ه
كتبت سابقا محاولة في تصنيف النخب معتمدا ما ينسبه المتكلمون من صفات ذاتية للذات الإلهية أعني الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود وللإنسان منها نصيب.وكان التصنيف بمبدأين: كل إنسان له شيء من هذه الصفات مع غلبة واحدة منها عليه. فتكون الحصلية خمسة أنواع من النخب. ثم نسبت إليهم تميزا بحسب الصفة الغالبة عليهم.
فاعتبرت من تغلب عليهم صفة الإرادة ذوي ميل إلى السياسة ومن تغلب عليهم صفة العلم ذوي ميل إلى المعرفة ومن تغلب عليهم صفة القدرة ذوي ميل إلى الإبداع الاقتصادي والثقافي ومن تغلب عليهم صفة الحياة ذوي ميل إلى الإبداع الذوقي والجمالي ومن تغلب عليهم صفة الوجود ذوي ميل إلى الرؤى الدينية والفلسفية.
ثم استنتجت من ذلك أن هذه النخب إذا كانت بحق مسماها مطابقا لاسمها فإنها تكون نخبا حقيقية وبفضلها تتكون الأمم العظائم. لكن الأمم التي لا يكون لنخبها من ذلك إلا الاسم فهي أمم الصغائر.
واليوم خلال انتظاري ابني الأصغر في احدى مقاهي تونس-العاصمة-سمعت أشياء جعلتني أفكر في تصنيف هذا النوع الثاني.
وما حصل كان فعلا مفاجأة لي.
لم أكن محتاجا إلا لمعرفة طبيعة التمثيل لهذه النخب بهذه بأضداد هذه الصفات عند ترجمتها بطبيعة الميول الزائفة التي لا يطابق اسمها مسماها والتي تعوض الميول التي يطابق اسمها مسماها بمعنى أن كل نوع من النخب في كل المجتمعات له وجود فعلي وله نسخة منحطة تمثل بالصغائر ظاهر الوجود.
وكنت قد بينت أن القدرة من حيث هي فاعلية هي خلق وإبداع سواء كانت اقتصادية أو ثقافية ولها كيانيا وتقنيا صفتان تتقدمان عليها هما الميل إلى العلم والميل إلى الإرادة وصفتان خلقيتان تتلوانها هما ذوق الحياة وجلال الوجود. فكان يكفي أن أبحث عن النخب التي تمثل ظاهر هذه القيم الخمس لأنها ضديدة لحقيقة هذه النخب.
وسأكتفي باقتراح نماذج هذه الشبائه كما استقرأتها مما سمعته من كلام خلال هذا الانتظار الذي دام ما يقرب من ساعتين لم أجد مفرا من البقاء خلاله في المقهى هربا من حرارة المناخ وانشدادا لما كنت أسمع أطرافه من أحاديث كانت مناسبة التفكير في الأمر من خلال نموذج تونسي لا يخلو منه بلد عربي.
ولست أستبعد كونية هذه النسخ المسائخ التي تكثر في بلاد العرب التي تدعي الحداثة والتقدم ولعلها توجد في كل بلد فيه الشروط التي تجعل مثل هذه الظاهرة تسود الحياة الجماعية. فشبائه هذه الأنواع الخمسة تتميز بكون تمثيلها لما تشوهه بمحاولة تمرير ظاهر منه على أنه هو ليس إلا ظن الأقوال كافية لتعويض الافعال.
فيكون من إرادته لا تتجاوز القول ذا ميل لزائف السياسي دون فعل ومن كان علمه لا يتجاوز ا لقول ذا ميل لزائف المعرفة ومن كانت قدرته لا تتجاوز القول ذا ميل لوهمي لإبداع الاقتصادي والثقافي ومن كانت حياته لا تتجاوز الاقوال ذا ميل لزائف الذوق وأخيرا فمن وجوده يقتصر على الاقوال دون أفعال يصدق على الجلال عنده قول المتنبي “وتعظم في عين الصغير الصغائر”. ويكفي ان بماذا يتفاخر العرب في ما بينهم وبماذا يتنابزون في اعلامهم.
ويمكن الآن تعيين النخب التي تمثل النظائر المسيخة من الأصول الصريحة (من الصراح وليس من الصراحة). وهو القصد بالبزناسة وتصنفيهم بقيم النخاسة.
- فأصحاب القدرة التي هي القلب والفعلي منها هم أصحاب الإبداع الاقتصادي والثقافي الذي يولي أهمية كبرى للسياحة التي هي اقتصاد زائف وثقافة زائفة لا تحرر أصحابها بل هي تحول الجماعة إلى تجار صناعات بدائية وجنس.
- وطبعا فشرطها ليس المعرفة والسياسة الفعليتان كما في القدرة الفعلية بل العلم الزائف وارادة “العنتريات”. وما أظن أحدا يشك في أن ذلك هو الغالب على ثقافة البلاد التي القدرة فيها هي السياحة التي هي هذا المسخ من القدرة المحررة لأنها بالتدريج تحول نخب البلاد إلى بزناسة في الخردة والجنس بإيديولوجيا تسمي ذلك حداثة وتقدما.
- وذلك هو شرطها التقني بمعنى أنك في غنى عن علم معرفة حقيقين وفي غنى إرادة وسياسية حقيقيتين لأن القدرة التي تنتج عنهما هي بيع الهواء والكلام حول الخردة والجنس وجعل الجماعة خدما للسواح بوصف ذلك من علامات الحداثة والتقدم خاصة إذا صار جل الشباب “بزناس” في خدمة “الضيوف” ومحاكيا لعاداتهم.
- ونأتي الآن إلى الشروط الخلقي: لن تحتاج هذه القدرة بهذا العلم والمعرفة وبهذه الإرادة والسياسة لذوق حقيقي ولوجود جليل بل سيكون الذوق محددا سلفا لأنه الذوق الذي يتحول إلى دعاية للخردة والجنس مادة السياحة ويسمونه فنونا والوجود الجليل يتحول إلى وجود ذليل مناه الاقصى إرضاء السائح الحريف.
- رأينا النسخ المسيخة من أصحاب القدرة ومن أصحاب العلم ومن أصحاب الإرادة أي أصحاب السياحة واصحاب العلم الزائف أو المثقفون والمثقفات والسياسيون والسياسيات. فمن يا ترى يكون النوعين الآخرين؟
نهم الفنانون والفنانات وأداتا الجميع وهما صنفان في شكلين يدعيان تمثيل الجماعة ضميرا سياسا وحقوقيا.
وبهما أختم تصنيفي. فقسمهم الأول-وقد قيمه نيتشة قبلي-هو الإعلاميون والنوع الثاني أيضا قيمه نيتشه ولكن بسندهم الرؤيوي أعني حقوقيات الديموقراطية المستوردة والمفرض شكلها الموزي وأقصد “بزناسة” ما يسمى بالمجتمع المدني الذي تموله مخابرات الأسياد لما وصفت وضعهم اي من لم يبقوا عباد الله بل صاروا عبيد العباد..
آمل أن يكون وصفي مطابقا لظاهرة هي من أعراض المرض الذي تعاني منه الأمم التابعة وفاقدة السيادة وليست من علله. فعلله هي ما يجعل مثل هذا الظاهرات تطغى على مجتمعاتنا فيصبح كل شيء اسماء بلا مسميات فتشعر وكأن هذه النخب الزائفة حولت كيان الإنسان تربية وحكما إلى كيان أجوف يغلب عليه “الباراتر” من دون “آتر”.
فـ”الباراتر” أي ظاهر الوجود الذي يعوض “الآتر” أي حقيقة الوجود هو الذي يعيشه نخب العرب على أنها حداثة وهو قشورها التي قد تصنع فترينات كان فضل الثورة أنها كسرت بلورها فأفقدتها بريقها وأظهرت ما كانت تخفيه بماكياج بدائل زائفة من الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود فتعظم في عين الصغير الصغائر.