لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
– الفصل الثاني –
في هذا الفصل الثاني من التاريخ أبعاده ودلالة نقده الموجب، انتقل من تعريف أبعاد نموذج الوجود الجمعي في الإسلام إلى نقد النقد الذي يفرض عليه حاليا.
ذكرت الدعشنات الخمس التي تدعي نقد نموذج الوجود الإسلامي فتخرب الحصانة الروحية للفرد والأهل والجماعة الوطنية والأمة والإنسانية في حضارتنا.
ولن أستطيع نقد هذا النقد المدعشن باسم كاريكاتور التأصيل (داعش التي تدعي الخلافة) وباسم كاريكاتور التحديث (نظيرتها التي تدعي العلمانية).
ثم الاستعمار وذراعاه إيران وإسرائيل، ثم الأنظمة العربية التي تحارب محاولات الشعب للتحرر من الفساد والاستبداد والتحرير من الذراعين والاستعمار.
كل هؤلاء يحاربون الإسلام والنموذج الذي يقدمه لحياة الإنسان فردا وأهلا وشعبا وأمة وإنسانية ولا يمكنني أن أنقد نقدهم ما لم أبين هذا النموذج.
والاعتراض الاول هو: هل يحتاج نموذج الإسلام للبيان؟
ألا ترى حال الأمة؟
ألم يفقدها نظام تربيتها وحكمها معاني الإنسانية فانحطت أسفل سافلين؟
وطبعا يكون كاذبا كل من ينفي حجج هذا الاعتراض ولم يبين علاقتها بما وصفناه من تحريف في علوم الملة خصصنا له خمسة فصول بعنوان مدخل لإصلاحها.
ففصول المدخل جزء لا يتجزأ من الرد على هذا الاعتراض الوجيه. ولم يبق إلا أن أبين الطريقة التي حصن بها الإسلام نموذجه وأفسده نظام الحكم والتربية.
وهذا البيان فيه رد حاسم على زعم الدولة الإسلامية الفقهية أخلاقية بخلاف الدولة الحديثة التي تنفى عن الأخلاق لكليانيتها (الدولة المستحيلة).
ذلك أن الدولة الفقهية في واقع أمرها مختلفة تماما عما هي في نصوص الفقهاء في واجبه. ليس كل ما يقوله الفقهاء هو ما يعملونه وليس ظاهرة كحقيقته.
وهذا الاختلاف بين واجب الأمر وواقعه هو الذي يكذب استقلال التشريع الفقهي والمجتمع المدني عن السلطة السياسية: كحال فقهاء عصرنا مع حكامه.
فما لا يرى فيه الحاكم معارضة لإرادته ينكر للفقهاء حرية ادعاء التشريع باسم رب العالمين. أما ما لا يماشيها فهم مستعدون لتطويع التشريع لخدمته.
والاستثناء الذي يوردونه-مثل العز-شاذ يحفظ ولا يقاس عليه ولا يدل على استقلال الفقه. والقيمون على الأوقاف لا يقلون عن الحكام استبدادا وفسادا.
ونظرية فوكو في فشو السلطة لا ينفي حجتي بل هو يدعمها في الدولة كدولة دائما. فمن بيده القوة والسلطة والمال يحكم كل من يحكم: سر فشو السلطة.
وقد وفقني الله لاكتشاف سر العلاج القرآني لهذا الفشو بصورة تجعله رحمة لا نقمة. ذلك أنه لا يمكن تصور سلطة من دونه إذ هو من جوهرها بل هي هو.
فكل سلطة قوة وكل قوة تتمدد ما أمكن لها التمدد حتى تتوقف قوتها عن التأثير بذاتها أو بما يعترضها من قوى أخرى جنيسة أو حائلة دونها والتمدد.
وإذا لم نكتشف الحل الإسلامي لهذه الحقيقة التي تمثل القانون الطبيعي بقي الإنسان ضمن الظاهرات الطبيعية فلا يسمو ليرتقي إلى الظاهرات الخلقية.
والارتقاء إلى الظاهرات الخلقية سره الوعي الحاد من الظاهرات الطبيعية بالشرائع وضعية كانت أو دينية باعتقادها من إرادة إلهية فيؤمن بقدسيتها.
وحتى عندما تكون وضعية فهي ليست نزوات إرادية بل يكون واضعها مؤمنا بأنها ثمرة اجتهاد عقلي يحرر من القانون الطبيعي لأنها ثمرة عودة واعية بها.
ومن ثم فالشرائع إذا توفرت فيها حقيقة الشرائع تكون متماثلة سواء كانت دينية أو عقلية لأنهما كلتاهما تعتمدان على ما في الإنسان قابلية للتكليف.
وهو الفرق بين القانون الطبيعي والقانون الخلقي. والتربية والحكم ينكصان إلى القانون الطبيعي لأن الاستبداد بهما يجعلهما وازعا أجنبيا لا ذاتيا.
والمقابلة بين الوزعين سر اكتشفه ابن خلدون وعلل بالوزع الأجنبي (غير ضمير الفرد) ما سماه بالعنف المفسد لمعاني الإنسانية في الفرد والجماعة.
وتحريف الشرائع هذا-جعلها تؤثر كوازع خارجي-يحصل في كل دولة استبد بالحكم والتربية فيها فئة حصرت السلطان فيها وجعلت من عداها أدوات تابعة لها.
وليس هذا من جوهر الدولة بل من فسادها كما بينت آل عمران التواطؤ بين المستبدين بالحكم (القوة المادية) والتربية (القوة الرمزية) لإفساد الشرائع.
وذروة التواطؤ تأليه المسيح لتأسيس الوساطة الكنسية فيتقاسم السلطان الفاسد اصحاب الحكم وأصحاب التربية في دولة فرعونية هامانية رمز التحريف.
والرمز عبارة “اعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر”. وطبعا الشرائع سواء كانت إيمانية أو دينية كلها لله بمعنى أنها للقيم المتعالية التي نقدسها.
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}. آل عمران 79
إنه الرد على التواطؤ بين فرعون وهامان في كل دولة دينية أو علمانية. يؤثنون أصلا يؤسسون عليه التواطؤ بين ممثلي وجهي السلطة المادي والرمزي.
كيف يحدث هذا التواطؤ بين من يستبدون بالسلطة المادية (الحكم) وبالسلطة الرمزية (التربية)ليحصل النكوص من القانون الخلقي إلى القانون الطبيعي؟
لما كان القرآن قد درس هذه الإشكالية فهو قد قدم لها الحل الذي حال تحريف علوم الملة واستخراجه وسعى نقدة التحريف لتحديده حتى وإن لم يوفقوا.
لم يكن الفشل كليا فابن خلدون في ثنايا بحثه في الحكم والتربية وابن تيمية في رده على وحدة الوجود والغزالي رده على الباطنية اقتربوا من الحل.
والحل متصل مباشرة بتطبيق مبدأ تقسيم العمل على كل المهام التي من دونها لا يمكن للإنسان أن يكون أهلا للتكليف والاستخلاف: الصفات المقومة الخمسة.
فوجها السلطة الفاشية في الجماعة متعينان في الحكم (الوزع الأجنبي) وفي التربية (الوزع الذاتي). والتحريف ينتج عن استبداد البعض بهما دون البقية.
وليجنب الإسلام الإنسانية هذا الداء جعلهما فرض عين فهما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين بل هما عين تعريف المؤمن (آل عمران 104-110).
ويبرز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الوزعين الأجنبي (الحكم) والذاتي (التربية) في الصفات المقومة للإنسان الخمس وهي قبس من الروح الإلهي.
إنها: الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود. إنها مقومات ذاتية للإنسان من حيث هو فرد. وللجماعة منها نصيب صالح لجمعها أو طالح للمستبدين بها.
ففي الحكم والتربية لا بد أن يحضر الفرد والجماعة تعبيرا عن الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود حتى تكون الجماعة سيدة ذاتها أي جماعة أحرار.
لكن إذا تقاسم المستبدون بالحكم والمستبدون بالتربية التعبير عن الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود واستبعدت الجماعة كنا في مجتمع عبيد.
حُرّف التعبير عن الإرادة في الحكم بأن أفقدوا البيعة بعدها الجوهري (أن تكون حرة) والشورى دورها (أن تكون مقررة) وأصبحتا شكلتين فاقدتين لدورهما.
وحرف التعبير عن العلم بأن حصر الاجتهاد في “العلماء” فألغي التشجيع على جرأة البحث من خلال اعتبار الخطأ فيه مأجورا إذا كان قصده لطلب الحقيقة.
فكاد البحث العلمي أن يحرم بتحريم جرأة الاجتهاد وتعويضه بالتلقين وبسلطة المشيخة. لكن الإسلام لا يعترف بسلطة لغير القرآن والسنة واخلاص النية.
وكما يعتبر الإسلام الإرادة والعلم شأنا جماعيا وفرض عين فكذلك يعتبر القدرة: سواء تمثلت في الاقتصاد أو في الدفاع. فكلاهما شأن جماعي وفرض عين.
وكذلك الشأن بالنسبة إلى الحياة أو الذوق سواء تعين في أنماط العيش أو في الفنون فهي ما لخصه ابن خلدون في مفهوم جدير بالاعتبار: الأنس بالعشير.
فالغاية الأسمى من الفنون الجميلة هي تحقيق الأنس بالعشير أي ذوق العيش المشترك في الجماعة من حيث هي كائنات واعية بمعاني الوجود وقيم الجمال.
أما صفة الوجود هي التي تعبر عن رؤى الوجود والعالم وهي المشترك بين البشر كخلفاء لهم الإرادة والعلم والقدرة والحياة لتجاوز الضرورة بالحرية.
والحرية التي هي شرط التكليف هي ما لأجله اعتبر آدم جديرا بالاستخلاف رغم حجة الملائكة التي لم ينفها الله عندما استخلفه وأجل ابليس ليوم الدين.
تلك هي المعاني التي أصبحت غائبة بسبب التحريف الذي طرأ على علوم الملة والتي حاول الغزالي وابن تيمية وابن خلدون بعملهم النقدي تحريرها منه.
ومجرد بيان هذه المعاني هو نقد للنقد الذي يمثله الدواعش الخمسة فهم لا يريدون إصلاحا بل مزيد التحريف بالميت من الحضارتين الإسلامية والغربية.
أنهي كلامي على نقد التاريخ ودلالته الموجبة بحثا عن إصلاح علوم الملة وشرائعها التي بها تستأنف دورها أعني الحكم والتربية في دولة الإسلام.
لكني في آن أكون قد أضفت عنصرا مهما في نقد خرافة الدولة المستحيلة: ما أقوله ليس خاصا بدولة دون أخرى. فهي جوهر السلطان الفاشي في كل جماعة.
والفشو السلطاني في الجماعة إن لم يكن موزعا بالعدل بينها ليسهم الجميع في إرادتها وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها يصبح استبدادا وفساد شرائع.
فالقرآن من ألفه إلى يائه ليس هو إلا علاجا لهذه القضية حتى إنه يعرف الإيمان بها (آل عمران 104-110) فالآخرة تقييما لأعمال الدنيا وجزاء عليها.
وأفهم جيدا ألا يدرك الكثير دلالة مثل هذه المعاني التي يمثل غيابها علة كل المآزق التي تعاني منها الامة: ويمكن ارجاعها لمربع الأنصاف التيمي.
ومربع الأنصاف التيمي: نصف الفقيه يفسد البلدان ونصف المتكلم يفسد الأديان ونصف الطبيب يفسد الابدان ونصف اللغوي يفسد اللسان.
وغالبا ما يكون هؤلاء الأنصاف خدم وطبالين للربع السياسي الذي يفسد معاني الإنسانية بحكم مستبد وفاسد يحيط نفسه بتربية هدفها جعله طبيعة ثانية.
تلك هي الحال التي وصفها الغزالي الذي انطلق من أنصاف مثقفي عصره وواصلها ابن تيمية وابن خلدون في كلامه على الاستبداد والفساد وتخريب البلاد.
فقد بيّن أن فساد معاني الإنسانية الخلقية والمدنية وحتى النفسية مردها إلى فساد الحكم والتربية المستبدين وهما وجها سياسة يعارضها الإسلام.
والحرب على الإسلام علتها هذه المعارضة للسياسة بوجهيها الحكمي والتربوي المفسدين لمعاني الإنسانية سواء في كل دولة على حدة أو في العالم كله.
لذلك فلا بد أن تكون الحرب على الإسلام عالمية: ذلك أن حلوله ليس محلية ولا اقليمية ولا خاصة بالمسلمين بل هي تشمل من يخاطبهم {يا أيها الناس}.
وهي تشملهم بمعنى النساء 1(الأخوة البشرية) والحجرات 13 (المساواة بين البشر) وهما شرطا تحرير البشرية من أدواء عولمة الدواعش الخمسة.
الكتيب