لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
– الفصل الرابع –
لم يبق إلا أن نجيب عن سؤالين أخيرين لنفرغ من الكلام على النقد التاريخي ودوره الإيجابي.
الأول: ما القصد بالبنية المجردة الثابتة للدولة عامة؟
والثاني: كيف يقع ملء هذه البنية وكيف تطور ذلك بصورة تجعله ملئا يحافظ على البعد الخلقي في إدارة الدولة واستعمال السلطة داخليا ودوليا؟
وبذلك نكون قد أكملنا الكلام على النقد التاريخي وعلى دحض اسطورة الدولة المستحيلة.
خيار إما دولة الأخلاق أو دولة الحداثة طريق مسدودة بالطبع.
وهي مسدودة لأنها خيار بين امرين لا يقبلان الفصل: فلا أخلاق بدون دولة ولا دولة بدون أخلاق. وتحديد بنية الدولة المجردة وشروط ملئها تقدم خلقي.
فلأجب الآن عن السؤال الأول: ما القصد بالبنية المجردة للدولة من حيث الوظائف وليس من حيث الأعضاء التي تحققها والتي يتعلق بها التغير والتطور؟
كل دولة -رغم أنها كيان اعتباري يتعين في الجماعة ليصبح ذا كيان مادي هو مؤسساتها وقوانينها والقيمين عليها- لها خمس مستويات ثابتة من بداية التاريخ.
والمستوى الأوسط هو النظام السياسي أو القواعد العامة وهي عادة عرفية لتنظيم السلطات في الجماعة وتنتج عن مستويين قبلها وتُنتج مستويين بعدها.
مستويان قبلها:
1-المرجعية (دينية أو غير دينية)
2-القوى السياسية (حزبية او غير حزبية).
مستويان بعدها:
4-الوظائف العشر بإدارتها
5-الحاكم والمعارض
والقلب 3- هو نظام الحكم (دستور مكتوب أو عرفي هو نتيجة ما قبله ومقدمة ما بعده) وتلك هي البنية المجردة التي تمثل خانات خالية تملأ بالقيمين عليها.
وما ينبغي إثباته هو ثبات هذه البنية التي لا تخلو منها دولة منذ الفراعنة إلى اليوم (اختار الفراعنة لأن دولتهم من أقدم الدول المعلومة تاريخيا).
العنصر الأول من المستوى الأول أي المرجعية العقدية لا جدال فيه. لكن الثاني منه يبدو مفقودا: هل توجد قوى سياسية؟ نعم هي في هذه الحالة التنافس على الحكم في الأسرة الحاكمة.
الوسط أو 3 مفروغ منه: لا بد من نظام حكم قبلي ملكي إلخ…
4-الوظائف وسأطيل الكلام عليه.
5- الحكم والمعارضة (في الحكم نفسه لطبيعة التنافس)
وما أثبته في الدولة الفرعونية بيّن بنفسه في الدولة الحديثة: فهي بالفعل وصريحة في كل دولة حديثة وهي كذلك صريحة في شكل دولة الاسلام الأخير.
ومن أراد أن يتأكد فليقرأ توزيع سلط الدولة الإسلامية بين الخليفة والسلطان كما يعرضهما ابن خلدون في المقدمة بابها الثالث.
فلنمر للوظائف.
الوظائف عشر حصرا وهي كذلك خانات خالية تتعين بمن يملؤها وهي تنقسم إلى خمس للحماية الداخلية والخارجية وخمس للرعاية التكوينية والتموينية.
وهي وظائف الدولة التي يذكرها القرآن بذكرها وبذكر ما تعالجه من حاجات الجماعة: آمنهم من خوف للحماية الداخلية والخارجية وأطعمهم من جوع للرعاية التكوينية والتموينية.
فالحماية الداخلية هي القضاء والأمن الداخلي والحماية الخارجية هي الدبلوماسية والأمن الخارجي أو الدفاع. وأصلها الاستعلام والإعلام السياسيين.
خانات توجد في بنية أي دولة وتكون إطارا مؤسسيا خاليا يملأ بمن يكلف بهذه المهام أي القضاة والأمنيين والدبلوماسيين والعسكريين والاستعلاميين.
ومهما كانت الدولة بدائية تحتاج للقضاء والأمن والدبلوماسية والدافع والاستعلام والإعلام فالعمل على علم بمعرفة ما يجري في الجماعة وحولها.
كل من يتوهم غياب واحدة من هذه الوظائف لا يدرك معنى الحماية التي هي وظيفة الدولة الأولى. وذكر القرآن لها بعد أطعمهم من جوع ذات علة عميقة.
فالحاجة إلى الحماية علتها الصراع على الرزق ومن ثم فالإطعام من جوع وأسبابه هما علة الحماية داخليا وخارجيا: كلما قل الرزق ازدادت الحاجة إليها.
وإذن فوظائف الحماية علتها حاجة وظائف الرعاية قبل كل شيء: التكوينية بالتربية والمجتمع والتموينية بالثقافة والاقتصاد وأصلها البحث العلمي.
فكل دولة تحتاج لتكوين الإنسان بتربية نظامية وبنظام المجتمع نفسه تحتاج لتموين الإنسان ثقافيا (انتاج رمزي) واقتصاديا: وأصلها البحث العلمي.
الاستعلام السياسي يخص شروط الحماية وأحوال الجماعة داخليا وخارجيا جزءا من البحث العلمي الشامل حول المعرفة العلمية بأسباب الرزق والحماية.
فيكون للمعرفة العلمية دوران: حول علاقات البشر في الداخل والخارج لتحقيق السلم بينهم وحول علاقاتهم بمحيطهم الطبيعي خاصة لتحقيق شروط العيش.
وحتى يتأكد المعاندون فإن الطبقة الدينية في مصر كانت هذه وظيفتها الأولى وخاصة في علم الهندسة والفلك حتى يتحكموا في قسمة الأرض ومياه النيل.
وكنت أتصور ما أقوله عن هذه البنية المجردة الثابتة بديهية وما كنت لأطيل الكلام لم أجابه بتخريف من يتقحم الكلام في علاقة الدولة بالأخلاق.
فالأخلاق مستحيلة التصور من دون الدولة وهي مستحيلة التصور من دون الأخلاق سواء كانت الدولة قديمة أو حديثة وسواء كانت الأخلاق صادقة أو زائفة.
وهذه الوظائف لا تتعين إلا في إدارة بنيتها هي توزيع هذه الوظائف على مساحة الدولة داخليا وعلى حدودها خارجيا وبحسب أنماط العيش فيها وحجمه.
وهذه الإدارة الوظيفية تسيرها الحكومة والمعارضة للإدارة السياسية وذلك بمقتضى نظام الحكم والقوى السياسية والمرجعية المؤسسة للجماعة والدولة.
وسنرى في الجواب عن السؤال الثاني كيف تملأ هذه الخانات البنيوية الثابتة في كل دولة باعتبارها كيانا معنويا هو عين كيان الجماعة الخلقي والروحي.
وقد سماها ابن خلدون بمصطلح فلسفي ليس ارسطيا إلا كلفظ لإفادته معنى غير ممكن لدى أرسطو: فنموذج الدولة الأرسطية هو الاسرة: صورة العمران.
صورة العمران هي نموذج الأسرة المتغيرة بحسب نموذج أعمق يجمع بين شروط الحماية والرعاية: صورة الدولة هي صورة الحماية والرعاية عند ابن خلدون.
أما مادتها فلا تعني المادة الطينة -الهيولا- بلغة أرسطو بل هي شروط المدد الذي يقيم دولة الجماعة بتوفير شروط الرعاية وما تحتاج إليه من حماية.
لذلك اعتبرت وظائف الدولة من الثوابت لأنها تجمع بين القانون الطبيعي (الحاجة للحماية والرعاية) والقانون الخلقي بتقديم الشرعية على الشوكة.
فبما هي شوكة الدولة ظاهرة طبيعية وبما هي شرعية الدولة ظاهرة خلقية. والإنسان قد يضطر للاكتفاء بالشوكة عندما يجوع ويخاف. الشرعية للإنسان الحر.
الجمع بين الضرورة والحرية هو الجمع بين الطبيعة والأخلاق أو بين الطبائع والشرائع. ولا يمكن الفصل بينهما أبدا. وذلك في كل دولة قديمة أو حديثة.
وبهذا المعنى فدولة الفقهاء ليست دون الدولة الحديثة أخلاقا بل هي دون الدولة الفرعونية. ذلك أن طبقة رجال الدين المصرية أو الكتبة كانوا علماء.
كانوا علماء بالدنيا والدين لا مجرد فقهاء يتصورون العلم بالدين ممكن من دون العلم بالدنيا. فلا يمكن أن يكون الإنسان خليفة ما لم يعمر الارض.
والدليل أن أرسطو في المقالة الأولى من الميتافيزيقا (مقالة الالف الكبرى) يعتبر رجال الدين المصريين-ليس دجالي السيسي-هم مؤسسي علم الرياضيات.
وحتى نتحرر من تخريف الدعاة فليعلموا أن صلاح الدين الأيوبي لم يتنصر بالدعاء وإن كان ضروريا رمزا للإيمان بل كان مفتيه من كبار الرياضيين.
فهو واضع نظرية البركار التام الذي يمكن من بناء كل القطوع المخروطية أعني إحدى أهم الإشكالات الرياضية في العلاج الفعلي حتى لترتيب الجيوش.
وكان طبيعة من أكبر الرياضيين الذين هاجروا من الأندلس وهو يهودي أسلم لأنه ربي في بيئة إسلامية يعترف لها بالفضل في ثقافته الدينية والعلمية.
وقد تكلمت أمس على الأهمية الرمزية لصلاح الدين الأيوبي ولم أشر إلى دور الثقافة العلمية التي ساعدت المسلمين على ربح الحرب ضد الصليبيين.
ولأختم بأن دور الأخلاق في الدولة ليس مقصورا على الاعتقاد القيمي بل يمتد إلى أمرين يتناساهما المتكلمون على الأخلاق بغير علم بها وبالإسلام.
فأولا أكبر مقت عند الله القول بلا عمل. والعمل بلا علم مستحيل لأنه خبط عشواء. لذلك فالأخلاق هي العمل على علم لتحقيق مقومي وجود الإنسان الحر.
فالإنسان الحر هو الإنسان المكلف والمسؤول. وهو مكلف بتعمير الأرض ويقيم عمله لبيان أهليته للخلافة بهذا التعمير المشروط بقيم الاستخلاف.
الاقتصار على ترديد الشعارات الإيمانية والخلقية اللفظية ليس دليلا على معرفة بشرع الله بل هو الجهل عينه: فكل عمل ليس على علم فاقد لشرط خلقيته.
إنه أساس تعريف الإنسان في القرآن بدوره في تعمير الأرض وفي المشاركة في رعاية شروط التعمير بقيم الاستخلاف: آل عمران 104-110 لينتسب إلى الخيرية.
وهذا يقتضي التحرر من علتي تحريف العلوم الإسلامية: عدم احترام سابعة آل عمران وعدم احترام فصلت 53. علل الفتن والعلوم الزائفة فكان الانحطاط.
وقد حاولت المدرسة النقدية -الغزالي وابن تيمية وابن خلدون-تحرير الفكر النظري والعملي من العلتين لكن الأمر بم يتغير كثيرا بعدهم فتجمد الفكر.
الكتيب