الببغاوية، مرض اللحظة العربية – الفصل الثاني

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الببغاوية

في الفصل الثاني من الكلام على “ببغاوية اللحظة العربية” أريد أن أبين أن أخطر شيء هو أن الجديد فيها هو ظهور أخطارها وحدتها وليس سر وجودها.

فسر وجودها بالنسبة إلى التأصيليين هو عين سر وجودها بالنسبة إلى التحديثيين. ولما كان هذا السر الثاني قريبا منا لدونه معاصرا فسأنطلق منه.

وسأمهد بالإشارة إلى طبيعة السر المتعلق بالببغاوية التأصيلية. فمن القراء من اطلع على محاورة حول أزمة أصول الفقه بيني وبين المرحوم الشيخ البوطي، والأصول على شرفها لم تتجاوز الموقف الذي دافع عنه الشيخ واعتبرته من علل وصفي لعلوم الأمة بأنها ليست علوما بل مراحل أولية زيفها ظنها نهائية.

فقد اعتمدت على النتائج المباشرة للفهم المباشر لآيات الأحكام القرآنية بتأويلات مستندة إلى فهم مباشر للسنة النبوية الشريفة. جعلوهما حكما شعبية.

أما علم الكلام رغم الدندنات الجدلية الزائفة والإيهام بالتأسيس الميتافيزيقي الساذج قد زاد الطين بلة للتفاعل بين الشرائع والعقائد في كل دين.

وتجلت ذلك خاصة في التفسير. فكل تخاريف الأثر تفاقه اللغة والبلاغة وخاصة الأعجاز العلمي (ظاهرة قديمة عممها الرازي) أهملت جوهر الرسالة.

وما يؤلمني حقا هو تحول القرآن إلى مدونة من الحكم الشعبية تقفز مباشرة لفائدة عملية عرضية دون تأسيس نظري شديد التعقيد أعمق نسيج نظري عرفته.

وداهية الدواهي أن كل فلاسفة العرب التقليديين لا يختلفون كثيرا عن النظرة الباطنية: وهي أن القرآن عرض “شعبي” لباطن تحكمي يسقطونه عليه كحقيقة.

بحيث إنه في أحسن الحالات إذا قارناه بما يسمونه الحقيقة العقلية واعتبروه قابلا للرد اليها بالتأويل لا يتميز عن علمهم إلا بخيال الأنبياء.

ولما كانوا هم عديمي الخيال ظنوا أن “خيال” الأنبياء متعلق بالتواصل ومخاطبة العامة وليس بوظيفة الإبداع عامة وهم يرونه نقيصة وليس فضيلة.

ولا يزال هذا الموقف الذي تحول إلى عقيدة عند ادعياء الحداثة يعتبر القرآن عبارة عامية لحقائق بدائية تجاوزها العلم والعقل الذي يدعون تمثيله.

سر الببغاوية الحداثية ذو صلة بنفس الأصل الجامع بين الموقفين من الإبداع في الحضارتين. إنهم عمي عن الكلي الواحد في ابداع الحضارة الإنسانية.

وهذا السر الواحد هو اعتبار الفهم المباشر لأي ظاهرة-بداية المعرفية المباشرة- فهما نهائيا وغاية المعرفة العلمية بسبب جمود العلوم المساعدة.

فالمرحوم البوطي كان يتصور أن أصول الفقه له وظيفة: استخراج القوانين من النص. والنص لغوي إذن من فهم اللغة العربية في حالتنا. وذلك كذلك دائما.

واستنادا إلى هذه النظرة التبسيطية اختلفت الحلول الزائفة مثل القياس الفقهي والمقاصد وهم جرا مما يهمل طبيعة المشكل فيقدم الحلول الزائفة.

والمضحك حقا هو ظن القائلين بالإعجاز العلمي أنهم تجاوزا الفهم العامي للقرآن: إنه فهم أكثر عامية من عامية الحكم الشعبية. لأنه يحط من القرآن.

يتوهم الرفع منه بنسبة ما ليس منه إليه لتوهمه أن العلم منزلة أرفع من القرآن إذا لم توجد فيه فهو دونه منزلة: وهو دليل الجهل بحقيقة العلم.

العلم مهما سما يبقى دائما من مجال الادوات وليس من مجال الغايات. الإنسان يحتاج للعلم أداة لمعضلات الحياة التي تعتبر الأديان صوغها الامثل.

لذلك فمن يعتبر القرآن مهتما بإبداع الأدوات وليس بتحديد الغايات ينفي ما به ميز الله الإنسان ليكون أهلا للاستعمار في الارض والاستخلاف فيها.

القرآن يحدد مقومي وجود الإنسان (مستعمر في الأرض ومستخلف فيها) وأمده بشرطي النجاح فيهما: أي القدرة اكتشاف قوانين الطبيعة والتاريخ.

ثم يتكلم في المعايير التي تجعل ما أمده فيه من قدرات يكون مفيدا أو ضارا وهي معايير خلقية وسياسية ومنها الشرائع والعقائد: وتلك هي الرسالة.

ولو لم يكن كيان الإنسان بتحقيق شروط قيامه الطبيعية والتاريخية غاية بإرادة حرة وقدرة فاعلية يجمع بينهما معرفة علمية أداة لكانت الرسالة عبثا.

لو كانت العلوم التي هي أدوات موضوع القرآن فيكون وضعها في كيان الإنسان أولى ولاستغنى عن الإرادة والقدرة كأي حيوان فيستغني عن علم يبدعها.

وكإبداع للأدوات بقدرة عليه للغايات التي هي جوهر كيان الإنسان ومعضلات الوجود فالعلم عمل إنساني ونشاط إبداعي دائم للأدوات لثابت الغايات.

القول بالإعجاز العلمي يؤرخن القرآن إذ العلم تاريخي بالجوهر. القرآن فوق التاريخ لتعلقه بغايات الوجود ومعضلاته وبما يحميها من التحريف.

والتحريف يمس الغايات والأدوات فيكون كل تحريف هو استعمال الأدوات ضد الغايات أو ضد وظيفتها لعدم احترام قيمها في تحقيقها بالعلم والعمل على علم.

فإذا كانت حقيقة القرآن تطلب من الآيات التي يرينها الله في الآفاق والأنفس فهو يدعونا إلى طلبها بالبحث العلمي وهي من ثم ليست موضوع نصه.

موضوع نصه هو الغايات والقيم والتوجيه الضروري لقدرات الإنسان العلمية والعملية وقيمها لتحقيق شرطي كيانه: استعماره في الارض والاستخلاف عليها.

حصل العكس تماما: تركت مجال العلم الممكن (عالم الشهادة الطبيعي والتاريخي وغرقت في تخريفات حول غير الممكن فكانت النتيجة ما وصفت آل عمران 7.

فالعلوم الزائفة التي تبحث في المتشابه رمز الغيب كانت تعبيرا عن أمراض القلوب وابتغاء الفتنة: فشلت حضارتنا لأنها أهملت شروط مقومي الإنسان.

فالرسالة ليست وظيفتها تعطيل تكليف الإنسان. هي ترشده لانجازه. لم تقدم أدوات ناجزة بل ذكرته بوظائف قدراته في الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف.

وبهذا التحريف صارت علوم الملة علوما زائفة لمناقضتها حقيقة المعرفة العلمية ودورها في الوجود وحقيقة الرسالة التي تذكر بدور الإنسان وغاياته.

والعلة في هذا التحريف ليست صدفة: فكل معرفة بدئية إذا ظنت ختمية كانت نكبة على العلم وعلى العمل لأنها بدلا من أن تحقق الغاية من العلم تجمده.

والمأزق راجع إلى الأكسيولوجيا والابستمولوجيا:

  1. العلمي مقابل الإدراك المباشر.

  2. والقيمي الغائي لكيان الإنسان مقابل القيمي الأداتي لأعماله.

ولما كان استعمال هذه المعاني الابستمولوجية والأكسيولوجية غريبة في منهجية فهم الرسالة ظن بعض القراء أن استعمالي لها تعسير وليس تيسيرا.

إنها ربما تعسير منهجي ضروري للتحرر من التبسيط الذي أرد إليه سر تحريف علوم الملة الذي حاولت بيانه وخاصة نتائج بعثه الخطيرة على الاستئناف.

فكل الفتن والشعوذات عادت من جديد بدعوى إحياء هذه العلوم التي ليس فيها ما يقبل هذه التسمية بحق يكون في مستوى ثورة الإسلام كما حددها القرآن.

كلها نافية للحرية الروحية (تحولت إلى سلطة كنسية) وللحرية السياسية (واجب حكم الأمة لنفسها بنفسها) فتحمل عز المسلم وكرامته إلى ذله ومهانته.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي