الانحطاط، شرح مفهوم “فساد معاني الانسانية” الخلدوني – الفصل الخامس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الانحطاط

تكلمت على أبعاد الاجتهاد الخمسة واعتبرت أصلها هو حرية الفكر المطلقة التي تقتضي حرية الإرادة في السعي للقدرة بالمقدرات الذهنية النظرية في الرياضيات والجماليات وبالمقدرات الذهنية العملية في السياسيات والأخلاقيات. ثم تصوير التجربتين الطبيعية والتاريخية بهما للعلوم الفعلية.

واعتبرت هذه العلوم الفعلية التي هي دائما دون المقدرات الذهنية حرية لأنها تخضع للتجربة حتى لو كانت من صنعها شرطا في التجربة التقنية النظرية للتعامل مع الطبيعة والتقنية الرمزية للتعامل مع التاريخ. وهنا يأتي دور الجهاد: التعامل مع الطبيعة ومع التاريخ هو جهاد الإنتاجين وحمايتهما.

فما الانتاجان: الإنتاج المادي أو الثروة موضوع الاقتصاد والانتاج الرمزي أو التراث موضوع الثقافة. وهذان الإنتاجان هما شرطا التموين المادي والروحي لبقاء الجماعة وبهما يقع تكوين الإنسان ليكون قادرا على الرعاية وشرطها التربية والحماية وشرطها الحكم.

وهذا هو مجال الجهاد المادي في الحروب والروحي تكوين الإنسان علميا وجماليا وعلميا وخلقيا ليكون قادرا على تحقيق شروط السيادة المادية (الاقتصاد) والروحية (الثقافة) شرطي الحماية والرعاية للأفراد الأحرار وللجماعة المؤلفة منهم. ومثلما أن الاجتهادي حرية فكر يجتهد فالجهاد حرية عقد يجاهد.

الفكر الحر وصل بين إرادة وقدرة. والعقد الحر وصل بين رؤية وقدرة. والكيان الإنساني فكر حر ذو رؤية حرة. وبين الرؤية الحرة والقدرة مثل بين الإرادة الحرة والقدرة وسيط. الوسط الاول هو العلم والوسيط الثاني هو الحياة. والمقابلة بين الاجتهاد وعدمه هي بين العلم والجهل.

والمقابلة ببين الجهاد وعدمه هي بين الحياة والموت. ولذه العلة فالقرآن يعتبر الرؤية الحرة التي يكون ذوق الحياة السيدة وغير التابعة أو الذات هي مفهوم الجهاد في سبيل الله. وإذن فمن لا يجتهد ولا يجاهد ليس بعد إنسانا حاصلا على الحريتين الروحية والسياسية (دون وساطة ووصاية).

وإذن فالعلاقة بين الاجتهاد والجهاد هي وجها قدرة الإنسان النظرية وأرقى مستوياتها الرياضيات والجماليات وقدرته العملية وأرقى مستوياتها السياسيات والاخلاقيات. وبما هما قبليان فأنهما يقودان سلطان الإنسان على الطبيعة وسلطانه على التاريخ وهو معنى التعمير المشروط بقيم الاستخلاف.

فيكون أصل فروع الاجتهاد الاربعة وأصل فروع الجهاد الأربعة واحدا ذا وجهين: حرية الفكر وحرية العقد. والعقد أعمق من الفكر لأنه شرطه: فلولا الاعتقاد في أن الوجود موجود فعلا وليس وهما والاعتقاد في أن إدراك الإنسان للوجود ليس حلما لاستحال أن يكون لحرية الفكر فاعلية نظرية وعملية.

وبالتالي فالأصل الواحد يتفرع إلى فعلين لا يمكن من دونهما أن يكون الإنسان حرا وكريما: فعل الفكر وفعل العقد أو الفلسفة والدين. وكلاهما يعتمد على الفكر الحر والعقد الحر (على الأقل في نص القرآن وليس في تاريخ المسلمين). والمسلمون فقدوهما بسبب الوساطة الروحية والوصاية السياسية.

وهذا هو الانحطاط الذي يعلله ابن خلدون بـ”مفهوم فساد معاني الإنسانية” ويرجعه إلى نظام التربية ونظام الحكم العنيفين المعنى الذي شرحناه رغم أن تكلم على أعراضه مثل ضرب التلاميذ وتعذيب المحكومين. وعلى أهميتها في فن التعليم والحكم فليست العلة العميقة بل هي من اعراضها ولا تعالج بمثلها.

علاج الأدواء العميقة والعلل الدفينة التي كانت آلت إلى الانحطاط الذاتي عند النخب التقليدية وما تلاه من انحطاط موروث عن الاستعمار عند النخب التي تدعي الحداثة والحال الراهنة التي تجمع بين الانحطاطين في حرب أهلية لها صفات نهايات عهد هما ما ينبغي أن يكونا البداية.

ومنذ قرنين مفكرو النهضة والإصلاح يتجادلون حول اختيار بماذا نبدأ: بالسياسة أم بالتربية. وتبين أن كلى الخيارين كانا خاطئين لأن الحلين لا يمكن أن يكونا البداية إذا بنيا على علوم كاريكاتور التأصيل بقشور حضارتنا وكاريكاتور التحديث بقشور حضارة الغرب. فكان لا بد من بناء فلسفي متناسق.

وهذا البناء الفلسفي ينبغي أن يكون ما بعد طبيعي وما بعد تاريخي مبنيين على ما بعد الأخلاق التي هي جوهر فلسفة القرآن لأنها الإسلام خاتم فلا بد أن تكون أقصى ما يمكن للعقل ان يدركه من المعادلة الوجودية التي حاولت جعلها أساس كل المراجعات التي أحاول بناءها بصورة نسقية.

ذلك أنك لا يمكن أن تصلح التربية والحكم إذا لم تحدد قبل ذلك مضمونهما وشكلهما والطرق الموصلة إلى الغايات أعني إلى شروط الاستئناف الذي يجعل الامة تستعيد دورها على الأقل بالمستوى الذي بدأت بها ولوجها للتاريخ الكوني لأن رسالتها حددت دورها بوصفها شاهدة على العالمين أي على كل البشر.

وجعل شباب الأمة يسترد هذا الطموح الكوني باستعادة الثقة بالنفس وبالدور هو الشرط الأول والأسمى لكل بداية ذات جذور ضاربة في أعماق الارض الحضارية بالأبعاد التي حاولت تحديدها في كلامي على مقومات الفاعلية الإنسانية كما وصفتها بنظرية الرمزين وبالأحياز الذاتية والخارجية وبتعريف القرآن.

مثال ذلك أن محاولة استيراد الدولة الوطنية بالقضاء على الأحياز المشتركة بين أقطار الامة أو الدولة الحديثة من دون قيمها أو نتائج العلوم من دون بيئتها التي تحقق شروط إنتاجها أو استيراد التكنولوجيا الجاهزة من دون المشاركة في صناعتها كل ذلك لا يمكن من الانتاجين المادي والرمزي.

ففي عصر العماليق فتتت جغرافية الامة إلى ما لم يكن قابلا للعيش حتى قبله لا يمكن أن تؤسس شروط الانتاجين المادي والرمزي فضلا عن شرطي السيادة أي الحماية والرعاية. ومن كان عديم السيادة لا يمكن ان يكون حاصلا على ما ذكرنا من مقومات الاجتهاد والجهاد بالمعاني التي حددنا.

فيصبح اجتهاده ثرثرة فقهاء بدعوى التأصيل وثرثرة ايديولوجيين بدعوى التحديث بحيث إن التأصيل والتحديث لن يتجاوزا الكاريكاتور منها لأنهما يتعلقان بقشور الاصالة وقشور الحداثة. وعندئذ تصبح الامة يربى شبابها ويحكمها شيوخها بما يتنافى كلم التنافي مع شروط البناء الحضاري القائم بذاته.

وهذا هو ما انتهى إليه التشخيص الخلدوني في عبارته “فساد معاني الإنسانية” الذي يجعل الفرد والجماعة عالة على الغير في شروط الرعاية وفي شروط الحماية فيكون من ثم تابعا بالجوهر ولن يتمكن من استئناف دور الأمة بوصفها أحد أقطاب نظام العالم الذي بدأ يرتسم شكله في الآفق.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي