتوهمه صاحبه مطابقا لموضوعه. لكن إذا اخذنا بعين الاعتبار العناصر المقومة لما يجري في هذا الظاهر ندرك أن بنية التفاعل أعمق من التضاد والصراع وهي تكامل وبنيوي شديد التعقيد. وهذا التكامل المعقد يبرز خاصة في بنية كيان الإنسان: فهو ليس مثلث الابعاد -عقل غضب شهوة-بل هو مخمسها: إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود. ولكل من هذه الأبعاد قيمه: فالإرادة قيمتها الحرية والعبودية والعلم الحقيقة والباطل والقدرة الخير والشر والحياة الجمال والقبح والوجود الجليل والذليل. وهنا تبرز عبقرية ابن خلدون: فقد عرف من فسدت فيه معاني الإنسانية بالمقومات وقيمها السلبية. فمن فسدت فيه يكون بلا إرادة وجاهلا وعاجزا وميتا ومعدوما في الوجود فيكون عبدا إما لكيانه أو لحيزه وكذابا وشريرا وقبيحا وذليلا. ويعلل فساد المعاني بالعنف في التربية وفي الحكم: اي ما حل بالأمة. وهذا ما كان علينا بيانه C.Q.F.D. كان الهدف أن نثبت أن التحرر والتحرير مشروطان بالنظرية الاقتصادية والرؤية الثقافية المحددتين لمنزلة الإنسان صاحب الإرادة الحرة والعلم الحقيقي والقدرة الخيرة والحياة الجميلة والوجود الجليل أو العكس من ذلك كله كما هي حالنا الآن. والله ورسوله أعلم.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي