لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالانسان هو رؤيته لمنزلته الوجودية
وصلنا إلى فرضية وضعنا فيها الإيمان جانبا لنحاول المقارنة بين المنزلتين التي تحددها الآية والتي تحددها مدرسة اليسار الهيجلي باعتبارها انتقالا من علم الكلام القديم الذي يحدد المنزلة نزولا من الله إلى الإنسان إلى علم الكلام الجديد الذي يعكس جاعلا الإنسان شاغلا لمنزلة الله.
ذلك أن الهدف هو مقارنة المنزلتين في حد ذاتهما بصرف النظر عن الإيمان بالأولى وبالثانية لأن الموقفين ليسا مبنيين على العلم بل على موقف من منزلة الإنسان تبادل الله والإنسان فيها الدور: من كان خالقا صار مخلوقا ومن كان مخلوقا صار خالقا لطرف العلاقة الثاني لكنهما يجمعان على وجود العلاقة.
وإذ ليس بوسع الباحث أن يعلم ما يمكن أن يحصل لله إذا استغنينا عن الحد الثاني من العلاقة أي الإنسان فإن كل ما يعنيني هو السؤال المقابل: ماذا يمكن أن يحصل للإنسان لو استغنينا عن الحد الأول من العلاقة أي الله سواء كان البداية والفاعل أو النهاية والمنفعل بحسب الموقفين؟
هذا السؤال الذي يبدو غريبا هو الطريق لعلاج المسألتين اللتين تعنياني لأني كما عبرت عديد المرات لا أتكلم في الغيب الذي أؤمن به فضلا عن إيماني بأن الآية حقيقة رغم وضعي الإيمان بين قوسين في كلامي على المسألة لأن الاستدلال يكون أمتن على طبيعة المنزلة الإنسانية الأكثر قابلية للتصديق.
ولأبدأ فأشرح علة قولي إن الموقفين دينيان ليس لأنهما يشتركان في التلازم بين القطبين فيحددان للإنسان سواء عندما يتمانعان فتدعي كل واحدة منهما نفي الثانية أو عندما نقبل بهما معا. فالآية تقبل التوفيق مع الموقف الثاني لأن الإيمان بها لا يتنافى مع امتناع تصور الله إلا أنتروبومورفيا.
ومعنى ذلك أن الإنسان لا يستطيع تصور الله حقا إلا بقياسه على الإنسان وهو ما ينهى عنه القرآن {ليس كمثله شيء} لكن القرآن يقدم صورة فهمت أنتروبومورفيا (=على صورة الإنسان) عند الكثير من النصيين والسلفيين وحتى عند السلفية المحدثة التي لم يقبل منها ابن خلدون “له يد ولكن ليس كيدنا”.
فيكون تصور لودفيش فيورباخ من هذا الجنس مع نفي حقيقة وجود الله واعتبار الله مجرد هذه الصورة المثالية من الإنسان في خياله تعويضا عن عدم كماله. وطبعا فهو لا يشرح طبيعة هذا الاستكمال الخيالي ما علته في كيان الإنسان. لذلك فلنجرب تصور الإنسان مجردا من هذه الصورة “الخيالية”.
لكن قبل ذلك فلندرس الإنسان وما حل به بعد تجريده مما نفي وجوده وراء الصورة الخيالية المزعومة: الإنسان من دون الإيمان بوجود حقيقي لله وراء الصورة الخيالية التي يبدعها حسب هذا الرأي. وهو فرضية كل الذين يدرسون الاديان بوصفها ظاهرة من إبداع خيال الإنسان في علاقته بالطبيعة والتاريخ.
فما يعتبره فيورباخ استكمالا لوجود الإنسان ليست مسألة فردية بل هو عند دارسي الظاهرة الدينية انثروبولوجيا مجرد اسقاط لعلاقة الإنسان بالطبيعة والتاريخ في ترجمتها السياسية على العالم كنظام شبه سياسي للكون كما يتبين من الميثولوجيات التي تضع عالم آلهة ذات سلطان على عالم الإنسان.
بعبارة وجيزة يمكن رد ما يقوله فيورباخ إلى ما صار أساس كل دراسة للظاهرة الدينية: هي كما يقول القرآن في نفاة الأديان اساطير الاولين. وما تضيفه النظرية الهيجلية سواء قرئت لدى شيوخها أو شبابها هو جعل ذلك بنية مقومة للإنسان سواء بالإبقاء على الروح الهيجلية أو الاستغناء عنها لاحقا.
ومن ثم محاولة تحقيق هذا الاستكمال “الخيالي” في الواقع الفعلي بجعله هدفا للثورة بالمعنى الماركسي للكلمة. وسواء قلنا بوجود الله فعلا أو اعتبرناه مجرد خيال انساني احتجاجا على الظلم فإن الحصيلة واحدة لأن ما يؤجل العدل ليوم الدين على الاقل في الإسلام هو تحريف الدين.
وهذا هو الوجه الثاني من المسألة: ماذا يترتب على التلازم بين الله والإنسان بصرف النظر عن الوجود الفعلي أو الخيالي لله في تاريخ الإنسان من حيث هو ساع لتحقيق ما يقتضيه هذا التلازم من الاشرئباب الدائم للاستكمال فتكون منزلة الإنسان في الحالتين متحددة دائما به كما في مفهوم الاستخلاف.
فتحديد القرآن لمنزلة الإنسان بمفهومي المستعمر في الأرض (في صلة بشروط قيامه العضوي) ومستخلف فيها (في صلة بشروط قيامه الخلقي) هما فيه يتحقق الاستكمال سواء آمنا بوجود الله أو اعتبرناه مجرد فكرة إنسانية لا يمكن لرؤاه لنفسه ولشروط قيامه الاستغناء عنها مثالا للاستكمال.
فيكون ما يتوهم ثورة على الدين في الفلسفة الحديثة وما بعدها مجرد نقل لدلالاته من عالم الأعيان إلى عالم الاذهان بمنظور إنساني انطوائي هو ما سنحاول الانطلاق منه لننظر في مدى جديته ومصداقيته التفسيرية لما يراد تفسيره به لأنه في الغاية يعود إلى ما يشبه تصوف الوحدة المطلقة.
ذلك أننا إذا نفينا الوجود القائم بذاته للربوبية في الأعيان وإن لم يكن قابلا للإدراك الحسي فسيكون من باب أولى نفي الوجود القائم بذاته للعالمية (طبيعة كانت أو تاريخا) رغم كونهما قابلين للإدراك الحسي إلا إذا سلمنا بأن الإدراك الحسي هو المعيار. ولا شيء يثبت أن المحسوس ليس من خيالنا.
وهذا هو ما يقول به تصوف الوحدة المطلقة (انظر شفاء السائل لابن خلدون). فلا يكون موجودا في الوجود إلا “الأنا” الذي يدركه الإنسان إدراكا يظنه متطابقا بمعنى أن المدرك (فاعل) والمدرك (مفعول) أمر واحد وكل ما عداه هو من إبداع الانا بخياله. والمحاسبي في التوهم يعتقد ذلك كذلك في الآخرة.
فلنبدأ إذن من “الأنا” سواء فضالة للتجريد الناتج عن التشكيك المنهجي عند الغزالي أو عند ديكارت أو عند فشت أو في الفينومينولوجيا بعد رفع كل ما عداه ووضعه بين قوسين. وحينها يبدأ مشكل الخروج من هذا الأنا المنطوي على ذاته والذي يعتبر كل ما عداه من إبداع خياله وتصديقه لذاته.
وبين أن كل محاولات الخروج من هذا الانطواء ليست مقنعة: لا طور ما وراء العقل الذي يشكك فيه تشكيكه هو في الحواس (الغزالي) ولا الكوجيتو (ديكارت) ولا وضع الأنا للاأنا (فشته) ولا الأنا المتعالي (هوسرل) ولا أخيرا عقيدة الوجود المادي خارج الأذهان للجدلية المادية (الماركسية).
لكن نتيجة إيجابية مهمة حصلت من هذه السلوب او العجز عن الخروج من “الأنائية” المنطوية على أنائيتها وتتمثل في أن الإيمان بوجود العالم الخارجي الطبيعي والتاريخي لأنه محسوس ليس أكثر ثبوتا عقليا من وجود العالم الذي يفترضه الدين وراءه: كلاهما تسليمي حتى وإن كان الأول يبدو اقوى حضورا.
وهو المفهوم الذي انتهى إليه يعقوبي في رؤيته للعلم الأمتن والأكثر اقتناعا والذي يجعل اثبات الوجود الخارجي سواء الطبيعي والتاريخي أو ما وراءهما هو الإيمان ذاتيا والحضور المفروض على الإنسان الذي لا يستطيع منه فكاكا موضوعيا ومثله مفهوم التلازم بين الذاتين الآلهة والمألوهة.
ومعنى ذلك أن الإنسان لا يستطيع الخروج من الانطوائية من دون الإيمان بحقيقة الوجود الخارجي ليس للطبيعة والتاريخ وحديهما بل لذاته وراء وعيه الباطن بها فيكون هو بدوره ذا وجود في الاعيان مختلف عن وجوده في ذهنه لئلا يكون الوجود ذهنيا قائم في وجود ذهني فما يقوم فيه الذهني ليس ذهنيا.
والتلازم بين الذاتين الآلهة والمألوهة يفيد ما يفيد التلازم بين وعي الذات بذاتها ووجودها خارج وعيها كيانا يقوم فيه الوعي الذاتي. فيكون التلازم بين الذاتين تلازما بين كيانين لا يقتصر وجودهما على الذاتي منهما بل إن لكل منهما قيام يكون الوعي به إحدى صفاته أو أفعاله وليس مجرد خيال.
وأخيرا فهذا الأنا العري عن كل ما حوله ليس وعيا ببداية الوجود الفعلي للإنسان مهما عاد بذاته إلى ماضيه ليعلم لحظة البداية في الشعور بما عداه من حوله على افتراض أنه يمكن أن يعي ذاته من دون ما حوله وخاصة كيانه العضوي الذي يقوم فيه وعيه بذاته. فيكون الوعي الانطوائي غاية عملية تجريد.
فلكأن الإنسان يقوم بعملية “ستريب تيز” ليتخلص من كل ما عدا وعيه بذاته. ولا أحد يمكن أن يبدأ ما يسمى بفعل النظر الفلسفي والعلمي من دون هذه العملية التي ترد الذات فيها ذاتها إلى شبه عين ناظرة لما عداها وحتى لذاتها وكأنه ينظر إلى الوجود في قيام مقابل لذاته: عين الوجود الخارجي.