لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالبنية الكونية لكل مقومات الانسان الوظيفية
عندما تكلمنا على الفرد لم نميز بين الجنسين بل اعتبرناهما في ما هو مشترك بينهما بل وواحد يعني أن ما قلناه يصح عليهما لأن الامر يتعلق بالفردية. وسنتكلم عليهما بوصفهما لقاء بين فردين لهما كل ما ذكرنا إلى الفصل السادس إلى قبل همزة الوصل الي عالجناها في الفصل السابع. موضوعنا الآن هو لقاء فردين لتفعيل الحد الأدنى الذي تتعين فيه بداية الجماعة منها إلى الإنسانية وهما كامنتان في الفردية كمون الفردية فيهما بمعنى البنية المشتركة التي قلنا إنها بنية الإنسان من حيث هو إنسان بل وكل الخلوقات والعالم حتى في غياب الوعي الذي يتميز به الإنسان. وهذا المشترك الكوني -البنية التي تحاكي المعادلة الوجودية-هي بنية العلاقة بين الأمرين الخالق والشارع. ومفتاح الاول للنظر والعقد الإنسانيين مبدأ فعل الضرورة الطبيعية ورمزه القرآني (كل شيء خلقناه بعدد) ومفتاح الثاني العمل والشرع الإنساني مبدأ فعل الحرية التاريخية. فماذا يحصل في لقاء فردين ذكر وأنثى لهما هذان المفتاحان للدخول إلى المعادلة الوجودية (بمقوماتها التي سبق أن شرحناها في غير موضع)؟ لو صدقنا أفلاطون الذي يعتبر هوية الإنسان نصفية لاستحال أن يفشل أي لقاء بين الجنسين ولو صدقنا هيجل الذي يعتبر هوية الإنسان جدلية لاستحال أن ينجح أي لقاء. لكن العلاقة بين الجنسين بعضها ينجح وبعضها يفشل ومن ثم فالقولان خاطئان. وأكثر من ذلك لا وجود لعلاقة بين ذكر وأنثى كفردين. بل حلقة بين ثمرة أسرتين سابقتين وثمرة أسرتين لاحقتين. ومهما حاولنا الروجوع إلى الطابع النووي للأسرة الصغرى فإنها حتما وسط بين زوجين بالفعل وزوجين بالقوة. الأسرة تصل إلى الكيان الواحد أو فردية الجمعي لأن الزوج والزوجة كلاهما في ما يتجاوزهما أو في وظيفتهما العضوية أولا والروحية ثانيا يمثلان مقومي الفردية العينية للابن أو البنت التي تنتج عن اللقاء بينهما في مستواه العضوي وفي مستواه الروحي. والكل تاريخي للوراثة العضوية وللإرث الحضاري ما نريد درسه أو الحد الأدنى للجماعة تبين أنه في الحقيقة كل الجماعة وليس الجماعة النواة (الاسرة) بل الجماعة بمعنى الرحم الجزئي من سورة النساء والرحم الكلي منهما كما شرحناهما في ما تقدم. لكن هذا التمثيل للجماعة الكونية وليس الجزئية فحسب له مستويا وجود في الوجود الخارجي والذهني. وهذا التمثيل في الوجود الخارجي هو الفردان الذكر والانثى وكلاهما كل الوجود ببعديه الطبيعي والتاريخي في علاقتهما فيه ككيان قائم الذات يمكن تمييزه عن وظائفه التي هي شروط دوره في هذين الوجودين تعميرا للأرض بقيم الاستخلاف إن كان سويا وبالغفلة عنها إن كان مرضيا. وهو في الوجود الباطني للفردين الذكر والانثى ببعديهما المجهزين له حتى يكون قادرا على إدراك بعديه الطبيعي والتاريخي وعلاجهما بما جهز به من قدرة على النظر والعقد (البعد الأول) وعلى العمل والشرع (البعد الثاني) إما للتعمير بقيم الاستخلاف أو للتدمير من دونها: تلك حريته ومسؤوليته. وإذن فلقاء الذكر والانثى لقاء كوني بين حريتين متساويتين تتعاملان مع الطبيعي والتاريخي المحيط بهما إما بوعي بما ورائهما الذي يوصلهما إلى حضور الربوبي والألوهي معهما أو بعدم وعي بذلك. فتكون العلاقة في مستواها الطبيعي والتاريخي جامعة بين البعد العضوي والبعد الخلقي والجمالي. وبمجرد أن يتأله أحد من الجنسين تفسد العلاقة فتتحول إلى المنطق الجدلي أو منطق الصراع على السلطة بين الجنسين كما يحدث في السياسة التي تلغي الحريتين فتصبح طاغوتين روحي (الوساطة) وسياسي (الوصاية) وهما علة فساد العلاقة بين الذكر والأنثى بسبب الرؤية الجدلية. ومن عجائب هذه الظاهرة أنها بدأت بفساد الذكورية وانتهت بفساد الأنوثية. فالذكورية تحولت إلى وساطة ووصاية والأنوثية في وهم التحرر منهما بطريقة من جنسها صارت مجر نفي (الجدل) وليست بديلا موجبا من تحريف الذكورة: لأن الاثنتين حولتا العلاقة إلى عين فساد الحريتين الروحية والسياسية. ولو لم يكن الأمر كذلك لاستحال أن نفهم رؤية الإسلام التي تعتبر الزواج عقدا وليس ملكية الرجل للمرأة وتعبر المرأة ذاتا كاملا بما أنها تتعاقد وتملك شرط الحرية أعني الملكية مثل الرجل. وكل ما حرف هذين المقومين للمساواة بأن لم يساوي بينهما فيهما هو من اجتهاد الفقهاء الذكوري. فلا يمكن اعتبار الزواج عقدا ثم اعتبار أحد طرفية دون الثاني حقوقا وواجبات. لكن التعاقد لو بقي خاضعا للطرفين وحدهما فإنه يكون محكوما بميزان القوة بينهما. لذلك لا بد من ثلاثة أطراف أخرى طرف فوق الجميع هو رب الجميع ثم طرفان يحميان الطرفين المتعاقدين هما اسرتاهما. عقد الزواج مخمس. القرآن صريح في ذلك: فالعقد يضمنه الله (الوازع المطلق) من حيث القيم ويضمنه الأسرتان (الوازع الأجنبي او الخارجي) من حيث تطبيق القيم ويضمنه إيمان الطرفين بالله من حيث الاقتناع (الوازع الذاتي) والا فمآله دائما الفشل لأن العلاقة بين حريتين (الذكر والانثى) من أعسر العلاقات استقرارا. وما يغيب عن أذهان أدعياء الحداثة هو أن نظرية الزواج كتعاقد ثورة قرآنية لأن المرأة حتى في الفلسفة القديمة وليس في الأديان المتقدمة على الإسلام فحسب ملكية الرجل وليست متعاقدة معه حتى وإن لم تعتبر من جنس ملكية العبيد كما في نظرية الأسرة الأرسطية وهي الأرقى في الفلسفة القديمة. وما يجهله أدعياء الحداثة هو أن الفرق بين الجنسين يعتبر من مادة الإنسان وليس من صورته في الفلسفة القديمة وهم يتوهمون أن عدم التمييز في تعريف الإنسان بكونه حيوانا عاقلا يعني المساواة بين الجنسين. لكنهم يخطؤون لأنه إذا كان الفرق من المادة وليس من الصورة فهو فرق عديم المعنى. الفرق بين الجنسين كياني دون تمييز بين المادي والصوري وليس تابعا للمادة فلا يعتبر في درس العلاقة بينهما؟ لأنه إذا كان تابعا للمادة فمعناه أن العلاقة بين الذكر والانثى من جنس العلاقة بين المادي منهما أي بين ما دون العقلي ولا يكون ما دون العقلي من الإنسان ذا أثر في ما هو عقلي. فيصبح العلاقة الجنسية نفسها حيوانيا فحسب ولا صلة له بالعقلي أو ما في العلاقة من متجاوز للحيوانية لأن الفرق النوعي بين الإنسان والحيوان هو العقل. وإذا كانت الفرق بينهما ماديا وكان المادي منهما حيوانيا فإن أهم عناصر هذه العلاقة أعني الحياة الذوقية والخلقية أي الجمالية تكون مثلية. والحياة الجنسية لا وظيفة لها إلا الوظيفة الحيوانية. ولهذه العلة كان أفلاطون على لسان ارسطو يعتبر الصداقة والحب الحقيقيين مثلية. فيتم الفصل بين المادي الذي هو حيواني والصوري الذي هو إنساني. فهل الجنسية حيوانية فحسب أم هي أسمى مما هي في الحيوان لأنها جمالية وخلقية أيضا؟ القرآن إذن بنظرية العقد حقق المساواة ويبقى اعتراض يبدو وجيها لكنه في الحقيقة فاسد لاختزاله. فالسماح المشروط بالتعدد للرجال ليس محرما على النساء في القرآن بل المحرم هو المتساوق منه. لذلك شرع الطلاق. فالمرأة التي تضمن النسب بعطيل التعدد المتساوق يحل لها التعدد المتوالي بالطلاق. وفي ذلك تشريف للمرأة أو تكليف بمهمة شريفة هي ضمان النسب الذي يحفظ للأجيال المعادلة التي تكلمت عليها أعني أن يكون الأنسان وصلا بين اسرتين سابقة بداية لوجوده ولاحقة غاية لوجوده. وهو ما لا يحول دونه التعدد المتساوق المحدود جدا في القرآن تقريبا لنفس الغاية والذي عممه الفقه الذكوري. فالتعدد المتساوق المسموح به للرجال هدفه الأساسي حماية اليتامى من الإناث حتى وهو مشروط بالمساواة بين الضرائر مع حرز شبه الاستحالة فيه. لكن منعه مفسد للغاية وكان ينبغي عندئذ منع الطلاق. لأن الطلاق هو التعدد المتوالي لتحقيق المساواة الجنسية بين الجنسين ولغاية خلقية هي النسب. التعدد المتساوق المسموح للرجال بما ذكرنا من الشروط له غاية خلقية هي حماية النسب الذي يضمن حماية الاجيال من حق المعادلة السويقة بوصف كل فرد وسطا بين اسرتين سابقة ولاحقة. والتعدد المتوالي المسموح به للنساء بما ذكرنا من الشروط له غاية خلقية هي حماية المرأة من النكد والحرمان وهما في الغالب علة طلب المرأة للطلاق. ولو كانت المرأة ملكية لامتنع تصور الزواج عقدا حق الملكية للمرأة لأن المملوك لا يملك ولامتنع خاصة الطلاق بل لصارت تباع وتشترى. صحيح ان الجواري يبعن ويشترين والعلاقة الجنسية معهن ليست تعاقدية. وهذه ظاهرة كان يمكن أن تنقرض بكفارة تحرير الرقبة كل ما أقوله هنا يتصل بالقرآن لو فهم الفهم الصحيح وطبق التطبيق الأمين. لكن الفقهاء في الأغلب حتى لو فهموا فهما صحيحا فإنهم يتحيلون ليرضوا الحكام وكل من له جاه لأن من شروط القبول بالوساطة الروحية ترضية الوصاية السياسية في جمع المجتمعات البشرية. والمعلوم أن النظر لا يتقيد بالأمر الواقع بل بالأمر الواجب. فأن يكون الأمر الواقع دائما دون الأمر الواجب هذا ليس مستغربا فالنظر والعقد يتعلقان دائما بما يطلبانه من الحقيقة ولا يقتصران على ما تفرضه علاقات القوة التي تعارض الحقيقة فتحرب الحرية الروحية بالوساطة والسياسية بالوصاية.