لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
– الفصل الثالث –
ونصل إلى الفصل الثالث في نقد التاريخ موجبه.
هل تحريف السياسة ببعديها حكما وتربية ظاهرة خاصة بدولة الإسلام؟ أم هي أفسدت الدولة الحديثة كذلك؟
فما يتهمه القائلون بالدولة المستحيلة هم كاريكاتور الحداثة الخالط بين دولتها وتحريفها الاستعماري. والدليل رأي مؤسسي الحداثة ونقادها الحاليين.
فالقائل بأخلاقية الدولة الفقهية ونفيها عن الحديثة يقع في خطأين: يخلط بين دولة الإسلام وكلام الفقهاء وبين دولة الحداثة وأفعال الاستعمار بها.
فما يقوله الفقهاء يبدو مطابقا لحقيقة الدولة رغم كونه يستند إلى كذبتين بينتين لمن يعلم التاريخ جيد العلم: لا سلطان للفقهاء مستقل عن الحكام.
وسأستعمل نظرية المقاصد التي لا أقول بها لأدحض هذه الكذبة: هل يستطيع الفقيه منع الحاكم من مصادرة الملكية الخاصة؟ أومن الإكراه في الدين؟
هل يستطيع فرض حرية العقل؟ أو حماية العرض؟ أو حماية الحياة؟ كان السلطان -وهو صاحب الحامية العسكرية-يفعل ما يريد والفقيه يبرر كما نراهم الآن.
وإذن فهذه الكذبة التي تدعي أن المجتمع المدني كان مستقلا بالسلطتين الرمزية والاقتصادية من أوهام الخلط بين القول والفعل في عمل الفقهاء.
ومثال العز بن عبد السلام حالة شاذة لا يقاس عليها وحتى هي فهي قابلة للمبدأ الذي كان عاما: كانت سياسة الحكم في الحرب بحاجة لوساطته الشعبية.
هي إذن كذبة تصدق خدعة سياسية: كلما احتاج السلطان السياسي للسلطان الرمزي يضخم دوره وهذه القاعدة صحيحة دائما في أي حكم دينيا كان أو علمانيا.
الكذبة الثانية تتعلق بالدولة الحديثة.
فسواء نظرنا في الفلسفة التي تؤسسها أو في محاولات إصلاح تحريفاتها الحالية نجد الهم الخلقي هو الأساس.
فما يبدو من ذرائعية وماكيافيلية في العمل السياسي ذاتي للسياسي عامة وهو في نفس الوقت موضوع نقده حتى من السياسيين: فمفهوم المعارضة مبني عليه.
ومؤسسات المعارضة جزء لا يتجزأ من الدولة الحديثة -لم يكن ذلك متيسرا في الدولة الفقهية-ولذلك فهذا البعد الخلقي مقوم ذاتي للسياسي فيها.
لكن الأهم من ذلك كله هو أن محاولات إصلاح الديموقراطية الحديثة وخاصة منذ عزوف المواطنين على المشاركة في الانتخابات يميل إلى جعلها فرض عين.
فالديموقراطية المباشرة بديل من ديموقراطية التمثيل حلا للعزوف عن الانتخابات يعود إلى الحل الإسلامي بتعريف الإنسان بدوره في الشأن العام.
فيكون ما يعرف به الإسلام المؤمن بدوره في دولته هو ما يعرف به الفكر الحديث المواطن بدوره في دولته: كلاهما يعتبر دوره فرض عين مقوما للسلطة.
وهذا التعريف هو ما خانه التصور الفقهي الوسيط من دولة الإسلام وما خانه التصور الاستعماري الحديث من دولة الحداثة: كلاهما حرف حقيقة الدولة.
وكلاهما من ثم نزع منها البعد الخلقي ولم يبق فيها إلا البعد الطبيعي (الشوكة) جاعلا من البعد الخلقي (الشرعية) مجرد إيديولوجيا خطاب كاذب.
القائلون بالدولة المستحيلة يصدقون كذب الفقهاء في الكلام على أخلاق دولتهم وينقدون كذب الساسة في الكلام على أخلاق دولتهم: وهذا ليس من العدل.
فكل دولة من أقدمها إلى أحدثها إذا نظر إليها طبيعيا كانت الشوكة ومقدمة وهي سر الاستبداد والفساد وإذا نظر إلى محاولة تحريرها قدمت الشرعية.
وبهذا المعيار فالدولة الحديثة أكثر خلقية من دولة الفقهاء. وذلك لعلتين: الوجود الفعلي للمعارضة وتقييد سلطان الحكام بمؤسسات تحمي المواطن.
وهذان الامران لا وجود لهما في الدولة الوسيطة إسلامية كانت أو مسيحية أو وثنية. لذلك فكل ما يقال عن الدولة المستحيلة علته أحكام مسبقة سطحية.
وأي دراسة جدية للأمر كما يتحدد بطبيعته أي بآليات فعله وانفعاله وبمستويي وجوده كبنية عامة ذات خانات مؤسسية وكتعين في أشخاص تملا تلك الخانات.
ذلك أن الأخلاق تحضر في الدولة مرتين:
1-بنيتها كمنظومة مؤسسات أو أجهزة تحقق بها الدولة وظائفها العشر.
2-تعين البنية بأشخاص بيدهم سلط الدولة.
وفي منظومة البنية السياسية للدولة الحديثة المعارضة والاعلام ودور الشعب ذات تأثير فعلي في السلطة فتحد من إطلاقها وتقيدها بخلاف دولة الفقهاء.
والأشخاص الذين يملؤون هذه المؤسسات لفترة في الحكم يحتاجون للحد من تسلطهم خوفا من فقدان السلطة وطمعا في العودة إذا فقدوها بحكم التداول.
فإذا أضفنا أن حقوق المواطن السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية صارت من وظائف مؤسسات الدولة المقيدة بقوانين علمنا الدور الخلقي.
لذلك لم أفهم عناد من يريد أن يعتبر الاحكام المسبقة للكاريكاتورين من الإسلام والحداثة حكما في النظريات السياسية والخلقية بمنطق بوكو حرام.
دولة الإسلام بعد تخليصها من كاريكاتور داعش عنها لا تبعد كثيرا عن دولة الحداثة بعد تخليصها من كاريكاتور الاستعمار عنها: لا بد من شوكة شرعية.
والشوكة ضرورية للحكم السياسي لكنها تستمد شرعيتها من الأخلاق فعلا وثمرة: والفعل هو دور المؤمن في دولة الإسلام ودور المواطن في دولة الحداثة.
حقوق الإنسان وكرامته وحريته. ومن لا يسهم في قيام الدولة بالعناية بالشأن العام وبالأخلاق العامة لا يمكن أن يعتبر إنسانا حرا.
لا أعجب من عدم مثل هذه الحقائق اللطيفة. فالخروج من حجب الإيديولوجيا ليس في متناول أي إنسان لان التحرر من الأحكام المسبقة مهمة شديدة العسر.
ما أعجب منه هو محاولة إضفاء الصبغة الأكاديمية على الاحكام المسبقة وإهمال شرط المعرفة العلمية الوثيقة: فالدولة كيان من طبيعة طبيعية وخلقية.
والطبيعي فيها أنها لا تقوم من دون شوكة أي قوة مادية سماها ابن خلدون بالوازع الأجنبي وقوة خلقية سماها ابن خلدون بالوازع الذاتي (الضمير).
ولذلك فحتى أعتى الأنظمة المستبدة تبقى بحاجة إلى ما يغطي عن طغيانها فتستعمل الكذب سواء كان فقهيا أو علمانيا لإضفاء الشرعية على أفعالها.
وهذا التبرير المشرع للطغيان يغلب على دولة الفقهاء أكثر من غلبته على الدولة الحديثة مهما استعملت من بروباجندا لوجود المعارضة والاعلام.
وهذه الحروز الحائلة دون الطغيان المطلق لم تكن موجودة في دولة الفقهاء وهي موجودة حتى في دولة بشار والسيسي رغم غلبة الطابع الشكلي عليها.
فإذا أضفنا أن هذه الحروز صارت دولية تبين أن الدولة الحديثة رغم أدوات سلطانها العلنية والسرية تبقى أقرب بالفعل إلى الأخلاق من دولة الفقهاء.
وما يعاب على الدول الحديثة في سياسة العالم الاستعمار لا الحداثة: ازدواجية المعايير. ما تطبقه في الداخل يحترم تلك الحروز أما في الخارج فلا.
وبهذا تتميز عليها دولة الإسلام التي لا تمثلها دولة الفقهاء التي حرفتها: فهذه الدولة ترفض المعايير المزدوجة بمقتضى النساء 1 والحجرات 13.
تلك هي العناصر التي كان ينبغي أن أضيفها نقدا لنقد الإسلام ونظرياته في الدولة ببعديها حكما وتربية أو بعاملي فعلها شوكة وشرعية.
والله الموفق.
الكتيب