لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالانسان هو رؤيته لمنزلته الوجودية
قول الله جل وعلا “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” تحيرني أكثر مما يحيرني عكسها عند الشباب الهيجلي وخاصة عبارة لودفيج فيورباخ (Homo homini Deus) التي مفادها أن الإنسان خلق الله على صورة مثالية من ذاته رغم أن هذه تبدو أكثر إطلاقا من تلك.
وأعلم أن المتصوفة والشائع في المسيحية أن الله خلق الإنسان على صورته. وقد أولها ابن تيمية بتطبيق قواعد اللسان العربي بحزم إذ اعتبر الضمير يعود على الإنسان وليس على الله ما يعني ان الله خلق الإنسان على صورة الإنسان وليس على صورة الله. المشكل هو التلازم اللازم بين القطبين.
ما يحير عقل أي إنسان حتى لو لم يكن من عصرنا هو: هل الله يحتاج إلى أن يعبد؟
أي هل الحصر في جعل خلق الإنس والجن في العبادة يعني أن وجودهما في ذاته ليس ذا معنى؟
أو بصورة أدق هل معناه أن الإنس والجن مخلوقات حقيقة وجودهما هو العبادة ولا شيء سواها؟
كيف نفهم عندئذ وجود الملحدين؟
لو كان الامر متعلقا بدلالة “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” وحدها لكان كلاما في الغيب ولما قلت في الامر شيئا لأني كما هو معلوم أرفض الخوض في الغيب. ورفضي علته أني أولا أومن بآل عمران 7 وثانيا لا اعتقد أن الإنسان يمكن أن يعلم الغيب حتى فيما منه شاهد فضلا عما ليس بشاهد.
ما يدفعني للكلام في الامر هو دلالة “خلق الإنسان على صورته” وكيف قرأها ابن تيمية ليحل العقدة بمجرد تطبيق قاعدة نحوية عربية في مرجعية الضمير ودلالة خلق الإنسان الله على صورته أي على صورة الإنسان تماما كانت تفهم خلق الله الإنسان على صورته جعلا للضمير يعود للفاعل لا للمفعول به.
كلامي دافعه ليس الآية القرآنية بل قلبها عند فيورباخ مع جعل مدار القول الخلق وليس علته في الآية. فعلة خلق الإنسان حصرت في العبادة قرآنيا وهو ما يضعنا أمام مشكل علاقة العبادة بالمخلوق الإنساني هل هي كل كيانه أم هي أحد افعاله فيكون السؤال حينها متعلقا بما يفضل عن العبادة من الوجود.
ويجتمع الإشكال كله في “منزلة الإنسان الوجودية” ما هي؟
هل هي مقصورة على ما لأجله خلق في المعنى القرآني؟
وهل ما لأجله خلق “حاجة” إلهية وما طبيعتها إذ قد يتصور الباحث عن فهم الحصر وفهمه وكأنه دليل “حاجة” أن ذلك نظير العلاقة العكسية في الفيورباخية دليل استكمال؟
والاستكمال في حالة القرآن ليس لله بل للإنسان أي إن تعليل الخلق بالعبادة هو تحديد لمنزلة وجودية يتجاوز بها الجنس والإنس منزلة الكائنات الحية الاخرى وهو ما يمكن أن يطابق مفهوم الاستخلاف للإنسان ولا ندري طبيعة ما يطابقه للجن. لذلك فالبحث سيكون: ماذا يكون حال الإنسان من دون العبادة؟
سأحاول تعريف الإنسان بعد تجريده من العلاقة في اتجاهيها “الله خالق الإنسان والإنسان خالق الله “أي سأحذف من المعادلة الوجودية -عرفتها سابقا-أحد قطبيها الله خالقا أو مخلوقا وأبقي على القطب الإنسان لا مخلوقا ولا خالقا بل الإنسان مجردا من مخلوقيته وخالقيتها أي مما يتعالى عن ذاته.
وما يتعالى عن ذاته الحقيقي يعني أن الله موجود وهو خالق الإنسان وما يتعالى عليها وهما هو أن الإنسان يبدع من ذاته في وهمه صورة من ذاته مطلقة يستكمل بها ما يشعر به من نقص في ذاته فيكون واقع الإنسان متضمنا إبداع مثاله الاعلى التام الذي يستكمل به واقعه الناقص.
ورغم أن ذلك فيه اعتراف بالتلازم بين منزلتين للإنسان واقعة ومثالية وقدرة إبداعية للمثال الذي يستكمل به الواقع فيكون المثال الذي يبدعه خيال الإنسان أتم وجوديا من وجود الإنسان الذي أبدع بخياله مثاله. وهو قلب للعلاقة بين الواقع الفعلي والمثال الوهمي دون التراتب الأفلاطوني بينهما.
لماذا تعتبر هذه المسألة مهمة؟ فهي لا تقتصر على تحديد منزلة الإنسان الوجودية بل تتعداها لفهم ما يسمى بعلم الكلام الجديد الذي نسمع عنه كثيرا بين الباحثين الذين يريدون تحقيق نفس النقلة التي حدثت في الغرب من علم كلام بؤرة اهتمام البحث فيه الله إلى علم كلام بؤرته الإنسان.
وعندي أن التلازم بين القطبين في معادلة الوجود التي حاولت تحليلها سابقا في غير موضع يجعل بؤرة الاهتمام في الحالتين ليس أحدهما دون الثاني بل العلاقة بين القطبين: فيكون علم الكلام القديم ينظر إلى العلاقة بما يقرب من دلالة الآية والحديث إلى ما يقرب من دلالة قول فيورباخ.
وكلا التوجهين يتحدان في الرؤية الهيجلية التي تمثلت في مراجعة وحدة الوجود بتذويتها انتقالا من وحدة الوجود الابن عربية (الله عين العالم والإنسان الكامل عين الله إن صح التعبير) والسبينوزية لانتقال من جوهرانيته إلى ذاتوية هيجل: الروح المتعين في الوجود كله وذروته الإنسان.
والدلالة العميقة لتذويت جوهرانية سبينوزا (الطبيعة الطابعة شبه إله محايث في الطبيعة المطبوعة) هي في الحقيقة الانتقال من طبعانية وحدة الوجود إلى تاريخانيتها: فالتذويت يجعل الطبيعة وكأنها جمود الروح والتاريخ وكأنه كما يصفه هيجل “ثيودوسيا” أو نظرية في العدل الإلهي: تاريخ الروح.
ومرة أخرى وقبل التقدم في البحث اعتذر للقراء لأن ما أتكلم عليه فيه الكثير من الضمائر أو المضمرات التي يعلمها من يعلم تاريخ الفكر الغربي ما بعد العصر الحديث أي بداية من هيجل والمدرستين اللتين ورثتا فلسفته بما اليمينية واليسارية ومن هذه الماركسية والوجوديتان المؤمنة والملحدة.
بل إني أذهب إلى أبعد من ذلك فحتى النيتشوية باعتماد مفهوم الحياة العام أو الهيدجرية باعتماد البعد الوجودي للفينومينولوجيا (بالمقابل مع البعد الإبستمولوجي والمنطقي للهسرلية) كل ذلك يدور في فلك هذه العلاقة بين الإنساني وما يتعالى عن وجوده في معتقده أو في وجدان حياته شبه الصوفي.
وليس قصدي استعراض المعلومات فهي في متناول أي إنسان يطلب المعرفة ولا دلالة لها على التعالم بل القصد الأساسي بيان ما أومن به من وحدة التجارب الروحية والفلسفية الإنسانية وأن كل كلام على الخصوصيات من أوهام من يؤدلج الفكر الإنساني فيفلكره (من الفلكلور): العقول الكبرى واحدة وكونية.
ولهذا تكلمت على منزلة الإنسان عملا بما سبق إليه ابن خلدون: لم يجعل موضوع علمه علم العمران الإسلامي بل علم العمران البشري والاجتماع الإنساني. ومرة أخرى فإن العلوم والفلسفات الخصوصي فيها هو تنوع موضوعها لكن الكوني والكلي فيها هو علاجها العلمي والفلسفي.
فتعدد النفوس والفروق بينها-مثل ما يدرسه علم الفروق النفسية-لا يجعل علم النفس خصوصيا بل هو كلي كعلم يعالج الفروق النفسية مثلا. وطبعا المجتمعات والرؤى من حي هي موضوع معرفة متعددة وخصوصية لكنها علمها ليس خصوصيا تماما كعلم الحياة فالعضويات متنوعة وعلمها واحد.
ونفس الامر يقال عن درس “منزلة الإنسان الوجودية” حتى لو تعددت تعيناتها واختلفت أساليب عيشها وإدراكها المباشر في الثقافات المختلفة يبقى مطلوبه كونيا من حيث فن العلاج الفلسفي الذي ينحو إلى معايير المعرفة العلمية سواء كانت تحليلية أو تأويلية بصورة يجمع عليها أهل الاختصاص.
فإذا كنا في علاجنا نطلب الكلي والكوني سواء في درس الطبيعة أو في درس التاريخ وسواء كان ذلك بمنظور نازل مما فوقهما ماوراء لهما أو صاعد مما دونهما ما دون لهما فإن ما بين البدايتين والغايتين هو المقصود لأن البنية واحدة نزولا أو صعودا: لا فرق بين المسارين إلا بالاتجاه مع التلازم.
فعقلا لا فرق بين القول إن الله خلق الإنسان على صورته أو القول إن الإنسان خلق الله على صورته: كلاهما عقد وليس علما. ولما كان الامر كذلك فالمهم ليس المفاضلة بين الرؤيتين بمجرد صيغتهما بل المفاضلة التي تنتج عن التفاضل بين نتائجهما في وجود الإنسان الناتج عن منزلته فيهما.
وبذلك يتبين أن الامر لا يتعلق بمعرفة عقلية بل بتجربة وجودية يعيشها الإنسان بوصفها تعبيرا عن تحديد مجال الحرية والأخلاق أساسين للمفاضلة بين الاعتقادات من خلال ثمراتها في حياة الإنسان. وعندي أن كلا الموقفين ديني لأنه في الحالتين مناوس بين قطبي المعادلة الوجودية كما حددتها سابقا.