لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
لما كتب نيتشة كتابه تأملات غير مناسبة للعصر كان قصده بيان فائدة النقد المتجاوز لحصر المثال في تعيناته التاريخية.
-Unzeitgemäße Betrachtungen-
فأهمية التاريخ للحياة لا تنحصر في دوره النموذجي والنقد التاريخي يمكن من تجاوز هذا الدور الذي يحول أحيانا دون فتح آفاق الجماعة وتطورها.
وهو يثبت أن دور النقد قد يكون هداما ومؤلما لأنه يزيل دفق الحياة ما يكلسها ويحول دون عنفوانها فالنقد ما فيه من تهديم يزيل الميت ويحرر الحي.
لكن البعدين الآخرين من التاريخ-المتحفي (علاقة عاطفية بالتاريخ) والمعلمي (دور نموذجي للتاريخ) -يبقيان ضروريين لأن النقد يحررهما من ضيق الأفق.
وبهذا المعنى كتبت الفصول الخمسة في علوم المدخل لعلوم الملة: فالنقد فيها هدفه إحياء المتحفي فمحبته دون عبادته تجذير لعروق الجماعة في تربتها.
والمعلمي المصحوب بالنقد المنهجي يبقي على الدور النموذجي لكنه لا يؤلهه فيصبح المستقبل مجرد محاكاة لبطولات الماضي بدلا من تجاوزها إلى الأفضل.
والحصيلة هي أن نظرية نيتشة في التاريخ (وهي أول نص نقلته إلى العربية سنة 1974 مع التنوير لكنط) بحاجة إلى إضافة تكمل هذين البعدين للتاريخ.
فيكون التاريخ: متحفي ومعلمي ونقدي عامة ثم نقدي للمتحفي وللمعلمي. لكن الغاية تبقى ما عناه نيتشة أي من أجل تطور الحياة وتوسيع الآفاق بتجاوز.
وهنا يكمن الخلاف معه: فالتجاوز لا يمكن أن يكون مقصورا على اللامتناهي الزائف. فالاكتفاء بالآفاق المتناهية من إرادة القوة مآله اليأس الوجودي.
واليأس الوجودي يؤدي إلى الرؤية العبثية التي تنتهي إلى رد التاريخ الإنساني إلى تاريخه الطبيعي فيكون المتحفي والمعلمي والنقدي داروينية عامة.
وهذا هو الدرس الذي مكن ابن خلدون بوضع فلسفة التاريخ في علاقة بفلسفة الدين دون نفي دور التاريخ الطبيعي من تقديم حل يناسب الرؤية القرآنية.
في الفصول الخمسة التي عالجت فيها علوم الملة لم أبحث في قضيتين ذاتي علاقة بنفس الإشكالية ولكن في مجالين آخرين: الآداب ونموذج الحياة.
والسؤال: هل النقد في الفنون العربية عامة والآداب خاصة وفي نموذج الحياة الفردية والجمعية يكون بتوثين واقعين واعتبارهما مثالين أعليين؟
وهنا أجد تشابها بين موقفين:
1- موقف داعش من التراث الإسلامي المادي.
2- موقف من يسمون مجددي الآداب العربية من التراث الغربي: توثين لماضيين.
كلاهما يهدم كل تراث يختلف عما تحقق عيني مما يعتبره مثالا أعلى: داعش تهدم كل تراث غير إسلامي والحداثيون يهدمون كل تراث غير غربي: توثين نموذج.
لكن الادهى من هذين الفهمين المحرفين للنقد والجامع لهما هو النقد الذي يفرضه حامي الأنظمة العربية عليها من ضرورة تنقية الإسلام مما لا يرضى عنه.
إنها داعشية امريكية تؤديها نزعة تزعم نفسها تجديدية عند ليبراليي العرب وعلمانييهم وملحديهم وخاصة ذوي التقية من النخب الباطنية في دار الإسلام.
فلا هو نقد ولا تجديد إنه تهديم نسقي هدفه تهديم آخر حصون الأمة الروحية حتى تصبح عزلاء ماديا وروحيا لنقل احتلالها من الأمر الواقع إلى الواجب.
والأخطر من داعش وأنصاف المثقفين الذين يدعون التجديد وما يفرضه الحامي على الأنظمة هو ما يقابل ذلك كله فينفي ضرورة الإبداع والتجاوز الدائمين.
والذين يؤيدون التدخل الأمريكي في نظام التعليم لضرب آخر حصون المناعة الروحية للأمة لا يفسدون الإسلام فحسب بل يفسدون الإصلاح وهو المستهدف.
وبذلك فنحن في وضعية شبيهة جدا بالوضعية التي دفعت الغزالي لكتابة تهافت الفلاسفة. فهو صريح في أنه لا يرد على الفلاسفة بل على أنصاف المثقفين.
ذلك أنه لا أحد وصل إلى واحد في المائة من نقد الغزالي لعلوم الملة في أحياء علوم الدين. وهدفه الإصلاح وليس التهديم. ونريد مواصلته قدر المستطاع.
وبعد كلامي على علوم الملة الخمسة (اثنان نظريان الكلام والفلسفة واثنان عمليان الفقه والتصوف وواحدةأصلها تفسير القرآن) أمر إلى الآداب ومثال الوجود.
وطبعا فكما نقدت علوم الملة وخاصة مزيفها فلست أرفض نقد الفنون الأدبية ونمط الوجود وتجديدهما. لكن النقد لا يستبدل أمرا واقعا بأمر واقع آخر.
فهذا ليس نقدا بل هو تقليد. النقد هو محاولة تجاوز أمر واقع بفتح آفاق ترينا ما يتجاوز به المثال الأمر الواقع فيوسع الاختيار في مساحة الحرية.
ومن يستعيض عن أمر واقع بأمر واقع آخر سواء كان من ماضينا أو من ماضي الغير لا يوسع مساحة الحرية ولا يفتح مجال الاختيار بل هو خاضع لحكم مسبق.
وإذن فهو عديم الفكر النقدي والروح النقدية حتى في بعدها الهدام ناهيك عن البعد البناء الذي يتجاوز مرحلة استبعاد الميت لفتح آفاق الوجود الحي.
أعود لأقول إن كيان الأمة الروحي الديني والفني ونمط الوجود الجمعي والفردي كل ذلك يتعرض لوحشية تتجاوز وحشية المغول: خمسة أصناف من الدعشنة.
الدعشنة المتعارفة ثم دعشنة أدعياء التجديد بالتقليد والتدخل الأمريكي والتأييد الليبرالي والحملة الباطنية على تراث الأمة المادي واللامادي.
وإذا كان التهديم النسقي للتراث اللامادي غير بين للعيان فاقدة البصيرة فالتهديم النسقي للتراث المادي بين فيما جرى ويجري في العراق والشام.
والتهديم يريد الآن ضرب العروق الروحية للحضارة الإسلامية بفرض نموذج تربوي وتنقية المصدرين مما لا يرضى عنه أعداء الامة في الداخل والخارج.
وفرض هذا النموذج لا يهدف إلى اصلاح التربية حتى تصبح اساس التكوين المحقق لشرطي قيام الإنسان السوي: شروط الاستعمار في الأرض وشروط الاستخلاف.
فالإصلاح السوي لا يمكن أن ينصح به الاستعمار ولا أدعياء العلمانية والليبرالية وخاصة الباطنية. وهو سابق الوضع في أعمال ثالوث المدرسة النقدية.
وثالوث المدرسة النقدية للتذكر مؤلف من الغزالي وابن تيمية وابن خلدون. وثلاثتهم انطلقوا من نقد علوم الملة لتحريرها من الزيف وعلل الانحطاط.
لن أتكلم في تجديد الشعر والادب لأني كتبت في ذلك الشعر المطلق وابن خلدون لم ينتظر أحدا ليكتب في الشعر فضلا عن شروح فلاسفتنا لكتاب أرسطو.
سأكتفي بملاحظات سريعة حول نمط الوجود الفردي والجمعي الذي يراد فرضه سواء بالعودة إلى ماضينا أو إلى ماضي الغرب لأن الحاضر سيال ولا يحاكى.
وتشمل ما دون الجماعة الوسطى وما فوقها: فالجماعة الوسطى هي أهل الوطن الواحد وما دونها الأهل المباشرون والفرد وما فوقها الأمة والإنسانية.
فما يميز نموذج الوجود في الرؤية الإسلامية التي يراد تعويضها بالنكوص إلى كاريكاتوره أو نموذج الجاهلية أو باستيراد نموج كاريكاتور يعد مثالا؟
هو ما يجهله أو يتجاهله من نكص إلى نموذج الجاهلية خلطا بين الأصالة وكاريكاتورها أو صار يعبد نموذج الأوروبي خلطا بين الحداثة وكاريكاتورها.
ونموذج الإسلام للوجود الإنساني حداه الشخص الذي يأتي ربه فردا والإنسانية التي من نفس واحدة وبينهما الأهل المباشرون والجماعة الوطنية والأمة.
ذلك أن الدين المنزل الوحيد ناهيك عن الأديان الطبيعية تجاوز القوميات وتوجه للإنسان من حيث هو إنسان واعتبر الأديان درجات في تسابق الخيرات.
فليس هو دين قومي رسولا ومرسلا إليه ولا هو قومي رسولا صار كونيا بعد إصلاح أحد الحواريين بل هو من الأصل يعرف نفسه بكونه خاتما وللإنسانية كلها.
وبعد خطابه الدال على وحدة الإنسانية (النساء 1) جاء خطابه الدال على نفي العنصرية والطبقية والجنس معيارا للتمييز بين الناس (الحجرات 13).
مسؤولية الفرد ووحدة الأهل العضوية وتضامن الجماعة الوطنية ووحدة الأمة الروحية ووحدة الإنسانية التي تمثل ما يشبه الفرد المتميز في الوجود ككل.
وهذه الصورة هي مفهوم الاستخلاف الذي يعد أهلية معينة لا يستحقها إلا المكلفون ولا يعير سلوك الإنسان والإنسانية إلا بمقتضى تقيدهما بقيمها.
ذلك ما بسببه يحارب أعداء الإسلام حضارته وأمته منذ نزل القرآن إلى الآن.
لكن تاريخه كله من نصر إلى نصر ومن انتشار إلى انتشار إلى يوم الدين.
الكتيب