التحرر والتحرير أو الشروط الثقافية والاقتصادية للاستئناف – الفصل الثالث

**** التحرر والتحرير أو الشروط الثقافية والاقتصادية للاستئناف

وعدت باستئناف الكلام في “التحرر والتحرير أو الشروط الثقافية والاقتصادية للاستئناف” بعد عودتي من الرحلة وها قد عدت لأواصل بمدخل يصل شروط الحجم المناسب من الأحياز الى فهم يعيد للشروط الثقافية والاقتصادية التي من دونها لا يمكن للتحرر الداخلي والتحرير الخارجي أن يتحققا. فشروط التحرر والتحرير الثقافية والاقتصادية ليست رهن حجم الأحياز فحسب بل هي رهم فهم العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة والعلاقة الافقية بينه وبين التاريخ. ذلك أن الأولى هي أساس التبادل ومن ثم فهي أصل الاقتصاد والثروة والثانية هي أساس التواصل ومن ثم فهي أصل الثقافة والتراث. وكلتا العلاقتين شديدة التعقيد وتحتاج من ثم إلى التحليل الذي يصلها بتشريح القرآن الذي تلكمنا فيه سابقا لأنهما هما جوهر المضمون الشاهد القابل للعلم مما تذكر به الرسالة بخلاف الغيب المحجوب. أهملت علوم الملة الأول المـأمور به وانشغلت بالثاني المنهي عنه فكان ما حل بها من انحطاط. ولن اعتبر نفسي قد حللت العلاقتين ما لم تكن النتيجة قابليتها للرسم في شكل هندسي يبين دلالة التبادل في العلاقة العمودية والتواصل في العلاقة الافقية شرطين للتحرر والتحرير. وهذا الرسم “دياجرامي” وهو بداية الصوغ الرياضي للمعرفة التي تنتقل فيها من الإدراك العامي إلى الإدراك العلمي. وسيتبين أن العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة أو مادة التبادل بين الإنسان والطبيعة متشارطا مع التبادل بين الإنسان والإنسان (كلاهما شرط الثاني) معادلة معقدة وهي عين معادلة كيان الفرد بمعنى أن الفرد الإنسان كفرد يبدو مجرد فرد من جماعة لكنه في الحقيقة أوسع وأشمل من كل جماعة. صحيح أنه فرد من جماعة معينة لكنه يتقوم بكل الجماعات الإنسانية بالمنتجين الاقتصادي والثقافي أو الثروة والتراث مادتي التبادل في مستوى العلاقة بينه وبين الطبيعة والعلاقة بينه وبين التاريخ والتواصل بينه وبين التاريخ وبينه وبين الطبيعة. وإذن فالتبادل والتواصل كلاهما عمودي وأفقي. فلنرسم الشكل: 1. الطبيعة 2. الجماعة من حيث هي منتجة اقتصاديا 3. (كل التاريخ وكل الطبيعة) 4. الجماعة من حيث هي مستهلكة اقتصاديا 5. قيام الفرد الإنساني. والانتاج جماعي بمعنى أنه حصيلة تقاسم العمل بكل أنواعه والاستهلاك جماعي من حيث تقام ثمرة العمل بكل أنواعها. وحتى يكون كلامي واضحا سأفترض أن أخرج الآن لأجني ثمرة من حديقة بيتي. أليست هذه علاقة مباشرة بيني ونبين الطبيعة؟ ما دخل كل هذا التعقيد الذي أعرضه لفهم العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة؟ ألست أبالغ؟ حسنا. هذه الثمرة حصيلة خبرة زراعية وعندي جنان يرعاها وله خبرة ليس هو منتجها. وهو يستعمل السماد والدواء وله فيهما دور الاستعمال لكهما من أنتاج مختصين آخرين وبحث علمي. فلا شيء فيها يمثل علاقة مباشرة بيني وبين الطبيعة بل لابد من توسط الجماعة المنتجة في جماعتي وهي تستعمل انتاج الجماعة الكونية ثم بعدها لابد أن أكون واحدا من جماعتي المستهلكة: سوق الثمار في تونس. والثمرة سيحولها بدني إلى شيء منه ليكون هو بدوره “جهاز” إنتاج لذاته عضويا ولقدرته على إنتاج مثله بالتوالد عضويا فيكون الفرد الإنسان مشروط بكل ما وصفنا وشرطا لكل ما وصفنا في العملية العمودية كلها وخاصة في صلتها بالعلاقة الأفقية أو بالتاريخ الخاص به وبجماعته وبالإنسانية والعالم كله. فهل يبقى بعد هذا كلام معقول على العلاقة الجدلية بين وجهين هما هوية الشيء الواحد (أ ولاأ) ثم بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان والإنسان جدليتين فيهما كلا على حدثة ثم بينهما بالمعنى التصادمي السطحي الذي بنى عليه هيجل وماركس فلسفتهما التاريخية حيث لا معنى للمقابلة مثالي-مادي؟ صحيح أن الأفراد هم الذين يبدعون النظريات العلمية والأعمال الفنية من كل أصناف الفنون الجميلة التي تشكل المكان (الرسم والعمارة والرقص) والتي تشكل الزمان (الموسيقى والرواية والرقص) لكنها جميعها تنتج ما يغدي الروح وتخضع لنفس البنية التي وصفنا في الإنتاج الاقتصادي لغذاء البدن. ولأشر بسرعة أن الفنون كلها تشكل للمواد وخاصة لمحلها المكاني والزماني سواء كانت المواد من خارج ذات الإنسان أو ذاته. وأهم شيء هو الرقص في تشكيل المكان والزمان في الإنسان وخارج الإنسان بمعنى أن حركة الرقص هي تشكيل للمكان والزمان الذاتي في المكان والزمان المشترك للجماعة. وهو يعاش موضوعا للحواس الخارجية المشتركة وموضوعا للحواس الباطنية موضوعا ذاتيا خالصا فعين الشعور الوجودي بحياة الإنسان المتعينة في حركة البدن وما يوازيها من حركة الشعور الوجداني الحال فيه. ومنه كل الرياضات ما لم تتحول إلى بضاعة يتقدم فيها الاقتصادي على الثقافي والمادي على الرمزي. لكن الفرد المبدع ليس مبدعا بفرديته إلا من حيث إن الفرد له هذان الشعوران المشترك والباطني في التعامل مع حصيلة فعل الإبداع في جماعته وفي الإنسانية سواء تعلق الأمر بنوع المبدعات العلمية أو الفنية أو خاصة بأساليبها وتقنياتها دلالاتها دورها في التواصل الذي هو غاية وأداة تعبير مشتركة. فهبني الآن كما فعلت في قطف ثمرة من حديقتي أخذت كتابا في الفلسفة من مكتبتي. هل أستطيع قراءته حتى بمعنى تهجية نصه من دون أن اكون قد تعلمت لغته؟ وهل تعلم لغته ليست عملية جماعية في جماعتي ثم في الجماعة الفلسفية العالمية التي انتجت النص والتي تستهلكه؟ هل يوجد فرق من حيث البنية؟ إذن عندنا بينتان بنفس التركيبة وحصيلتهما كيان الفرد الأول يغلب على كيانه العضوي والثاني على كيانه الروحي أو النفسي أو سمه ما شئت. المهم أنهما يتحدثان فيه بوصفه حصيلة لما تقدم ع ليه وشرطا لما يليه: نسبته إلى الإنتاج الثقافي والروحي عين نسبته إلى الإنتاج الاقتصادي والعضوي. عندنا الآن بنيتان واحدة للعلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة والثانية بين الإنسان والتاريخ وكلتاهما شرط للثانية وشرط لكيان الإنسان ومشرطان به وسيطا بين ماضيهما ومستقبلها وهو حاضرهما الذي يجعل حدث الماضي وحديثه من ماضيهما وحديث المستقبل وحدثه في مستقبلهما. إذن عندنا بنيتان بنفس التركيبة وحصيلتهما كيان الفرد الأول يغلب على كيانه العضوي والثاني على كيانه الروحي أو النفسي أو سمه ما شئت. المهم أنهما يتحدثان فيه بوصفه حصيلة لما تقدم ع ليه وشرطا لما يليه: نسبته إلى الإنتاج الثقافي والروحي عين نسبته إلى الإنتاج الاقتصادي والعضوي. لو جردنا البنيتين من مضمونهما الذي يعتبر قيما لما فيهما من خانات (الخمسة) لوجدنا أن البنية واحدة بين الأمرين وأن الاقتصادي والثروة والثقافي والتراث ليسا إلى قيما تعين بها الخانات فتكون علاقة بين الإنسان والطبيعة في الحالة الأولى وعلاقة بين الإنسان والتاريخ في الحالة الثانية. وهذه البنية الواحدة-بعد ازاحة المضمون الذي هو قيم تعين خاناتها الخمس في الحالتين-بنية مشتركة بين ما يجري في الأحياز الخارجية(الجغرافيا والتاريخ وثمرة فعل الإنسان في الأولى خلال الثاني (الاقتصاد أو الثروة) وفي فعل الإنسان في الثاني خلال الأولى (الثقافة أو التراث) والداخلية. فيكون للإنسان علاقة بذاته من حيث كيانه الطبيعي أو العضوي وهي عمودية أيضا وعلاقة بذاته من حيث كيانه التاريخي أو الروحي وهي أفقية أيضا. وبذلك لم تعد العلاقة العمودية والعلاقة الأفقية خارجيتين فحسب بل لهما ما يناظرهما داخليا في كيان الإنسان الفرد لكأنه هو كل البشرية والعالم. فيتبين أن العلاقة العمودية والعلاقة الأفقية الخارجيتين اللتين درستهما الآن رغم تعقيدهما لا تكفيان لفهم الفرد الإنساني. فالعمودية مع الطبيعة في الخارج تناظرها عمودية مع البدن في الداخل والعلاقة الأفقية مع التاريخ في الخارج تناظرها علاقة أفقية مع الروح أو النفس في الداخل. لم يعد الفرد الإنسان ذروة تقف على رجلين هما العلاقة العمودية مع الطبيعة والعلاقة الافقية مع التاريخ الخارجيين بل هو ذروة تقف على أربع بإضافة العلاقة العمودية مع كيان الذات العضوي والعلاقة الأفقية مع كيان الذات الروحي. وهكذا نحصل على الهرم الوجودي لكيان الفرد الإنساني. هرم مؤلف من قمة هي الفرد الإنساني وسفوحه الأربعة تتحدد ببين أضلاع تمثلها العلاقتان العموديتان والعلاقتان الأفقيتان وقاعدة الهرم هي: الطبيعة والتاريخ خارجي وكيان الذات العضوي وكيانه الروحي داخليا. وهذه المعادلة الهرمية التي تجعل القمة في آن متشاركة مع السفوح والقاعدة هي الإنسان. اكتفينا إلى حد الآن بالصعود من السفوح إلى الذروة أو رأس الهرم ورأينا أن رأس الهرم شرط ومشروط في آن للعلاقات الأربع العمودية التي بين الإنسان والطبيعة والعمودية التي بين الإنسان وكيانه العضوي والأفقية التي بين الإنسان والتاريخ والأفقية التي بين الإنسان وكيانه الروحي. سنمر في الفصل المقبل إلى النزول من الفرد الإنساني أو من علاقته العمودية بينه وبين كيانه العضوي ومن علاقته الأفقية بينه وبين كيانه الروحي إلى السفوح الأربعة وقاعدتها لنر كيف يتحقق مفهوما الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها من خلال مقومات الذات والقيم.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي