**** التحدي التاريخي كيف يستعد له شباب الثورة بجنسيه؟ الفصل الثاني
وصلنا الآن إلى موضوعنا: هل النخب بأصنافها الخمسة: 1. نخبة الإرادة أو الساسة 2. ونخبة المعرفة أو الباحثون 3. ونخبة القدرة أو المنتجون في للثروة والتراث 4. ونخبة الحياة أو الفنانون 5. ونخبة الوجود أو أصحاب الرؤى الدينية والفلسفية هل هم معاصرون لعصرهم الذي تحكمه هذه البنية التي وصفنا في الفصل 1؟ وحتى أزيد الإشكال وضوحا، فلأحدد صفات الوضع المحدد لما يتميز به العصر الحالي وما هو بصدد التكون نظاما جديدا للعالم الذي يحكمه قطبان جديدان هما: • قطبا العماليق عماليق الشرق الاقصى ورمزهما الصين والهند • وقطبا الغرب الاقصى ورمزهما الولايات المتحدة وعملاق أمريكا اللاتينية بمنطق الأحياز. فالعملقة تكون بالأحياز التي تجعلهم قادرين على تحقيق شروط القوة المادية والرمزية أداة للسلطان على العالم أو للتنافس على حكمه بندية لا تتوفر للأقزام التي من جنس ما آل إليه حال المسلمين واقليمنا الذي ينتسب فتاته إلى ما يسمى الجامعة العربية أو فتات السوفيات وأوروبا بعد الهزيمة. والأحياز مكان وزمان وفاعلية الاول في الثاني والثاني في الأول ومرجعية يمكن أن تكون مستمدة من ماض استؤنف (الصين والهند) أو مستقبل لا يكاد يكون له ماض (الولايات المتحدة والبرازيل) فتكون لأصحابها السلطان على الجغرافيا والتاريخ الثورة والتراث بمرجعية مستأنفة أو محدثة بإطلاق. وهم بما لهم من سلطان على الأحياز يسيطرون على من لا سلطان لهم عليها بسبب التفتت الجغرافي والتاريخي وانعدام شروط التنافس على الثروة والتراث في العالم بسبب أمراض أصابت المرجعية التي أضاعوا ما كان لها من طموح كوني كحال المسلمين والأوروبيين الذين نكصوا للقومية والعرقية والطائفية. وهذا النكوص إلى ما في الاحياز والتركيز على ما بين مكوناته من فروق، تصبح مقدمة على ما يجعلهم ذوي لحمة تحميهم في حلبة التنافس العالمي الذي تحدده لحظة تاريخية معينة متناسبة مع شدة هذا التنافس على شروط قيام الجماعة هو السر في التكيف شبه التاريخي الطبيعي في الحضارات: جهله أو تجاهله داء. وذلك هو الداء الذي تعاني منه النخب الخمس: • هو عند السياسي فقدان الإرادة • وهو عند الباحثين فقدان العلم • وهو عند منتجي الثروة والتراث فقدان القدرة • وهو عند الفنانين فقدان الإبداع • وعند اصحاب الرؤى التبعية الروحية والعقلية تعبيرا عن الهزيمة التاريخية أو تقليد المغلوب للغالب.
لو ركزت شعوب الولايات المتحدة على تعددها الداخلي ففقدت ما يوحدها لتكون قوة عالمية ولو فعلت البرازيل أو الصين أو الهند ذلك لاستحال عليهم أن يكونوا عمالقة. ولا أحد ينكر أن التعدد فيها جميعا العرقي والديني والثقافي لا يقل عما يجعل العرب فتاتا والمسلمين شتاتا: المشكل هو توجه لاهتمام. من هنا يتبين أن الأمر كله هو مدى انشغال النخب بشرط كونها ما تدعيه: • فالسياسي الذي ليس له القدرة على تمثيل إرادة أمته • والباحث الذي ليس له عقلها • ومنتج الثروة والتراث اللذين ليس لهما القدرة • والفنان الذي ليس له ذوقها • وصاحب الرؤية الذي صار تابعا روحيا ذلك هو الداء الذي علينا علاجه.
ولهذه العلة، فعندما ينقد النخب العربية يجدها ملومة ومعذورة في آن: فهي أمام وضعية تشبه الحلقة المفرغة -الدور والتسلسل-فلا تدري هل الأمر يتعلق بأمر قاهر علته ما عليه حال الاحياز-تفتيت الجغرافيا وتشتيت التاريخ وامتناع شروط التنمية المادية والروحية واضطراب المرجعية-يحول دون وظائفها. فلو فرضنا مثلا قطر ذات نخبة سياسية صالحة فإن حجم قطر يحول دونها وأن تكون قائدة لحركة استئناف إسلامية، إذ حتى تركيا وما لها من حجم لا تستطيع أن تنافس العمالقة، بل حتى إسرائيل لأن هذه متكئة على عملاق ولا يحاربها أحد بخلاف تركيا أو قطر فضلا عن الحرب الاهلية الإسلامية التي لا تتوقف. وما لا تسطيعه نخبة الإرادة فمن باب أولى لن تستطيعه نخبة المعرفة لأن هذه تابعة لتلك على الأقل من حيث توفير الإمكانات المادية للبحث العلمي. فإذا كان الدخل القومي الخام لأي دولة اسلامية دون دخل ولاية أمريكية بل وشركة فذاك وحده كاف لبيان امتناع بحث علمي من عصرنا يقاس بغزو الفضاء. وقد تسمع بأن الإمارة العربية الفلانية تسهم في شركات دولية وتصبح صاحبة أسهم فيها. فهل هذا يقدم أو يؤخر؟ لا ثروة لمن ليس له القدرة على حمايتها. فيمكن لأمريكا أن تجمد أو تؤمم كل مشاركات العرب في الشركات الدولية بجرة قلم فيعودوا في لمح البصر إلى ما كانوا عليه قبل اكتشاف البترول. فمن يسيطر على العالم بالقوة العنيفة (السلاح والاقتصاد) واللطيفة (العلم والثقافة) ومن ثم على الأسواق والأذواق هو الذي يحدد مقدار السيادة والتبعية. لذلك فكل بلاد المسلمين محميات لأن النخب الإسلامية بأصنافها الخمسة ما زالت تقدم صراعاتها الداخلية على شروط حريتها وسيادتها العالمية. وينسى المسلمون أن ترجمة “الولايات المتحدة” مغالطة فهي “الدول المتحدة” وليست الولايات المتحدة. في حين أن المسلمين لم يتجاوز القبلية وهي ليست متحدة لأن كل قبيلة جعلها الاستعمار تتوهم أنها دولة وهي ليست حتى “قرية” بالقياس إلى الدول التي لها سيادة في عصر العماليق.
وكان يمكن أن نفهم ذلك لو كان مقتصرا على الحكام إذ يمكن أن نقول إن ذلك علته إما الخيانة أو الضرورة وهي استسلام دال على الضعف إن لم يكن دالا على الخيانة. لكن الامر الأخطر هو أن النخب النافذة بمستوياتها الخمسة منحازة في غالبيتها إلى هذه الخيارات وما زالت تدافع عن حال الأحياز. فهي جميعا قطرية جغرافيا وتسعى إلى تأسيس ذلك تاريخيا بجعل ما تقدم على الإسلام تشريعا للمحميات التي نتجت عن خارطة وضعها الاستعمار ووضع حدودها الحديدية لأن ما كان منها موجودا قبله لم يكن منفصلا عن البقية بحدود حديدية بل كان أشبه بالولايات التابعة لنفس الجماعة الواحدة.