لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الانحطاط
بقي فصلان من المحاولة أخصص أولهما لمفهوم الاجتهاد والثاني لمفهوم الجهاد بناء على كل ما قدمناه في فهم علل فساد معاني الإنسانية الذي يعتبره ابن خلدون ليس سر الانحطاط فحسب بل سبب انقراض الحضارات والامم. وقد عرض ذلك في كلامه على التربية وعلى الحكم أي بعدي السياسة.
فعلل الانحطاط التي جمعها ابن خلدون في مفهوم “فساد معاني الإنسانية” تعود إلى علل فساد التربية وفساد الحكم بعدي كل سياسة تنتج عن المقدرات الذهنية الرياضية التي تضع المثل العليا للعلم والفن في النظر والذوق والمقدرات الذهنية السياسية التي تضع المثل العليا في العمل والأخلاق.
والعلم والعمل الإنسانيان يتحققان بجعل التجربة فيهما تطبق ما يحتاج إليه الإنسان من قوانين الطبائع في انجاز النظرية العلمية والتقنية وسنن الشرائع في إنجازات العمل السياسي والخلقي. والأول وكلاهما جزء مقوم للاجتهاد نظريا وللاجتهاد عمليا. وذلك ما علينا بيانه ونبدأ بالاجتهاد.
الاجتهاد هو بالجوهر مجال التقدير الذهني. لكن الفقهاء حصروه فيما يسمونه علوم الملة وخاصة في الفقه. وهي عملية التشويه الاولى للاجتهاد. وهو تشويه مضاعف: حصر في الدينيات وإهمال الدنيويات وحصر في أحد مجالات الدينيات بدلا من الدينيات كلها. فآل إلى سد الذرائع أو الافتاء المبرر للواقع.
أي إنه أنهى المباح بالقياس وأنهى المثال بتبرير الواقع. والإنهاءان يلغيان مفهوم الاجتهاد من أصله وخاصة فلسفته التي جعلته يجازى حتى في حالة عدم الإصابة لأن المهم هو السعي للمعرفة والاجتهاد فيها طلبا للمعرفة أيا كانت نتيجة المحاولة لأن القصد هو هذا السعي إذا صدقت النوايا.
سبق أن بينت في غير موضع أن الاجتهاد يتألف من خمسة عناصر أصلها حرية الفكر المطلقة لأنها شرط العناصر المتفرعة عنها وحرية الفكر تعني أمرين هما ما أقصده بالحرية الروحية:
سلبا تعني الاستغناء عن الوسطاء بين الإنسان وربه.
وإيجابا العلاقة بالرب أو الإيمان هو تبين الرشد من الغي.
والمعنيان مجموعين يفيدان نفي دور الوسطاء الذين علامتهم الإكراه في الدين. وتبين الرشد من الغي هو الكفر بالطاغوت الروحي (وساطة كنسية) والسياسي (وصاية سياسية). ولا يمكن للعقل أن يرى غير ذلك: فإذا لم يكن العقل حرا وكان تابعا لغير صاحبه فهو تبعية خضوع لسلطان أجنبي وليس فكرا ذاتيا.
ولا معنى لحرية فكر من دون حرية إرادة ينطلق الفكر منها ويعود إليها ليؤسسها فيميز بين الإرادة التي ميزت بفكرها الرشد من الغي والإرادة التي تكتفي بالرغبة. والإرادة المبنية على علم هي التي توفر شروط الانتقال من مجرد التمني إلى الإرادة القادرة سواء قدرة نظرية أو قدرة عملية.
وهذا هو الأصل الذي يؤسس نوعي التقدير الذهني الرياضي الذي يبدع مثل العلم والفن والتقدير الذهني السياسي الذي يبدع مثل العمل والأخلاق. وبهما مع التجربة يتكون العلم الفعلي النظري والعملي. فالتقدير الذهني الرياضي والجمالي للنظر يصبح بالتجربة علما قادرا على اكتشاف أسرار الطبيعة.
وهو شرط كل علاج للعلاقة العمودية بين البشر ومحيطهم الطبيعي. والتقدير الذهني السياسي والخلقي للعمل يصبح بالتجربة علما قادرا على اكتشاف أسرار التاريخ وهو شرط علاج العلاقة الافقية بين البشر والبشر أو بين البشر والتاريخ. والاكتشافان هما غاية الاجتهاد النظري والعملي.
لكن هذا الاجتهاد يقتصر على هذين الاجتهادين النظري (رياضيات وفن قبليان مع تجربة طبيعية) والعملي (سياسيات واخلاق قبليان مع تجربة تاريخية) بل لا بد من الاجتهاد في ترجمتهما التطبيقية لتصبح النظريات تقنيات للتعامل مع الطبيعة ومع التاريخ: تقنيات مادية ورمزية للعلاقتين العمودية الافقية.
أبعاد الاجتهاد خمسة:
حرية الفكر كما وصفناها
وحرية المعرفة النظرية والمعرفة العملية كما وصفناها بمستواهما المثالي والتطبيقي في علوم الطبيعة وعلوم التاريخ أو الإنسان.
ثم ترجمة الحصيلة النظرية في علوم الطبيعة وفي علوم التاريخ إلى تقنيات مادية للعلاقة بالطبيعة ورمزية للعلاقة مع الإنسان.