لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالانسان هو رؤيته لمنزلته الوجودية
لا يمكن أن نفهم بدقة الحل القرآني للعلاقة المباشرة بين الذاتين الحرتين الله والإنسان قطبين في المعادلة الوجودية من دون ان نفهم هذه العلاقة المباشرة بالعلاقة غبر المباشرة بينهما بتوسط العالمين الطبيعي والتاريخي وكيفية رؤية الإنسان للعلاقتين في التاريخ الفكري بما هو تكوينية الوعي. فالعلاقة المباشرة مباشرة من حيث الوجود لكنها غير مباشرة من حيث وصول الوعي إليها عند من خلال مراحل التحرر من الوسيطين اللذين يؤلهان أو يعتبران ذوي وجهين من جنس الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة أو التاريخ الآرخ والتاريخ المأروخ. ومعنى ذلك ثنائية الفعل والانفعال قائمة فيهما. ومحاولة الإنسان للوعي بذاته يحاول أن يفصل بين الفاعل والمنفعل في التاريخ فيجعل نفسه فاعل التاريخ ونفس العملية تحصل في الفصل بين الفاعل والمنفعل في الطبيعة فيوضع وراءها فاعل يفصل عنها فتحصل رباعية الإنسان والتاريخ والله والطبيعة وتبرز العلاقة المباشرة بين القطبين الله والإنسان. وسواء كان الإنسان مؤمنا حقا بوجود فاعل وراء الطبيعة أو غير مؤمن بوجوده فإنه لا يستطيع التحرر من ثنائية الفاعل والمنفعل فيها وتلك هي علة السببية: السببية هي ما يفترضه الإنسان علاقة بين الفاعل (العلة) والمنفعل (المعلول) في الطبيعة لأن مفهوم “الكاوزا سوي” لا يقبله العقل. فالكاوزا سوي أو كون الكائن علة ذاته يضطر إليها المؤمن لقطع تسلسل التعليل وكذلك العقل للبدء في وضع النظريات العلمية والفلسفية لكن العقل يبقى مع ذلك مشدودا إلى التسلسل إلى غير غاية وهو ما تنبه إليه ابن خلدون في لطيفته خلال عرضه لنظريات علم الكلام فبين أن القطع تحكمي. وبين أمرا آخر أعمق وهو أن الفاعلية السببية أمر غير مفهوم وأنه في الحقيقة مجرى عادات بمعنى المفهوم عند الغزالي أو لاحقا عند هيوم. لكن الترابط بين الوقائع في الطبيعة والأحداث في التاريخ يفترضان هذا المعنى الغامض لفاعلية العلة في المعلول. وهذا أيضا من المفهومات الكامنة في المعادلة. وإذن فالإنسان يعرف ذاته دائما بالتضايف مع الله فيكون هو من يقدم الحل لما يشبه التمانع بين القطبين سواء كان الإنسان مؤمنا فيرد الأمر لله أو ملحدا فيرده إما للطبيعة أو للتاريخ وتلك هي منازل الإنسان الوجودية التي عرفها تاريخ الفكرين الديني والفلسفي وهما متلازمان تلازم الذاتين. ولأن الإنسان هو الذي يحدد دور الذاتين فيقسم بينهما السلطان على الوجود ليس بالضرورة في واقع الامر بل في تصوره فإن منازل الإنسان تراوح دائما بين حدين مطلقين إما نفي دوره والتسليم المطلق لربه أو نفي دور الرب وإطلاق دور الإنسان خلطا بين تصوره للأمر وواقع الامر وبين الامرين ثلاث منازل. وخلافا لتخريف المتكلمين على الخصوصيات الفلسفية فإن فرضيتي هي أن كل الحضارات تمر حتما بهذه المنازل الخمسة أي الحدين الاقصيين نفي دور الإنسان ونفي دور الله ثم مستويات قسمة السلطان بينهما لفهم التلازم بين الذاتين في وعي أي إنسان لأن التلازم مقوم ذاتي كل وعي إنساني. ولا يهم إذا كان حضور التلازم سلبيا فحتى نيتشه لا يمكنه التخلص منه وإن ظل حياته يؤكد على نفيه وعلى كونه ضديد المسيح والإنسان الخارق فالخارقية التي يدعيها هي ما يسلبه عما ينفيه وهي المتضايف الذي يمكن للمرء أن يدعيه إذا نفى صاحبه وخاصة بحجج من جنس حجج نيتشة. ولأبدأ به. فالحياة الفنانة التي هي بمعزل عن الخير والشر تحدد للإنسان مهما توهم لذاته من عظمة إلى مجرد “فبريكة” تحول ما تأخذه من الحياة في الطبيعة إلى حياة ولا منزلة أخرى لها عدى أوهامها ما دامت لا تؤمن بحقيقة وراء الابداع الفني للطبيعة التي هي بمعزل عن الخير والشر. ولا يمكن للتشاؤم أن يتجاوز هذا الحد: الأنا ينزل بمنزلته إلى الحد الذي ينفي عنه كل تعال على الطبيعة-عملا بقول سبينوزا-ويذكره بأنه ليس دولة في الدولة بل مجرد حال من أحول الجوهر الذي هو الطبيعة الطابعة طبعا فنيا بمعزل عن الخير والشر أي ما يتميز به الإنسان المقيم لكل شيء. وسبق لي أن بينت أن التقييم أو التقويم لا يقتصر على الخير والشر ولا على اصناف القيم الثلاثة المعهودة (الحقيقة والباطل والخير والشر والجميل والدميم) فقبلها نوعان شارطان للتقويم: 1. التوجيه (جهات الوجود) الدال على المقابلة مضطر حر 2. الأساس هو هذا التلازم بين الذاتين الآلة والمألوهة وبهذا المعنى فحتى “بمعزل عن الخير والشر” تقييم. لست من القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين ولا حتى بمعناها عند ابن تيمية. لكني من القائلين بأن العقل بنيته الذاتية من حيث هو وعي بالتلازم بين الذاتين لا يمكن ألا يقيم إذ هو بالجوهر وبمقتضى هذا التلازم مقيم لكنه لا يحدد تعين القيم. فأعيان القيم من جنس أعيان الشرائع هي أدوات ظرفية لعلاج معضلات ظرفية في قيام الإنسان بوظيفتيه أعني بمقومي كيانه من حيث هو مستعمر في الأرض (جوهر السياسة) ومستخلف فيها (جوهر الاخلاق) والتلازم بين السياسة والأخلاق موجبها وسالبها هو ثمرة وعي الإنسان بمنزلته الوجودية. فلأعرف المنازل الثلاث بين الحدين الاقصيين في حسم قضية التمانع بين سلطان الله وسلطان الإنسان في وعي الإنسان الذي هو القاسم بينه وبين ربه من خلال تصوره لدور القطبين في المعادلة. فالمؤمن المطلق ينفي كل دور للإنسان فتكون العبادة عبودية. والملحد المطلق ينفي كل دور للرب فيقع في مأزق. الوجودي الملحد يحمل نفسه ما لا طاقة له به فيدعي أنه مسؤول عن كل ما يجري في العالم وهو كاذب لأنه يعلم أنه ليس مسؤولا حتى على ما يجري في عروقه وتكفيه وعكة خفيفة ليدرك أنه لا حول له ولا قوة أمام قوانين البايولوجيا ناهيك عن العالم تاريخيه وطبيعيه. فيتشاءم ويتحول إلى فوضوي وهدام. وبين هذين الحدين المطلقين توجد حلول التصوف الثلاث وحدة الوجود المردود إلى الطبيعة ووحدة الوجود المردود إلى التاريخ ووحدة الوجود المطلقة. والأولى هي أصل كل دين بما فيه الدين السوي الذي يعتبر افعال الله تظهر خاصة في الطبيعة ويعتبر ظاهراتها تدخلا إليها مباشرا في التاريخ مثلا. لما وقع التسونامي وكنت حينها في كوالالمبور كنت أسمع المؤمنين الصادقين من عامة الشعب مع خبث علماء الدين يؤلون ذلك بأنه عقاب إلهي للفجرة من البشر وليس ظاهرة طبيعية عادية. ولا يعني ذلك أنهم يؤلهون الطبيعة بل بالعكس هو يعني أنهم يعتبرونها من آيات فعل الله في الوجود. وحدة الوجود الطبعانية قابلة إذن إلى تأويلين: مؤمن وملحد. ونفس الشيء بالنسبة إلى وحدة الوجود التاريخية ومدارها نسبة السلطان للإنسان إما بوصفه متمانعا مع الله أو بوصفه أداة فعله تماما كالحال مع تصور الطبيعة عند المؤمنين. فيكون ابن عربي ممثلا لهذا الاتجاه. وتبقى الوحدة المطلقة. ونسبة الوحدة المطلقة إلى الحد الإلحادي هي نسبة وحدة الوجود الطبعانية إلى الإيمان. فهي بتأليه الإنسان ونفي الألوهية خارج الذات الإنسانية التي تصبح هي خالقة الله طلبا لاستكمال ذاتها يمكن اعتبارها من ثمرات محاولات هيجل تذويت وحدة الوجود السبينوزية كما تعين في الفيورباخية. تلك هي منازل الإنسان الوجودية الخمسة: الإيمان المطلق الذي يحل معضلة التمانع بين الله والإنسان المتلازمين في ذات الإنسان بنسبة الامر كله إلى الله وتجريد الإنسان من كل سلطان واعتباره مجرد دمية بيد قوة لا محدودة هي رؤيته للإله مقابل كيان لا حول له ولا قوة في الوجود عدا العبودية. ويقابلها نقيضها الذي هو من أماني الملحد. لكنه في الحقيقة مآل اليائسين لأن الإنسان يصبح في تناقض بين ما يعتقد وما يعيش: وهذا بين في موقف الوجودية الملحدة. فالقول إن الوجود متقدم على الماهية عديم المعنى لأن مجرى الوجود ذو نظام وبنية وتلك هي ماهيته حتى لو كان مطلق الفوضى. ومطلق الفوضى من باب أولى ناف لكل سلطان لأي إنسان على المكان وعلى الزمان وعلى ما يملؤهما من حدثان. فيرتد الامر إلى الخيار بين هذا اليأس المؤدي إلى الانتحار وهو الحل الوحيد في الوجودية الملحدة أو الخيار بين الحلول الثلاثة التي ذكرت. وهي كلها تمظهرات التلازم بين الذاتين.