لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالتحديث المستقل شرطه التحرر والتحرير بالاستئناف الإسلامي
هل يمكن لمن يؤمن بالاستئناف الإسلامي أن يتأثر بكلاب الانظمة العميلة وما تتفوه به من علامات السفالة في حضارة كان مؤسسها الأعظم قد نال أكثر مما قد ينال أي شخص من بعده ولم يهتم بالأمر بل واصل رسالته ليجعل من أجداد هؤلاء الكلاب كما وصفهم قائد الفرس محقا قوما سادوا العالم؟ وهل يمكن ألا يعذر الكثير منهم وهو يعلم أنهم إن لم يفعلوا سيكون مصيرهم مصير من زجوا في سجون مراهق بلادهم واغبياء الثورة المضادة وعملاء إسرائيل أو عملاء إيران في الإقليم؟ وهل يمكن لمثلي أن يؤاخذ البعض ممن أعرف حتى في تونس ومنهم من درّسته أو كان صديقا قد أغراهم الملالي عن قناعة أو طمعا؟ فلأواصل إذن البحث في شروط الاستئناف ببيان كل ما اجترح لطي صفة الإسلام إما بالعودة إلى ما تقدم عليه (بإحياء الفتنة الكبرى والدعوات القومية) أو بالأخذ بما يظنونه قد تلاه (باستنبات الفتنة الصغرى والدعوات الحداثية) والأساس في ذلك كله “طي” صفحة وحدة الامة تفتيتا لتاريخها بعد جغرافيتها. محاولة اليوم هذا موضوعها وقد نذرت نفسي للكلام على شروط الاستئناف يوما ما في تونس منذ أن اعتزلت السياسة المباشرة وتفرغت للكتابة في قضايا الأمة والإنسانية من منظور إسلامي كما حاولت تحديده في كتاب فلسفة الدين وفي كتاب الجلي في التفسير أساسين لكلامي فيهما على علم. فكل هؤلاء الكلاب النابحة ليسوا إلا احفاد أولئك الذين آذوا سيد الخلق. لكن نموذجه يجعل كل مسلم صادق يتصدى لمن يريد طي صفحة الإسلام أن يترك الكلاب تنبح ويواصل عمله مخاطبة للشباب الذي لم يغرق بعد في وحل الحياة التي أفسدها المستبدون والفسدة الذين حكمهم الاستعمار في رقاب شعوب الامة. ولا أخفي أني أحيانا أشفق على من أعلم أنهم مضطرون لذلك إما خوفا أو طمعا. فكلنا يعلم أن البشر ضعاف أمامهما خاصة إذا عندهم ما يخافون عليه (غالب الدعاة من الصنفين الأصلاني والحداثي) أو لهم ما يدعوهم للطمع بسبب حياة بائسة عاشوها في شبابهم أجبرتهم على التكدي والتسول. فمن الصعب أن يقنعني قومي باقتناعه بصف “الممانعة” وهو يرى احتلال أصحابها للأرض العربية والتنكيل بشعوبها دون أن يخفي ذلك في شعاراته وتصريحات قياداته بأنه يسعى لاسترداد إمبراطورية فارس. وما كنت لأقدم على ما كان يمكن أن يعتبر حكما على النوايا لولا هذين الدليلين الدامغين. ولا يمكن أن يقنعني يساري باقتناعه أن اليسارية والتقدمية والحداثة يمكن أن تجعله يحالف القبلية والعسكرية التي تحارب ثورة الشباب وما كنت لأحاكم ما قد يبدو محاكمة للنوايا لو لم نرهم عيانا يتآمرون على الثورة في كل الاقطار التي حدثت فيها وخاصة في تونس ومصر وسوريا. لذلك وبعد كل هذه الأدلة التي لم تبق لأي منهم ورقة توت لم يبق للمرء إلا حل واحد وهو -كما كتبت سابقا-لا معنى لمحاورة هؤلاء الذين باعوا كل القيم السامية مقابل حظ مرتجي لسهم مأمول في حكم الطغاة والفسدة حتى لو لم يتجاوز فتات موائدهم. فكيف يمكن أن يعبأ بهم في معركة مصيرية للاستئناف؟ وأخيرا وقبل البدء في بحثي فإن كل ما يحدث اعتبره زبدا لأني متيقن من أمرين: 1. النصر آت لاريب فيه. 2. كل العملاء وطباليهم سيجرفهم التيار الذي دب في روح الشباب طموحا للاستئناف وعودة الأمة إلى الدور الكوني وفشل محاربي رمزيها: ثورة الشباب بجنسيه ونموذج استرداد الذات وفشل العلمنة القسرية. المحاولة ستعتمد الوصف الأثنوغرافي والتاريخي لشعوب الأمة الإسلامية بصورة وجيزة لنميز بين الشعوب التي ما تزال ترى في الإسلام أساس هويتها ودورها التاريخي والشعوب التي عادت إليها أمراضها التي تقدمت على الإسلام أو التي تتصور نفسها تلته في دار الإسلام المستهدفة من أعدائها بنوعيهم. فأعداء الإسلام والساعين لاستعمار داره نوعان: من الداخل وهم من يريدون طي صفحته عودة إلى ما تقدم عليه في التاريخ أو ما يتصورونه تاليا له ومن الخارج وهم من يخافون من عودته لأنهم جربوا التصدي له فهزمهم طيلة أربعة عشر قرنا وهم اليوم أعجز عن القدرة على منع عودته إلى الفعل التاريخي. ولأعترف بأن هذه المحاولة بدايتها كانت فكرة حصلت لي خلال مقامي بكوالالمبور. فما يميز شعب ماليزيا واندنونيسيا -وقد كان لي كثير من الطلبة من الشعبين-هو أنهم يشعرون بان الإسلام ليس مجرد دين ككل الأديان وعنصرا من الهوية بل هو الهوية الأساسية عندهم بوصفه أساس دخولهم للتاريخ الكوني. وهذا هو المعيار الذي سأستعمله للتمييز بين نوعين من الشعوب الإسلامية وقد يكون النوعان موجودين في نفس الاثنية. مثال ذلك أن العرب نوعان: عرب كانوا تابعين للفرس (المناذرة) ولبيزنطة بعد روما (الغساسنة) وقد دخلوا التاريخ العالمي بوصفهم مستعمرين بل كان أحدهم امبراطورا في روما (من الشام). والنوع الثاني من العرب هم عرب الجاهلية الذين كانوا بنوع ما خارج التاريخ الإنساني العام ولم يصبح لهم تاريخ كوني إلا بفضل الإسلام الذي جعلهم حركة تاريخية حررت الاقليم من الاستعمارين الفارسي والبيزنطي فظهرت فيه شعوب صارت صاحبة تاريخ كوني لم يكن لها ذكر معتبر قبل الإسلام. وهؤلاء هم بدورهم نوعان: بعضهم خضع للاستعمار أو للعبودية من بعضهم الذين انضموا للاستعمار مثل مناذرة العرب وغساسنتهم والبعض ظلوا مقاومين أو خارج التاريخ العالمي مثل الجاهليين من العرب. وهذا يصح على الأكراد والاتراك والهنود خاصة. وهذا النوع من الشعوب هم عماد بقاء حضارة الإسلام. أما من كانوا تحت الاستعمارين الفارسي والبيزنطي أو تحت اضطهاد الطبقية الثابتة من غير طبقة المنبوذين ممن أسلم من الهنود فيراودهم شيء من الحنين لطي صفحة الإسلام والعودة إلى ذل التبعية والعبودية لمن كان سيدا عليهم حتى ولو حافظوا على قشور الإسلام التعبدية الخارجية. والاستئناف لن يحصل إلا بفضل هؤلاء الشعوب الذين يشعرون بأنهم مدينون للإسلام بدخولهم التاريخ الكوني من فاعليه وليس من الخاضعين لتاريخ كوني هم فيه عبيد لغيرهم: العرب والأتراك والأكراد والأمازيغ والملاويين والهنود من الذين لم يكن لهم قبل الإسلام ما يريدون العودة إليه تفضلا له عليه. وطبعا يوجد في كل شعب من هذه الشعوب من تغريهم الفتنة الصغرى (العلمنة) فيحاولون اختراع تاريخ “عظيم” سابق على الإسلام وهم يعلمون أنه كذب في كذب. والمثال الأبرز هو محاولة ادعاء أن الأمازيغ كانوا من الشعوب التي لها تاريخ عظيم قبل دورهم الريادي في حضارة الإسلام. هم أشبه الشعوب الإسلامية بالشعوب العربية في هذا المضار. فمنهم من كان تابعا إما لقرطاج أو لروما وهؤلاء مثل العرب الذين كانوا تابعين لفارس وبيزنطة ومنهم من كان خارج سلطان هذين الامبراطوريتين إما مقاومين أم منعزلين تماما كجاهلية العرب. كلاهما دخل التاريخ الكوني بفضل الإسلام. لكن العلمانيين العرب والأكراد والأمازيغ بحلف مع أحفاد من كانوا تابعين للإمبراطوريتين السابقتين على الإسلام يختلقون هذه الأكاذيب لطي صفحة الحضارة الإسلامية وهم لا يدورن أنهم بذلك يطوون أهم دور لأجدادهم في التاريخ الكوني: فأمازيغ المغارب هم الأساس الأول في حضارة الغرب الإسلامي. وهذا يصح على الأكراد وعلى العرب وعلى الهنود من الذين تعلمنوا وظنوا أن التحديث مشروط بطي صفحة الحضارة الإسلامية. وكلهم ينتسبون إلى ما أسميه الفتنة الصغرى أو العلمنة القسرية ورمزها تركيا أولا وتونس ثانيا لأن بورقيبة كان شديد التأثير بأتاتورك في محاولة طي صفحة الإسلام. ومن يحسن الملاحظة يدرك أن ما يحاوله مراهقو الثورة المضادة اليوم في الخليج لا يختلف كثيرا عما حدث في تركيا أتاتورك وفي تونس بورقيبة وفي كل الانظمة العسكرية التي تدعي القومية في الهلال وفي مصر وبعض بلاد المغرب. الظاهرة واحدة: هدفها بعلم أو بجهل تحقيق ما أهداف حرب الغرب على الإسلام. فالغرب حقق الشرط الضروري بأن فتت جغرافية دار الإسلام ليرسي فيها محميات يسمونها دولا وترك لمن نصبهم على المحميات أنجاز الشرط الكافي أي تفتيت تاريخ الإسلام. فعندما تصبح كل محمية تطلب شرعيتها التاريخية إما مما سبقها أو مما تلاها تطوى صفحة الحضارة الإسلامية فلا تستأنف. وحينها تفهم تركيز الحرب على أمرين: 1. على ما يسمى بالإسلام السياسي أو الأخونة لأنهم رأوا أن الشعب في كل انتخابات حرة ونزيهة يعطيهم الاغلبية لأن الاستئناف من أهم دوافع وخيارات الشعوب مع القيم الحديثة التي لا تتنافي مع قيم الإسلام في الحكم والعدل والعناية بحماية الامة ورعايتها. 2. والتركيز على فشل العلمنة في تركيا أولا ثم في تونس ثم في كل البلاد التي حكمتها أنظمة عسكرية من الجزائر إلى الهلال بشقيه العراقي والسوري وما بينهما في ليبيا ومصر ما يعني عودة تركيا المتدرجة لهويتها الحضارية ومثلها الأنظمة التي علمنت بعنف الدولة هي المشكل الثاني للعملاء والفسدة. وهكذا يتبين أن المشكل لم يعد هل الاستئناف ممكن؟ أو هل هو من أهم مطالب الشعوب؟ هذان السؤالان حسمتهما ثورة الشباب بجنسيه وخيارات الشعوب بعد أن أسقطت الانظمة العميلة وخاصة العودة التركية المتدرجة لذاتها وما حققته من إنجازات أشبه بالمعجزات في التنمية والحداثة. ولذلك فأعداء الامة في الداخل وفي الخارج بات مطلبهم الأول والاخير هو القضاء على ثورة الشباب بجنسيه وعلى تركيا في المقام الاول لأنها أثبتت أمرين: الحضارة الإسلامية غنية عن العلمنة والإسلام يمكن أن يحق شروط التحديث المستقل في أقل من عقدين ما فشلت فيه العلمانية في سبعة عقود. فنفهم حينئذ حرب مراهقي الخليج وحماتهم من الغرب والشرق لأن ثورة الشباب بجنسيه معدية للشباب في كل بلاد الإقليم ولأن نموذج تركيا مطمئن للأمة ومؤيد لتمسكها بالإسلام دون أن يكون ذلك منافيا للتحديث بل هو شرطه إذا كان تحديثا غير تابع ومحافظا على قيم الحضارة الإسلامية.