لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالبنية الكونية لكل مقومات الانسان الوظيفية
كيان الدولة المضاعف جهاز آلي مجرد هو منظومة المؤسسات أو بنية الخانات الخاوية التي لا تصبح حية إلا بمن يملأها من القيمين عليها لا يوجد في الإنسان لأن ما يناظر الجهاز الآلي في الدولة ليس آليا بل هو حي إنه البدن وما يناظر من يملأها لو أبقينا على القياس هو ما نسميه النفس أو مبدأ الحياة. وتلك هي علة الوهم الذي يجعل الكثير منا يتسور نفسه وكأنها سائق وبدنه وكأنه عربة يركبها ويسوقها. ولكن عندما يتعمق فقد يعكس فيرى أن الجسد هو الذي يقود النفس وأنها في الحقيقة تأتمر برغباته وشهواته حتى عندما تتوهم أنها هي التي ترغب وتشتهي. وهو ما يجعل العلاقة بينهما علاقة شهادة بغيب. مشكلة الفلاسفة والمتصوفة وكل من توهم أن لهم علما بالنفس أو الروح (في القرآن لهما نفس المعنى إلا عندما يكون القصد أنت نفسك وليس نفسك أنت بمعنى أنت أنت) فحسموا علاقتهما في الدنيا والآخرة. فظنوا أن البدن لا قيمة له وأن النفس هي الممثلة لقيمة الإنسان وتوهموا أن بعث الجسد غير ممكن. وهم ورثوا ذلك عن المقابلة السخيفة بين المادي والروحي معتبرين الأولى ممثلة للشر (أفلاطون) والثاني للخير ولذلك فهم لا يفهمون الأهمية التي يوليها القرآن للبدن (النظافة والعناية) وللجنس (في الدنيا وفي الآخرة). وكل ما يجعلني أرفض الجدل هو هذه المقابلة وهي أصله (هيجل والمسيحية المحرفة). لكن المسلمين لما نكصوا نسوا هذه القيم ولم يبق عندهم منها إلى أدنى معانيها ففقدت العناية بالبدن وبالجنس دلالتها الروحية ولم يبق منها إلى الحيوانية فقتلوا كل الفنون التي تعني بالذوق والعلوم التي تعني بالحقيقة في الطبيعة وفي التاريخ وقاموا يخرفون حول مستحيل العلم بنص القرآن: الغيب. أنا اعتقد في الجواب الذي أمر الرسول بقوله: الروح من أمر ربي. ولذلك فلا يمكن الفصل بين بعد الإنسان الشاهد وبعده الغائب توهما بأن الروح غير البدن لكأن البدن ليس من أمر ربي. وأمر ربي نوعان: قبلي للخلق (كن) وبعدي لكيف المخلوق بشرعه أو قانونه. وكلمة قبلي وبعدي معناها نسبي إلينا. أما بالنسبة إلى الخالق والآمر فليس لهما زمان بحيث نميز فيهما بترتيب زماني قبلي وبعدي. وهذا من الإيمان وليس من العلم. ما هو من العلم أمران: 1. نعلم أن علمنا ليس محيطا لأننا نعلم أن نسبة ما نعمله إلى ما نجهله هي نسبة المتناهي إلى اللامتناهي. 2. ونعلم أن هذا العلم علامة علم الله المحيط. وهذه الحقيقة هي جوهر النقد القرآني لعلل التحريف وهي فلسفيا من ثمرات المدرسة النقدية (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون) قبل أن تصبح الحجة الرئيسية لديكارت في إثبات وجود الله. لكن النكوص الهيجلي على جعلها أساس فلسفة كنط النقدية هي التي ولدت كل الفاشيات التي سيطرت على التاريخ الحديث. الآن يمكننا الكلام على ما قصرنا عليه الكلام في المماثلة بين الدولة والفرد بعد أن ميزنا بين مصنوعية الدولة كجهاز خانات خالية ومصنوعيتها كجهاز يملأ الإنسان خاناته ليحييه ورأينا أن مصنوعية الإنسان هي التاريخي فيه من حيث هو فعله لصنع ذاته بصنع نحلة عيشه اقتصاديا وثقافية أو ماديا وروحيا. ما المناظر لوظائف الدولة في ذات الإنسان دون أن أميز بين البدني والروحي لأني اعتبر الفصل بينهما أو التوحيد الجزم فيه كلاما في الغيب وليس علما للشاهد. فعلم الشاهد لا يحسم لأن ما نشده يمكن أن يؤول بنظرية الفصل ويمكن أن يؤول بعكسها أو بنظرية الوصل دون ان يكون ذلك دالا على الوحدة. ما نعلمه هو ما يفيد الوصل ويفيد الفصل وسأضرب أمثلة عن الوصل والفصل. فلا يمكن للروح إن سلمنا بأنها هي التي تدرك أن تدرك شيئا من دون البدن وسيطا بينها وبين تدركه. ومن فأهم وظائف ما ننسبه إلى الروح مستحيلة من دون البدن والفصل من ثم غير ممكن. فهل هذا الوصل مجرد استعمال البدن كآلة؟ هل هو من جنس استعمال الميكروسكوب مثلا؟ أم إن الميكروسكوب لا يمكن أن يطلع الإنسان عما ندركه به من دون أن يمر بالبدن وسيطا للإدراك حتى لو زرعنا وسائط مباشرة في الدماغ؟ طبعا الجواب لا. وإذن فالفصل علته ما يبدو لنا من مدارك متجاوزة للإدراك الحسي. وهي كذلك من وهم جعلها من مصدر آخر. ومن أغبى الامثلة على ذلك سلسلة العقول التي تتكلم عليها الفلسفة العربية والموروثة عن الفلسفة اليونانية في ما انحط من الفلسفة الافلاطونية والارسطية (العصر الهلنستي). فهذه العقول النازلة من فوق قصد ابن سينا (هبطت إليك من المحل الارفع*ورقياء ذا تدلل وتمنع). أومن ولا أعلم: من أمر ربي. لكني أعلم لماذا لا أعلم بما بينته سابقا وبحجة أعمق هي غاية ما في الأذهان من بعد الاسترماز الرامز ومافي الأعيان من بعده المرموز. فتقدمنا في النظريات التي نبدعها للترميز غايتها كيان رمزي مجرد يبقى دائما ذاتيا في بنى الموضوع المرموز التي ندرها غايتها كيان وجودي يبقى صفيحة من الموضوع. لكن لا يمكن أن أجزم أن آخر رامز ذاتي لما في ذهني وآخر مرموز موضوعي لما يوجد خارج ذهني متطابقان بل هما يبقيان دائما شيئين من طبيعتين مختلفتين. عملية تذويت الموضوي قفزة لا شيء يدل على صحتها وهي أساس القول بنظرية المعرفة المطابقة وخاصة في الجدل الهيجلي وسر نفي الغيب. كل من يقول بالمطابقة يدعي العلم المحيط وينفي الغيب ومن ثم فكل فلاسفة الإسلام ومتكلميه ينفون الغيب لأنهم يقولون بالمطابقة حتى وإن زعموا نفاقا أو تقية أنهم يؤمنون بالغيب. فمن يدعي أن الـ “و” في آل عمران 7 عاطفة وليست مستأنفة لتأسيس قدرة الراسخين على التأويل نفي للغيب صريح. وإذن فما يماثل الدولة هو الفرد بوصفه ذاتا لا أميز فيها بين مادي وروحي وبين بدن ونفس بل اعتبر الشاهد منهما لا يمكن لا من القول بالوصل المطلق ولا بالفصل المطلق بينهما من ثم فكلامي يتعلق بالتناظر بين الفرد من حيث هو ذات يعتبرها القرآن فردا واحدا في الدنيا ويأتي ربه كذلك في الآخرة. هذا الفرد الواحد الموصوف بكونه مستعمرا في الارض ومستخلفا وله قدرة على النظر والعقد وعلى العمل والشرع هو الذي لا يمكن فهمه من دون نفس البنية التي بها نفهم الدولة كما حددتها في هذا الفصل استنادا إلى نظرية النفس في علاقتها بنحلة العيش دون الاقتصار عليها في محاولات سابقة. ولا بد من التذكير بإيجاز لما تركته خارج المحاولة عندما قررت أن اكتفي بالتناظر بني الوظائف. لكن قبل الوظائف أربعة مستويات في الدولة هي: 1. المرجعية 2. والقوى السياسية 3. والدستور 4. والهيئة التي تديرها حكما ومعارضة. فهذه المستويات أيضا متناظرة للفرد منها مثل ما للدولة. فلا يوجد فرد من دون مرجعية ولا يوجد فرد من دون قوى تتجاذبه في سياسة ذاته ولا يوجد فرد ليس له ما يشبه الدستور أو نظام قواعد لسلوكه الفكري والفعلي ولا يوجد فرد ليس له في ذاته نظام حاكم ومعارض في موازناته التي يعتمدها عند أخذ أي قرار في حياته. صحيح أنه يوجد من ليس له شيء من ذلك لفقدانه السيادة تماما كما يحصل للدول الفاقدة للسيادة. فتكون حينها مرجعية مستتبعها وقواه السياسية ودستوره وهيئته الحاكمة والمعارض هي التي تمثل هذه الأبعاد من ذاته التي وصفها ابن خلدون بفساد معاني الإنسانية: وتلك هي العبودية للطغيان. بعد هذا التذكير نعود إلى التناظر في الوظائف. هل للفرد نظام حماية بأبعاده الخمسة التي وجدنها في الدولة وهل له نظام رعاية مثلها؟ نعم وألف نعم. والنظامان مضاعفان عند الفرد لأنها فيها ذاتيا وفيها بوصفها حصيلة ما يرثه من حضارته ومن الحضارة الإنسانية كلها في ما يحتمي منه ويرعاه. فمم يحتمي الإنسان وماذا يرعى؟ الإنسان يحتمي من التدخلين في كيانه أي من الاخطار التي تأتي من الطبيعة أو من التاريخ والأولى مثل الامراض وعدوان الكائنات الحية من غير البشر والثانية مثل الأمراض والعدوان الآتيين من البشر. والحماية منها مشروطة بنظام الاستعلام والإعلام. لابد أذن مما يماثل القضاء والامن في حمايته الداخلية ومما يماثل الدبلوماسية والدفاع في حمايته الخارجية. وكلتا الحمايتين فيهما بفضل الاستعلام والإعلام أو جهاز الأدراك عند الإنسان المباشر بالحواس الخارجية والداخلية وغير المباشر بما يتعلمه من علوم الاستعلام والإعلام الإنساني عامة ومنها خاصة ما يهدد كيانه العضوي وما يهدد كيانه الروحي أو ما يهدد الشاهد من ذاته عضويا ونفسيا من أخطار يكون فيها هو القاضي وهو الامن. وهو قاض ليكيف أثر أفعال غيره عليه فيسمه بالعدواني أو بغير العدواني ثم يتدخل ما لديه من قدرة على التنفيذ وهو سلوك أمني قد يكون وقاية أو علاجا. ومن ذلك ما يوجد في كيانه وهو جهاز المناعة وما يوجد في علمه وهو مثلا تفعيل الجهاز المناعي مثل التطعيم وكلها وظائف ذاتية حتى وإن بدا وكأنه ليس من ذاته. ولكن لو اعتبرنا ذلك ليس من ذاته لاستحال ان يكون جهاز الدولة حيا. فهو جهاز آلي لا يفعل بذاته بل بمن يملأ خاناته من القيمين عليها. وهم أفراد وما كانوا ليكونوا قادرين على الحماية التي يفعلونها في مؤسسات الدولة لو لم يكن لهم في كيانهم هذه القدرة التي هي -وهنا يعود ابن خلدون-من نحلة العيش (الغذاء والدواء والوقاية والعلاج ألخ..) وهي في الدولة مستعارة مما عند الفرد. ولذلك فالدول لها جهاز مناعة هو مرجعيتها. والمرجعية بالنسبة إلى الجماعة والدولة يمكن تسميتها بالحصانة الروحية (لأنها قيم وعقائد في أذهان الافراد المنتسبين للجماعة والدولة) هي التي تمثل ما يشبه المناعة العضوية عند الفرد وعنده من الحصانة الروحية للجماعة حصانة روحية. ولذلك فغاية العدوان على الإنسان فردا وجماعة تتعلق بها. ففي نظرية الحرب لكلاوسفيتز الحرب تنتهي عندما تنتهي عند المنهزم إرادة المقاومة بعد هزيمة الجيش واحلال مصادر القوة التي تمكن من اعادة بناء الجيش. والمعلوم أن حال المسلمين اليوم هي هذه: كسر الجيوش ماديا ومعنويا واحتلال مصادر القوة (الارض والناس) والحرب على المرجعية الإسلامية.