الببغاوية، مرض اللحظة العربية – الفصل الأول

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الببغاوية

الفصل الاول

لا أنوي تنزيه أسلوب كتاباتي من التعقيد. لكن لا يمكن كذلك أن أقبل أن يبالغ القراء في اتهامي دون تفكير في إمكانية أن يكون التقصير منهم لا مني.

ووصف أحد بالتقصير ليس فيه أدنى تحقير لأن الامر يتعلق بثقافة حقبة عربية مريضة يعاني منها جل الساعين بصدق للمشاركة في الفكر في “ثقافة العجلة”.

وما أظن أحدا درس ابن سينا مثلا يمكن أن يعتبر أسلوبي عسيرا. كما لا يمكن أن يكون أحد درس هيجل أو كنط أو هوسرل ويجد في أسلوبي عسرا غير معتاد.

لذلك فلست اتهم القراء بالتقصير وطلب اليسير ولا أتهم نفسي بتجاوز التقصير وطلب التعسير بل الأمر كله مأتاه من ثقافة تعاني من إشكاليتين خطرتين.

الأولى كونية وهي ثقافة العجلة والعودة إلى الشفهية بدل الكتابية لسواد التعبير بالصورة بدل المفهوم وبالمسموع بدل المقروء: سلطان الفكر المباشر.

والثانية خاصة بكل حضارة لم يعد لأهلها صلة بأعماق فكرها الماضي وأعماق فكر من نافسها في الماضي وتجاوزها في الغوص إلى الاعماق: وتلك هي وضيعتنا.

وأثر الظاهرة الكونية أقل تأثيرا في النشء الغربي منها في النشء العربي. لا شك أن المثقف الغربي خاضع مثل المثقف العربي لتأثيرها لكن فكره محصن.

فنظامهم التعليمي والتكويني يمتح من الأعلام الذين غاصوا في الأعماق فيتعلمون القراءة القادرة على الغوص فيها مثلهم. لكن نظامنا يخلو من ذلك.

لذلك فأي شاب عربي لا يتعلم حقا معنى الفكر والتفكير بل هو يلقن بعض نتائج هذا الفكر دون مقدماتها وما يصل المقدمات بالنتائج من وسائط لا تحصى.

وما يسميه القراء عسرا في كتاباتي هو تجلية هذه الوسائط حتى نتحرر من الفكر المباشر الذي يقفز إلى نتائج دون شروطها. وما يظنه يسرا هو عقم الفكر.

ولست غافلا على أن الكثير يشكك في هذا التفسير للعلاقة بين المقروئية والقارئية في ثقافتنا العربية الحالية. لكن فلينظروا إلى ظاهرة أوضح.

كلنا نركب أحدث السيارات والطائرات وركونها نتيجة لما لا يتناهى من أسرار تكنولوجية وعلمية لا يمكن لمن يجهلها أن يبدعها أو أن يتجاوزها.

القفز إلى النتائج يمكن حله باستيراد السيارات والطائرات. أما إذا أردنا أن نصبح قادرين على انتاجها فلا بد من مثيل الفكر المعقد عند مبدعيها.

وما يصح في حالة المنتجات المادية والوسائط بينها نتيجة وبينها مقدمات علمية ووسائط لتحويلها إلى كيانات تقنية يصح على كل صوغ نظري لأي فكرة.

فلا شك أنه يمكن أن نستورد الأفكار جاهزة دون أن ندرك شروط إنتاجها عند منتجيها ظنا بأن الأفكار بسيطة كسياقة سيارة دون حاجة لتعقيد إبداعها.

وظاهرة اللامبالاة إزاء الوصل النظري بين المقدمة والنتيجة جعل الكثير يطبق قصة “أين اذنك” متصورين أن تلقي النتيجة دون وسائطها فكر وعلم.

ويبرز هذا الموقف خاصة إذا كانت التنجية النظرية بادية لهم وكأنها بسيطة مثل سياقة السيارة. وبهذا الموقف قد يتهم ابن خلدون مثلا بالتعسير.

كيف يضيع الوقت في الكلام على البديهيات: كأن يثبت أن البداوة قبل الحضارة وأن أهل المدينة أصلهم من النازحين إليها إلخ. مما يظن بديهيات.

فإقليدس لو برهن على أن قطعة المستقيم بين نقطتين هي أقصر مسافة إلخ.. لاتهم بأن يضيع الوقت في المعنى البسط لعزلهم إياه عما يجعله ذا معنى.

وهذا الوصل بين النتائج التي تبدو بديهية وشروطها المنطقية بينها وبين مقدماتها هو جوهر المعرفة العلمية والفلسفية. فبه يحصل البناء النظري.

فبالوسائط النظرية يتجاوز الإنسان الفكر المباشر الذي يصلح للسكن في الخيام ولا يمكن أن يحقق ناطحات السحاب إلا بالاستيراد القاتل للإبداع.

يمكنك أن تستورد كل شيء فتبني في صحراء العرب ناطحات السحاب حتى بعقلية بدوية. لكن ذلك يجعلك دائما تابعا للمبدعين لأنك من المستهلكين العقماء.

وعندما تسمع مثقفا عربيا يتكلم على الأفكار الحديثة فالغالب أنه يستعملها استعمال مستورد السيارة الجاهزة وليس بعقلية مبدعها: فيظل عقيما فكريا.

وبذلك فالشاب العربي الذي يريد حقا أن يكون مبدعا يجد نفسه بين ثقافتين ببغاويتين: واحدة تدعي تأصيله والثانية تدعي تحديثه بنتائج من دون مقدمات ووسائط.

وذلك هو ما سمتيه معركة الكاريكاتورين: كاريكاتور الأصالة لتشويه حضارتنا الوسيطة وكاريكاتور الحداثة إيديولوجيا تشويه حضارة الغرب الحداثة.

لكن الحضارتين شديدتا التعقيد ولا يمكن أن نفهم إبداعاتها من دون شروطها مقدمات ووسائط. وعندما نغوص إلى ذلك نكتشف أن شروط الإبداع كونية.

فلا يبقى مبرر لحرب الكاريكاتورين التي غرقت فيها لحظتنا وهما عنفان أحدهما يتوهم تمثيل حضارتنا والثاني يتوهم تمثيل حضارة الغرب وهما نقيضاهما.

إنهما ما يقبل أن يسمى “داعش” التشويه للحضارة الإسلامية و”داعش” التشويه للحضارة الغربية وهو ما يجعل الأمة تعيس صداما حضاريا للببغاوية.

ومن أراد دليلا قاطعا فليأخذه من أخطر الاعمال الإنسانية: فالحروب هي أخطر الأعمال الإنسانية لأنها جامعة بين بعدي الوجود: الحياة والموت.

كل هزائم العرب ترد إلى توهم الحرب مقابلة بين أسلحة صفي الحرب وليست بين مبدعيها ومستعمليها في الصفين. فتكون الهزيمة في المستويين حتمية.

يمكن للسعودية الحالية أن تشتري أفضل ما يمكن لمبدعيها أن يبيعوها لخدمهم في محمياتهم ومثلها مصر عبد الناصر مصر لكن ذلك كان علة هزيمتهما.

ذلك أن الحرب ليست تنافسا بين الاسلحة بل بين مبدعيها ومستعمليها والتناسب بين التكوينين المبدع والمستعمل ولهذه العلة انهزمتا في اليمن.

لأن اليمنيين كانوا يستعملون أبسط الأسلحة التي لا تبعد عما يستطيعون صنعه واستعماله بكفاءة تنقص من يركب طائرة أمريكية أو روسية مستوردة.

فيتبين أن الأمر كله مسألة سياسية تهم وظيفتي الدولة: تكوين الإنسان لحمايته وتأهيله لحماية كيانه وكيان البلدان بكفاءة الإبداع والاستعمال.

لست سياسيا ولا عسكريا. إنما اقتصر على ما أعلم من شروط التكوين والاستراتيجيا التي تؤسس للإنسان الحر روحيا وسياسيا شرطي الكرامة والسيادة.

أعني أن ما يعوق الأمة هو ما يتوهمونه تأصيلا وتحديثا: فالتأصيل صار توطيدا لعلل الانحطاط والتحديث صار توطيدا لعلل الاستعمار: ذلك ما اقاومه.

ومقاومتي لا تتجاوز ما أعتبر نفسي مختصا فيه: تشخيص أدواء الفكر هو الهم الاول للفلسفة (سقراط) وعلاجها بالتكورين السوي هو الهم الأول للتربية.

ففلسفيا (أفلاطون) ودينيا (القرآن) مهمة الفكر السوي هي مهمة طبية تشخص فلسفيا وتعالج علميا وتحقق ذلك بالفعل بالإصلاح السياسي للحكم والتربية

ولا يوجد ما هو أعسر من هذه المهمات الخمس:

  1. التشخيص الديني

  2. والتشخيص الفلسفي

  3. والعلاج العلمي

  4. والتحقيق بالتربية

  5. والتحقيق بالحكم

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي