لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالانسان هو رؤيته لمنزلته الوجودية
وهكذا فلا النور الذي قذف في قلب الغزالي ولا ضمانة الله في عقل ديكارت يمكن أن تحرر من خبث الشيطان المشكك في الوجود الفعلي في الاعيان خارج الأذهان عدا الحضور القاهر لما يحيط بالإنسان الداخل إليه من مسارب الحواس التي تتلقى سيلا جارفا من رسائل من عالم محيط طبيعي وتاريخي.
وأول تدفق لهذا الحضور القاهر هو بدن الإنسان الملاصق لمعين الكيان المستمد من الطبيعة ومن الجماعة وكلاهما يمتد إلى كل المكان وكل الزمان المتقدمين والمساوقين والمواليين لكأن هذا الأنا الذي تعرى من كل ما عدا وعيه مدرِكا وذاته مدرَكة نقطة هي مركز ما يخرج من أشعة في كل اتجاه.
وهذا الخروج من النقطة التي يمثلها “الأنا” لا تتوقف عند حدود المكان والزمان بل هي تشعر بأنهما لا يكتفيان بذاتها فتضع وراءهما ذاتا مقابلة متمانعة وضعها ممثلة للامتناهي لازمها تضاؤل الأنا إلى ما يشبه العدم قبالة الوجود الطاغي لهذه الذات التي لا يتخيلها الإنسان إلا بوصفها لا محدودة.
والمحير هو مفهوم الذات اللامحدودة سواء بمعناها أصلا للوجودين الطبيعي والتاريخي ومنهما الإنسان حصيلة تجمع بين ثمرتيهما أو فرعا عن هذا الإنسان الجامع بالمعنى الفيورباخي واستحالة أن يوجد وعي إنساني مهما كان صاحبه أميلا لا يقفز مباشرة من كيانه المتعين زمانا ومكانا إلى ما يتجاوزهما.
وهذا التجاوز إلى اللامتناهي والمطلق متلازم مع الوعي بكون الذات بالقياس إليهما متناه ونسبي في مقوماته الخمسة التالية: فهو مريد وعالم وقادر وحي وموجود وكلها مصحوبة بالوعي الذي يجعلها مهما تعاظمت دون اللامتناهي والمطلق وهي من ثم متلازمة مع ما ينفي اتصافها باللاتناهي والإطلاق.
وهذا التلازم بين الوعيين بالتناهي واللاتناهي هو منطلق دليل ديكارت على وجود الله اعتمادا على التضايف بين الوعيين. فالوعي بلا تناهي الأنا هو في آن وعي بمضايفه أو اللاتناهي. الأنا يعلم ويعلم أن علمه محدود والعلمان متضايفان ومن ثم فوجود الاول يقتضي وجود الثاني لقيسه به.
لما وضعت نظرية المعادلة الوجودية المؤلفة من قطبين متلازمين في علاقة مباشرة ومتواصلين بعلاقة غير مباشرة الوسيط فيها هما عالم الطبيعة معين قيام الإنسان المادي وعالم التاريخ معين قيامه الروحي لم يكن القصد عرض موقف شخصي بل بيان ما لا يمكن لأي موقف أن يخرج عن وصل عناصرها أو فصلها.
فالفصل هو بيان هذه العناصر المقومة والوصل هو ما ينتج عن إدغام أحد القطبين فيها فينتج عنه ضرورة ادغام الثاني فيها ما يؤدي إلى وحدة الوجود الطبعاني الجوهري (سبينوزا) او التاريخاني الذاتي (هيجل) أو المواقف الصوفية التي ذكرت وخاصة صوفية الوحدة المطلقة (ابن خلدون).
ويبقى مدار الأمر كله حول العلاقة المباشرة بين القطبين سواء في صورتها القرآنية أو في صورتها الفيورباخية (افترضنا أن الصورة القرآنية دون تحديد مصدرها وحيا أو وضعا) فكلاهما خالق للثاني ومخلوق له على الأقل من حيث التصور: فالإنسان حتى وهو مؤمن لا يستطيع تصور الله إلا على تشبيها.
وإذ وضعنا الإيمان بين قوسين فإن الموقفين يتحدان في استحالة تصور الله إلا تشبيها ولهذه العلة جاء التنبيه القرآني “ليس كمثله شيء” وهو تنبيه حاول ابن عربي التخلص منه بجعل النفي متعلقا بمثله وليس به بمعنى أنه يقر بأن له مثلا وهو تحيل بناه على “كـ” في مثله وهي في لسان العرب ما فهم.
ولما كان قول فيورباخ لا دليل علي نفيه ما يتجاوز مجرد التشبيه فإن هذا النفي إيماني وإن سلبا ولا يختلف عن الإيمان بوجود الله الذي لا يقتصر على التشبيه الدال ليس على أنه مقصور على تصور الإنساني الانثروبومورفي الذي يدل على عجز الإنسان على تصوره وليس على حصر وجوده في تصوره العاجز.
واغرب ما في الامر أن الإنسان ليس عاجزا عن تصور الله إلا بالقياس إلى ما يظنه تصورا تاما لذاته وهو في الحقيقة لا يستطيع تصور ذاته تصورا تاما لأنه بعد أن يجرد ذاته مما يحيط بها بما في ذلك كيانه العضوي مبقيا على “أنا” فحسب فإنه لا يمكنه تصور الأنا فهو أشبه بالثقب الاسود.
فالأنا يبتلع مقومات المعادلة الوجودية كلها ويكاد يقول هل من مزيد بمجرد أن ينفي ما يحيط بيه طبيعة وتاريخا وقطبا ثانيا فيصبح قطب العدم المطلق: لا شيء قابل لأن يمسك به بل هو ثقف فاتح فاه لابتلاع كل شيء بمعنى الرؤية الصوفية للوحدة المطلقة: وقد شبهها التلمساني بأمواج المحيط.
ويبقى هذا الوعي بالعدم مع ذلك وعيا بتحاضر في الذات المتفاصمة مع ذاتها لأنها وعي متحاضر مع ما لا يقبل الحضور في تحاضر طرفاه الذات الواعية بموضوع وعي غير قابل للتحديد لكأنه مثل المألوه الذي لا يقبل التصور إلى برده إلى ما للذات من قدرة على تصور ذاتها منفصمة إلى ذات وموضوع لا ينحصر.
وهذه العلاقة غير القابلة للإمساك بها هي ما جعل هيجل يعتبر الروح الكلي متعينا في الروح العيني سواء كان روح شعوب او روح أفراد أو مفهوم الروح بإطلاق سعيا منه لتأسيس نظرية الثالوث بوصفه ثمرة هذه العودة التي يكون فيها الروح ذاتا وموضوعا وتوليفا متعاليا على التقابل بين الذات والموضوع.
وهو تصور لا يختلف كثيرا عن مفهوم الرب في مقالة اللام من ميتافيزيقا أرسطو الذي هو تثليث الواحد أو العقل الذي يعقل ذاته فيكون عاقلا ومعقولا وعقلا. وقد بينت أن هذا التعدد في هذه العملية إذا قبلنا بها فهو يكون تخمسيا لا تثليثا: فالعقل العاقل والعقل معقول ينتج عنهما عاقلية ومعقولية.
ذلك أن العلاقة بين العاقل والمعقول لها اتجاهان من العاقل (اسم فاعل) إلى المعقول (اسمم مفعول) في الاتجاه الاول ومن المعقول إلى العاقل في الاتجاه المقابل وهما العاقلية والمعقولية ولا يمكن مهما تحيل الجدل أن يبقى في التثليث بل لا بد أن يعتبر الـ “من حيث” المختلف بحسب الاتجاهين.
فيكون لدينا أربعة فروع: عاقل ومعقول وعاقلية ومعقولية ثم أصلها جميعا هو وحدتها أو ما اعتبرناه جوهر الكيان الذي له هذه الـ”من حيث” فعل العقل ومفعوله وكونه ذاتا وكونه موضوعا. فتكون ذات الله وكذلك ذات الإنسان مخمسة الابعاد: ذات واعية وموضوع وعي وفعل وعي ومفعول وعي والأنا الواحد.
وللتيسير سأسمي النموذج المسيحي بالنموذج المستمد من الظاهرة العضوية (المسيح ابن الله) والنموذج الإسلامي بالنموذج المستمد من الظاهرة السياسية (الإنسان خليفة الله) فإن المقارنة تصبح بين مفهوم المسيح ابن الله وآدم خليفة الله: نموذج عضوي (ابن)ونموذج سياسي (خليفة).
كل الفكر الديني والفلسفي خلال القرون الوسطى والقرون الحديثة إلى الآن مداره هذان المفهومان العضوي والسياسي في تصور العلاقة بين القطبين في المعادلة لتحديد منزلة الإنسان وعلاقته بالطبيعة والتاريخ موضوعا يوحد إما طبيعيا أو تاريخيا وهما ضربا وحدة الوجود سواء كانت فلسفية أو صوفية.
وهذه الوحدة الفلسفية أو الصوفية لا تنفي القطبين بوصفهما مجال البحث فيما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ بل هي تردهما إلى الطبيعة أو إلى التاريخ فيصبح الماوراء محايثا لما هو ما وراؤه فتنفصم الطبيعة إلى طابعة ومطبوعة والتاريخ آرخ ومأورخ: فالتاريخ كأحداث مأروخ والتاريخ كحديث آرخ.
ولم يبق إلا فصلان نبحث فيهما ما يعنينا أعني علاقة الآله والمألوه في النموذج السياسي الإسلامي -المستخف والخليفة- وكيف فهمه المسلمون فهما سيئا فجعلة الخليفة مجرد دمية يسيرها المستخلف عن بعد لا مكلفا كما يصفه القرآن ومسؤولا على فعليه النظري والعملي ما يجعل حياته اختبارا يليه حساب.