البنية الكونية لكل مقومات الانسان الوظيفية – الفصل السابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله البنية الكونية لكل مقومات الانسان الوظيفية

كان يمكن أن اكتفي بما قلت في الفصول السابقة من ” البنية الكونية لكل مقومات الإنسان الوظيفية” مقتصرا على ما لا يبدو غير قابل للتصديق أعني القول بأن الفرد الإنسان له نفس البنية الوظيفية التي للدولة لأن بيان ما يبدو قابلا للتصديق في الجماعات أيسر من بيان ما لا يبدو كذلك في الأفراد. لكن مع ذلك سأواصل لأبين نفس النظرية في الجماعات من الأسرة إلى الانسانية مرورا بالقرية فالمدينة. فالبنية واحدة لكنها من حيث الطابع البنيوي لكنها مختلفة من حيث العناصر التي تنتظم في البنية. البنية كما أسلفت في كلامي على الدولة بنية مجردة هي ما به تنتظم العناصر دون أن تكون أحدها. فقد رأينا مثلا أن بينة الدولة وخاصة بينة وظائفها بنية آلية وليست حية هي المؤسسات التي تصبح حية بمن يملأها من القيمين عليها. وهؤلاء القيمون هم الافراد ومن ثم فالبنية الحية في الافراد هي ما يتحقق خلال التاريخ العضوي والروحي للإنسان في بنيته كفرد وفي بنية نموذجها “نحلة العيش” كجماعة. وإذن فعناصر البنية الواحدة مختلفة هي في الفرد عناصر كيانه المتعين في جسده ظاهرا وفي روحه باطنا وهي في الدولة خانات المؤسسة ومن يملأها من القيمين عليها. وحدة البنية لا تعني وحدة العناصر التي تنتظم بمتقضى البنية الواحدة. وهذا ما يفرض علي الكلام في مستويات الجماعة كلها عملا بالنساء1. فالنساء 1 جمعت بين مفهومين لله ومفهومين للرحم الإنساني. فالرحم الكوني ربطته بالربوبية والرحم الجزئي بالألوهية. ذلك أن الأول طبيعي وليس تاريخي وهو وحدة الإنسانية التي هي من نفس واحدة. والثاني هو تاريخي وليس طبيعيا لأنه وحدة الجماعات الوسطى بين الفرد والإنسانية: من الأسرة إلى الامة. ومثلما أن الربوبية تطابق عالم الخلق وهو خاضع للأمر الاول او أمر الخلق والضرورة ورمزها القرآن (كل شيء خلقناه بقدر) فإن الالوهية تطابق عالم الأمر الثاني أو أمر الشرع والحرية ورمزها في القرآن (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) فيكون النظام على نوعين: طبيعي رياضي وتاريخي سنني. والقرآن في وجهه النقدي لتحريف الرسالات وفي وجهه الإيجابي لإثبات ما تذكر به الرسالة الخاتمة أو التذكير الاخير بقوانين الخلق وسنن الامر التي هي شرط اهلية الاستخلاف وشرط النجاح في استعمار الارض استعمارا هو موضوع الامتحان الذي لأجله أنزل إليها الإنسان إذا أحسن استعمال ما جهز به. ومن هذه الشروط والتجهيز استخرجت البنية الكونية التي هي بنية الفرد وبنية الجماعات من الأسرة إلى الانسانية والتي تتجلى للفرد خلال تاريخه الذي هو هذا الامتحان لأهليته الاستخلافية من خلال الاستعمار في ألأرض بما جهز به من نظر وعقد لعلاج العلاقة بالطبيعة وعمل وشرع لعلاج العلاقة بالتاريخ. وتلك هي حقيقة المعادلة الوجودية التي هي بنية الوعي الإنساني وبينة كل مخلوق سواء كان ذا وعي أو لم يكن فهي بنية الجماعات التي ليس فردا ذا وعي لكنها خاضعة لنفس البنية وهو معنى آيات الله في الآفاق والأنفس التي علينا معرفتها بالبحث العلمي في الطبيعة والتاريخ والشاهد من نظامهما. والشاهد من نظامهما هو قوانين الطبيعة وسنن التاريخ اللذين يهما يستجل القرآن على كل ما يذكرنا به سواء تعلق بذات الله وصفاته أو بذات الإنسان وصفاته أو بعلاقتهما المباشرة أو بعلاقتهما غير المباشرة بتوسط الطبيعة وقوانينها والتاريخ وسننه: وتلك هي المعادلة الوجودية التي وضعتها. وإذن فهذه المعادلة هي بنية الرسالة الخاتمة أو هي لحمة القرآن وسداه وهي ما حاولت الوصول إليه في قراءتي للقرآن فلسفيا تحت عنوان “استراتيجية التوحيد القرآنية ومنطق السياسة المحمدية”. والقصد بالتوحيد شرحته فلأشرح السياسة المحمدية: التربية بالحرية الروحية والحكم بالحرية السياسية. وهي إذن نبوي من التطبيق العملي للاستراتيجية القرآنية التي تجعل الإنسان تحقق مفهوم الاستعمار في الارض بقيم الاستخلاف. ويمكن تعريفها سلبا بكونها تحرير الإنسان من الوساطة الروحية شرط مسؤوليته الشخصية في علاقته المباشرة بربه ومن الوصاية السياسية شرطها في علاقته به غير المباشرة. والعلاقة غير المباشرة بتوسط الطبيعة تتحقق بفضل التجهيز النظري والعقدي وبتوسط التاريخ بفضل التجهزي العملي والتشريعي ويمكن أن نعتبر ذلك المعنى الحقيق للمعاملات في حين أن العلاقة المباشرة هي المعنى الحقيقي للعبادات. فالعبادات تفقد معناها من دون المعاملات لأنها شرط إمكانها الصادق ما معنى المعاملات شرط إمكان العبادات الصادق؟ معناه أن المعاملات بالمعنى الذي عرفناها به هي التي تحرر الإنسان من الوساطة والوصاية وتجعله بذاته مشاركا في علاج العلاقة العمودية مع الطبيعة ليحقق شروط الاستعمار في الأرض ومشاركا في علاج العلاقة الافقية مع التاريخ ليحققها بشروط الاستخلاف. ولأزد ذلك شرحا لأنه يعكس ما فرضته علوم الملة الزائفة التي تصورت العبادات شرط المعاملات وليس العكس. فالجماعات التي تعجز عن علاج العلاقة العمودية مع الطبيعة تعجز عن علاج العلاقة الافقية مع التاريخ بالطريقة التي تحرر الإنسان من الوسطاء والأوصياء يعني من عبادة العباد بدل عبادة ربهم. كيف ذلك؟ الجماعات العاجزة عن سد الحاجات المادية (العلاقة العمودية مع الطبيعة لا تستطيع السمو لسد الحاجات الروحية (العلاقة الافقية مع التاريخ) فتصبح تابعة القادر عليهما ومن ثم فهم ينكصون إلى العبودية ويتبعون وسطاء روحيين وأوصياء سياسيين فينكصون عن حريتي الاسلام الروحية والسياسية. وهبهم قاموا بالعبادات وضخموا نوافلها فهم في حقيقتهم الفعلية -خل عنك كلامهم-يعبدون رب دنياهم التي عجزوا عنها ولا يفكرون في رب آخرتهم إلا بنوع من الندم عند العاجزين. العبادة التي يقوم بها من ليس حرا من أرباب الارض لا تسمى عبادة صادقة بل هي نفاق اجتماعي صرف. ولا أحتاج إلى استدلال طويل: فلننظر في العبادات التي فرضها القرآن. ما هي شروطها؟ نترك الشهادة التي هي عتبة الدخول إلى الاسلام. ولننظر في الأربع الباقية: هل الصلاة التامة ممكنة من دون النظافة والصحة؟ وهل الزكاة من دون النصاب؟ وهل الصوم من دون الصحة؟ وهل الحج من دون الاستطاعة؟ قد يتوهم السطحيون أن النظافة والصحة ممكنة من دون النجاح في الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف. لكن أليست الزكاة مشروطة بالنصاب وهو تموين سنة كاملة؟ أليس الحج مشروط بالاستطاعة وكلفتها أكثر من تموين سنة لأنها تأتي بعد الزكاة؟ وهب كلفة النظافة وكلفة الصحة أقل من النصاب فهل هي سهلة؟ وبذلك يتبين أن الفروض الخمسة من دون النجاح في الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف لن يبقى منها في متناول المسلم إلى عتبة الدخول في الإسلام أي الشهادة. ومعنى ذلك أن المسلم في النهاية يبقى شاهد زور ما لم يجعل المعاملات دليلا تجريبيا حقيقيا على أنه تجاوز العتبة وحقق شروط الإسلام. وتحقيق شروط الإسلام يعني التحرر من الوسطاء روحيا والتحرر من الأوصياء سياسيا ليقوم بنفسه بشروط الاستعمار في الارض علاجا للعلاقة العمودية بالطبيعة باستعمال جهازه في النظر والعقد وتطبيقاتهما بشروط الاستخلاف في الارض علاجا للعلاقة الافقية بالتاريخ باستعمال جهازه في العمل والشرع. وهذا هو القصد بتقديم المعاملات على العبادات. فالنسبة بينهما-للتوضيح-هي كالنسبة بين النظرية والتجربة. النظرية تكون مجرد فرضية ولا تصبح علمية للوجود ما لم تؤيدها التجربة. والعقد مثلها كلام ما لم يؤيده العمل الذي هو في نسبة التجربة إلى الفرضية. تلك هي علاقة المعاملة بالعبادة. ولست أعني أن المسلمين قبل فهم هذه العلاقة كانوا منافقين بل أعني أنهم لو فهموا هذه العلاقة ثم واصلوا الفهم القديم لأصبحوا منافقين. فالله لا يحاسب من يخطئ على جهل بل يحاسبه على الجهل لأن الجهل يجعله يتصرف تصرف المنافقين دون أن يدري: يعبد رب الارض خوفا وطمعا بدلا من الله. وحتى يكفر على هذا الذنب يبالغ في العبادات النافلة حتى يصدق نفسه أنه يعبد الله أيضا وهو في الحقيقة لا يخاف إلى رب الأرض ولا يطمع إلا فيه وينسى واجبه في تحرير ذاته من أرباب الارض بالحرية الروحية (ضد الوسطاء) وبالحرية السياسية (ضد الأوصياء). ولأنه ينسى هذا الواجب فواقعه عكس حقيقته. واقع المسلمين هو أن أرواحهم مستعبدة من الوسطاء بسبب التربية وأبدانهم مستبعدة من الأوصياء: مربوهم مافيات روحية وغايتها زعم الوساطة بين المؤمن وربه عند المتصوف وحكامهم مافيات مادية وغايتها زعم الحكم باسم الله وصاية على إرادة المؤمنين. وهذه هي حال المسلمين سنتهم وشيعتهم. اعتبر هذا الفصل السابع من المحاولة همزة وصل بين ما تعلق بالتناظر بين بنية الدولة وبنية الفرد الإنساني من جهلة أولى وبين ما سيتعلق بالتناظر بينهما وبين بنية الأسرة والقرية (هي الاسرة الكبرى) والمدينة (هي الدولة الجزئية) والإنسانية (هي الدولة الكلية). ودولة الإسلام كلية بهذا المعنى.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي