التاريخ، أبعاده ودلالة نقده الموجب – الفصل الخامس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله

– الفصل الخامس –

ونصل الآن إلى الفصل الخامس والاخير من نقد التاريخ الموجب.
كيف تملأ خانات البنية المجردة للدولة في السياسة الداخلية أو في السياسة الخارجية؟
قوة النظرية الخلدونية وحداثتها العجيبتين تعالج المشكلتين في آن: فما يحصل في الداخل وفي الخارج لملء الخانات المجردة والتداول على السلطة واحد.
وأقصد أنه يخضع لقانون واحد يقبل الرد إلى علاقة التناسب العكسي بين القانونين الطبيعي والخلقي أو علاقة التناسب العكسي بين البداوة الحضارة.
ولعلاقة التناسب العكسي بين القانونين الطبيعي والخلقي وبين شكلي تعينهما البدوي والحضري شكلان في الداخل وشكلان في الخارج وأصل جامع بينها.
ففي الداخل التداول على ملء الخانات عنيف في الأسرة الحاكمة وفي العصبيات المنتسبة لنفس الجماعة.
وبهذين يتحدد عمر دولة أسرية ودولة عامة.
فيتكلم ابن خلدون على دولة العرب وهي جامعة بين دول عربية أسرية تداولت على الحكم إلى سقوط الخلافة العباسية. وهذا تداول داخلي في نفس الجماعة.
وهو تداول عنيف إما بالموت الطبيعي أو بالقتل في الاسرة الحاكمة أو بين العصبيات في نفس الجماعة وفي مثالنا بين عصبيات عربية متحالفة مع موالي.
والمستوى الثاني من ملء الخانات يتعلق بسياسة العالم السياسة الدولية: درجتان بين الدول المتجاورة أو بينها وبين الجماعات البدوية الغازية.
وهنا أيضا المنطق بايولوجي اي إن الملء والتداول يكون بالتنافي الناتج عن قضاء الغالب على دولة المغلوب وأحيانا على وجوده أصلا والفتح عكسه.
فالفتح يمكن أن يقضي على الدولة المفتوحة لكنه لا يقضي على شعبها وعلى ثقافتها التي لا تناقض رسالته. فهو ليس غزو قبائل بدوية بل تبشير برسالة.
وأصل الأشكال الأربعة (اثنان في السياسة الداخلية واثنان في السياسة الدولية) يعرّفه ابن خلدون بما يشبه وحدة الإنسانية بتوارث ما تحققه في التاريخ الكوني.
وهذا التوارث في التاريخ الكوني يتعلق بشكل الدولة كدولة وبوظائفها التي تصبح خبرات مع ثمراتها الحضارية التي تصبح عادات وأعراف للإنسانية.
ولهذه العلة فالتاريخ عند المسلمين -والنموذج هو القرآن-عالمي بالجوهر: تاريخ الأمم المعروفة وما توارثته بعضها عن البعض في العمران والاجتماع.
وفي هذه المستويات الخمسة لابد من وجود صورة نموذجية عن الدولة أو نظام العيش المشترك للجماعة في مقومات الدولة التي أحصيناها في الفصل الرابع.
وتلك هي وظيفة المرجعية التي تمثل هوية الجماعة الروحية وأساس القوى السياسية والنظام السياسي ووظائف الدولة والحكومة التي تعنى بهذه الوظائف.
فحتى الجماعات المتوحشة التي تغزو الدول المتحضرة (المغول ودولة الإسلام) لابد من وجود هذه المستويات الخمسة شرطا لانتظامها كجماعة فاعلة سياسيا.
فالغزو حتى لما يكون بدائيا كما في مثال المغول ضد دولة الإسلام وبرابرة أوروبا ضد دولة روما يعد فعلا سياسيا بالضرورة فغرضه السيطرة على الرزق.
وإذن فهو يرد إلى مشكل الحماية والرعاية: آمنهم من خوف وأطعمهم من رزق. وهوخاضع للقانون الطبيعي وخال من القانون الخلقي الكوني مثل كل استعمار.
وبذلك نميزه عن الفتح: ذلك أن “لكم ما لنا وعليكم ما علينا” تعني الخضوع لنفس القانون الذي تسعى الرسالة لتحقيقه وهو النساء 1 والحجرات 13.
بعبارة أوضح الفتح الإسلامي هدفه تغيير الاصل: من الغزو من أجل الرزق -منطق الجاهلية-إلى نشر رسالة تحرر حرب الرزق بالأخوة والمساواة بين البشر.
فإذا أصلح الأصل يصبح ملء الخانات والتداول على الحكم خاضعا لشرائع تحرر من سلطان الطبائع. ولما أسقطت الفتنة هذا الإصلاح أصبحنا في حالة طوارئ.
وهي حالة دامت منذ نهاية العهد الراشدي إلى الآن. والعرب والمسلمون يحاولون التخلص من حالة الطواري والعودة إلى المبدأ العام: الشورى 38.
ومن علامات التحريف المذكور في هذه الفصول وفيما تقدم عليها في فصول المدخل الخمسة إفساد نظرية الحكم في فهم الشورى 38. وسبق أن شرحتها.
جعلوا أولى الأمر أصحابه فلم يبقى لنسبته إلى الجماعة معنى. وجعلوهم لا يستمدون تكليفهم بالأمر من الأمة بل من الغلبة فصار الأمر الواقع واجبا.
وأسقطوا شرط الطاعة الذي هو لا طاعة في معصية الله بحصر المعصية في العبادات واخرجوا شرط الإيمان القرآن في آل عمران 104-110تحريفا لا شك فيه.
وإذا كان ابن تيمية قد حاول ارجاع الأمر إلى نصابه ببيان أن ولاية الأمر حكمها الأمانة وشرطها العدل (النساء 58) فإن نسبة الأمر في الشورى حاسمة.
فهي تعتبر الجماعة المستجيبين لربهم وتنسب إليهم الأمر (طبيعة الحكم) وتعين إدارته بالشورى (أسلوب الحكم) مفهومان معلومان في فلسفة السياسة.
فنسبة الأمر للجماعة يعني أن طبيعة الحكم جمهوري (أمر الجماعة=راس بوبليكا) وتحديد أسلوبه بالشورى يعني أنه ديموقراطي (شورى بينهم=ديموقراطية).
فيكون النظام الذي تحدده الآية جمهورية ديموقراطية لعلاج مسالتين هما مسألة المرجعية (الاستجابة للرب) وعلة الانحراف عنها (الانفاق من الرزق).
بينا أن الحاجة إلى الدولة علتها الحاجة إلى الحماية بسبب الصراع من أجل الرزق في الداخل والخارج. والمرجع المغني عن العنف غير الشرعي هو الدين.
وهكذا يتبين أن الدولة تصبح لا أخلاقية إذا كان العنف فيها -وهو ضروري وتمثله الشوكة-غير شرعي أي غير خاضع لقانون يحمي الإنسان ويرعى حقوقه.
فيكون وجود الأخلاق في الدولة أيا كانت مرجعيتها دينية أو علمانية هو ما يضفي الشرعية على الشوكة أعني قيام الدولة بدوريها حماية ورعاية.
ولا يمكن الكلام على شرعية في حالة الاستبداد والفساد وعدم ملء خانات البنية المجردة والتداول عليها بمقتضى أحكام الحكم الواردة في الشورى 38.
وكل هذه الشروط مفقودة في دولة الفقهاء بعد الخلفاء الراشدين ولا يمكن الادعاء بأنها خلقية فضلا عن الزعم بأن الاخلاق مفقودة في الدولة الحديثة.
وحتى المرحلة الراشدة فإن ما فيها من رشد كان في من ملأوا الخانات على السليقة ولم يكن لهم الصوغ النظري للبنية المجردة لتجسدها في سنة الرسول.
لذلك تعددت خيارات التداول في الحقبة الراشدة:
1-الانتخاب(الصديق)
2-التعيين (الفاروق)
3-لجنة الانتخاب (عثمان) إلى الانقلاب
4-وعدم الحسم(علي).
لكن المهم أعمق: فالخلفاء الراشدون كانوا واعين بالمشكل ولم يستطيعوا حسم الصوغ النظري للبنية المجردة للدولة رغم تحقيقهم لمقوماتها الجوهرية.
فالمشروع صيغ في حياة الرسول وحكمه والمركز المكاني في حكم الصديق والمركز الزماني في حكم الفاروق ووحدة المرجعية في حكم عثمان. وحصلت الفتنة.
ومنذئذ تعيش الأمة في حالة طواري بسبب الحرب الأهلية بمراحلها المعلومة فحكمت الأمة بسنن الإقليم السارية ولم يكن الإسلام فيها إلا غطاء شكليا.
فالدولة الأموية حكمتها تقاليد بيزنطة وعادات الغساسنة والدولة العباسية حكمتها تقاليد فارس وعادات المناذرة.. وصمد الإسلام في روح الأمة.
ولا يعني ذلك أن الدولتين خرجتا من الإسلام أو كفرتا به، بل هما راعتا ما لا بد منه لتكون إسلامية فلم تمسس العبادات وحافظت على شكليات الباقي.
ولما كنا نعتقد أن الدولة من حيث هي دولة لها مقومات لا تخلو منها دولة فإن المشترك بين بيزنطة وفارس ودولة الإسلام أي الحماية والرعاية بقيتا.
صحيح أنهما لم تكونا مطابقين لشروط الشريعة الإسلامية في مسألة الحكم والتداول عليه. لذلك قلت إن دولة الفقهاء أقل خلقية من الدولة الحديثة.
فما تسميه الدولة الحديثة حقوق الإنسان يسميه الإسلام أخلاق الشريعة التي هي ما يبرر الأحكام الشرعية والتي من دونها يصبح القانون تحكما بشريا.
ولا يهم من يضع القانون المهم هو توفر الشروط الخلقية التي تجعله قانونا بمقتضى ما حدده القرآن من أخلاق للحكم في الجماعة الحرة: الشورى 38.
ولن أطيل في هذه المسألة فقد خصصت لها بحوثا عدة يمكن لمن يريد المزيد أن يعود إليها وهي من جنس في فلسفة العلاقة بين القانون واساسه الخلقي.
هل معنى كل ما تقدم أن الدولة لم يتغير منها إلا الأعضاء مع ثبات منظومة الوظائف البنيوية؟
هل مقومات الدولة من جنس مقومات الكائنات الحية؟
فتكون وظائف الدولة وما به تنتظم حياة الكائنات الجماعية الإنسانية بالشرائع من جنس وظائف الحياة وما به تتقوم حياة الكائنات الحية بالطبائع؟
ومعنى ذلك أن تعاقب الأجيال في الكائنات الحية هو الذي يبقي على ثبات وظائف الحياة وتغير حواملها العضوية التي تمثلها الأجيال بأدائها للوظائف.
وصفنا بنية المقومات والوظائف الثابتة في الدولة وهي بنية آلية ليست عضوية والمقارنة بالكائنات الحية لا تصح عليها إنها جهاز صناعي وليس طبيعيا.
وهو جهاز آلي يصبح قابلا للمقارنة مع الكائنات الحية لأن بقاءه مثلها يحتاج لتوالي الأجيال من القيمين عليه والمؤدين لوظائفه بقدرات مختلفة.
وحينها يظهر بعدا العامل الخلقي في الدولة: فخلال قيامهم بوظائفها المحددة في بنيتها المؤسسة والقانونية تبرز نقائص البنية ونقائص أداء القيمين.
ولذلك فالتاريخ هو الذي يمكن من تجويد البنية التي هي واحدة بالقوة ومتعددة بالفعل لأن ما ينقصها يكون حاضرا بغيابه أو يفرضه ما يفيده غيابه.
ويكون تجويد البنية المجردة هادفا كذلك إلى الحد من تحكم القيمين فيتحسن البعد الخلقي من الأداء.
فتحضر الأخلاق مرتين في البنية وفي القيمين.
فتصبح الدولة شبه كائن حي. فالاستكمال المتدرج للبنية الواحدة بالقوة والمتعددة بالفعل هو تاريخها انتقالها من القوة إلى الفعل: الدولة الحديثة.
الدولة الحديثة ثمرة دور الجماعة في تحسين وظائفها لضبط العلاقة بين الضرورة والحرية (الطبيعة والثقافة) إنها أتم أشكال الدولة وأكثرها خلقية.
فما الطبيعي الضروري في الدولة وما الثقافي الحر فيها؟
حدد ابن خلدون علل الحاجة إلى الدولة فردها إلى خاصيتين تبدوان متنافيتين في كيان الإنسان
فالتعاون من اجل العيش (علة الاجتماع) والطابع العدواني في الإنسان (امتداد اليد لمال الغير) يجعلان الجماعة بحاجة حل للمشكلتين معا: النظام الوازع.
الحاجتان طبيعيتان والحل المضاعف (تعاون + وزع) ليس طبيعيا بل هو صناعي: هو الدولة أو الوازع الأجنبي. لكن هذا الوازع لا ينبغي أن يبقى أجنبيا.
وذلك هو دور التربية. تعلل هذا النظام بمرجعية خلقية تكون دينية في الغالب أو حتى أسطورية وهي بتدريج تصبح عقدا في الجماعة: شرعية واعية بذاتها.
ونظرية العقد قرآنية وهي في مقدمة ابن خلدون مخمسة الأبعاد:
– اثنان عقليان معيارهما مصلحة دنيوية
– واثنان دينيان بإضافة مصلحة الأخرى وطرف ضامن الله.
والأصل هو كل ذلك مجتمع في هذه العلاقة بين الضرورة الطبيعية للاجتماع للعيش والامن أو للرعاية والحماية وظيفتي الدولة حلا سياسيا خلقيا.
والحصيلة أن دولة الفقهاء ليست هي دولة الإسلام التي يمكن استخراجها من القرآن الكريم. وأن هذه قريبة من الدولة الحديثة رغم عدم صوغها الشكلي.
كما أن الأخلاق ملازمة للدولة من حيث هي دولة في بنيتها المجردة في القيمين عليها. وعندما تنخرم البنية أو القيمون عليها تفسد الأخلاق فيها.
لكن فسادها لا ينفي عنها كونها أخلاق بدليل أنها تدعي الخلقية ولو نفاقا وفي ذلك اعتراف بضرورة البعد الخلقي للدولة ولو نفاقا وحاجة للإصلاح.
ورمزية الدولة الحديثة أنها في إصلاح دائم لأنها تقول بما يشبه مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لحق الجميع في النقد والمعارضة والتداول.
أما دولة الفقهاء فخالية من ذلك لأن التداول يكون بالغلبة والبقاء بها وكل شيء خاضع للقانون الطبيعي ودور للقانون الخلقي يرد للتبرير البعدي.

الكتيب

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي