لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالانحطاط
فلنترك الغاية العملية من درس التناظر بين أبعاد الرمز اللساني (المعنى والتداول العام والتنظم المناسب لهما) التي توازي ابعاد دراسته التقليدية (الدلالة والتداول المختص والنظم المناسب لهما) بينها وبين مفهومي القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية معتبرين الأولى للتواصل والثانية للتبادل.
فالوظيفة التواصلية العامة (المعنى والتداول العام والنظم المناسب لهما) تتضمن الوظيفة التبادلية (الدلالة والتداول المختص والنظم المناسبة لهما) وهو ما يؤسس لدراسة فاعليتي الرمز المادية والروحية أو رمز الفعل (العملة) وفعل الرمز (الكلمة) في الحضارات الإنسانية كلها.
فيكون درس رمز الفعل (العملة) اساسا لدرس التاريخ المادي للحضارات وفعل الرمز (الكلمة) اساسا لدرس التاريخ الروحي للحضارات. لكن هذا الفصل بين التاريخين لا حقيقة له وهو تشويه لتاريخ الحضارات فإن الدرس القويم للحضارات الإنسانية هو درس التفاعل بينهما بوصفهما “مبدأ الزوجية” المطلق.
ومبدأ الزوجية المطلق هو الذي جعلني أحاول جاهدا-ولست واثقا من أني قد نجحت- دحض المنطق الجدلي بنظرية البنية التي تتجاوز الزوجية في الأعيان إلى الزوجية في الاذهان ووصل نوعي الزوجية بوحدة الكيان كما تتعين في المعادلة الوجودية: ومعنى ذلك أن الزوجية طبيعة وتاريخا غير كافية.
لو كانت الزوجية طبيعة (ضرورة) وتاريخ (حرية) كافية لكان منطق الجدل كافيا. لكني أعتقد أن الطبيعة لما ماوراء والتاريخ له ما وراء وما بين الطبيعة وماورائها والتاريخ وما ورائه هو التواصل المباشر وغير المباشر الجامع بين العناصر الاربعة للمعادلة بوصفه أصلها جميعا صورته هي وعينا بالمعادلة.
والوعي بالمعادلة هو الاستخلاف. فوعي الإنسان بذاته وعي بكونه ذا كيان طبيعي وما بعد طبيعي أو روحي وبكونه بالثاني متجاوز للأول ومن ثم فهو صورة فطرية في كيانه عن المعادلة الوجودية: فهو طبيعي وما بعد طبيعي وتاريخي وما بعد تاريخي وهو بالمابعدين خليفة أي تجسد حي للمعاني والقيم في آن.
ففي المعادلة أربعة أزواج وأصل. فالزوجان الاثنان الأولان:
حر مطلق (الله)
وحر (نسبي)
لأن الأول مريد وعالم وقادر وحي وموجود بإطلاق والثاني مريد وعالم وقادر وحي وموجود نسبيا بمعنى أن الأول خالق وآمر لكل الطبيعة بما فيها الإنسان والثاني خالق وآخر بشروط الاول وبحدود نسبية الصفات.
وهذا هما المابعدان للطبيعة والتاريخ. ثم زوجان
خاضع للضرورة بإطلاق (الطبيعة)
وخاضع للضرورة نسبيا (التاريخ)
وهما وسيطان للتواصل الفعلي بين الزوجين الاولين الذي لا يعلم ولا يعمل على علم إلا بتواصل مباشر بين هذين ويكون إما بالمقدرات الذهنية الرياضية أو بالمقدرات الذهنية السياسية.
والعلاقة بين التواصلين المباشر وغير المباشر هي أصل الأزواج الأربعة زوجي الحرية المطلقة والحرية النسبية وزوجي الضرورة المطلقة والضرورة النسبية. وبهذه الطريقة يمكن التحرر نهائيا من المنطق الجدلي لأن عناصر المعادية خمسة وليست متضادة بل هي بنية متكاملة لا تكون مضادها إلّا عند بترها.
وهذا هو المنطق الذي يمثل نسيج القرآن الكريم وهو يحررنا من سخافة تبني المنطق الجدلي في مدارس الفكر السياسي الإسلامي القائلة بالتدافع. فلا وجود لمعنى المشاركة بين البشر في فعل الدفع القرآني لأن الله هو الذي يدفع البعض بالبعض ومن ثم فالأبعاض لا تتدافع بل تدفع من قبل خالقها وآمرها.
القول بالتدافع قول بالجدل. والقول بالدفع الإلهي قول بفاعلية الخلق والأمر في الوجود الطبيعي والتاريخي وفيما بينهما من فعل لا يعدو إليهما منه إلا ما يجري بمنطق هذا المربع الذي حددناه أي بين الحريتين المطلقة والنسبية والضرورتين المطلقة والنسبية. ومطلق الضرورة إضافي إلى نسبي الحرية.
ومعنى ذلك أن الطبيعة ضرورتها مطلقة بالإضافة إلى الإنسان ولا وجود لها بالنسبة إلى الله: العالم كله ممكن وليس ضروريا وهو معنى لا يخلو منه وعي إنساني: ولولا ذلك لامتنع على الإنسان أن يبدع مقدرات ذهنية ليس لها دلالة خارجية بل هي معنى دلالته إما خيالية أو عقلية أو روحية أو قيمية.
وكل أدلة وجود الله تمثل الوعي بكون العالم ممكن ولا يعلل نفسه وأن الإنسان بوعي أو بغير وعي يشعر بحاجة لتأسيس وجود العالم الممكن على مبدأ واجب الوجود. وقبل ذلك الكلام فهذا الوعي يرد إلى جوهر شعور الإنسان بأن إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده كلها ونسبية بحاجة للتعليل.
ومثلما ننظر إلى الامر من خلال ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ فيمكن أن ننظر فيه من خلال الطبيعة والتاريخ فنعتمد حينها ليس على نظرية المعادلة الوجودية بل على نظرية الأحياز. والنظريتان وضعتهما لكي أقرأ بهما فلسفة الدين وفلسفة التاريخ وفلسفة العلم وفلسفة القيم فلسفيا ودينيا.
والواصل بين ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ سميته ما بعد الاخلاق لأنه يؤسس للمقدرات الذهنية بنوعيها وعلاقتها بالجماليات والاخلاقيات. فنلر ما يترتب عليهما في مجال الاحياز: ذكرنا أن للأحياز ضربين من الوجود ذاتي للإنسان في كيانه كفرد: فهو مكاني وزماني وحصلة تفاعلهما وأصلها جميعا.
وبهذه الابعاد الخمسة هو في صلة بالأحياز الكونية أي المكان والزمان الطبيعيين اللذين يصبحان حضاريين بفعله فيصح المكان جغرافيا والزمان تاريخا وحينها يتبين أن تفاعلهما في الحضارة يقع فيهما وفي كيان الفرد الإنساني. فنجد حيزين من ابداع الإنسان هما التراث والثروة ومرجعية الجماعة.
ولهذين الحيزين اللذين يبدعهما الفرد والجماعة تعينان في كيانه كفرد: فالثروة تصبح زادا عضويا في بدنه والتراث زادا رمزيا في روحه. ونتأكد من الأول عندما يفقد الإنسان الغذاء فهو يغتذي من الزاد الحاصل في بدنه ونفس الأمر يقال عن الزاد الحاصل في روحه لو عزل في سجن انفرادي.
وبهذا المعنى فمطالب الذوق البدني تعود إلى تزود البدن بشروط القيام البقاء العضوي ومطالب الذوق الروحي تعود إلى تزويد الروح بشروط القيام الروحي والتزويد علة الإبداع وغايته وهو كذلك نتيجته لأن الإبداع بصنفيه هو الذي يبدع أدوات الاستجابة لمطالب الذوقين: وتطلب من الأحياز الخارجية.
وإذن فما يفسر التاريخ ليس ماديا وليس رمزيا بل هو هذه المعادلة بين الاحياز في تعينها كيانا للفرد الحي أحيازا ذاتية له هي عين وجوده الحي البدني والروحي وفي الأحياز الخارجية أي الجغرافيا والتاريخ والثروة والتراث والوصل بينهما هو ما رأيناه في الكلام على المابعدين مرجعية مؤسسة لوحدتها.
وهذا التأسيس للعلاقة بين الأحياز الذاتية والاحياز الخارجية شرطا في الحياة العضوية والروحية للفرد والجماعة ليست مبنية الصراع إلا في الظاهر بل هي مبينة على وحدة بنوية عميقة تتجاوز الفهمين المنفصلين للتاريخ بقراءة مادية أو بقراءة روحية: لذلك يستعمل هيجل وماركس المنطق الجدلي.
وما يطلب من الأحياز الخارجية ينتج عن ذوق الاحياز الذاتية وما يسد مطالب الأحياز الذاتية بما يطلب من الأحياز الخارجية يتحقق بما لدى الإنسان من قدرة على أبداع الغايات وعيا بها في كيانه وقدرة على إبداع الأدوات الرياضية وتطبيقاتها العلمية والسياسية وتطبيقاتها العملية وعيا بما جهز به.
وهذا هو مفهوم الفطرة القرآني: إنه الوعي بالغايات الذوقية العضوية والروحية والوعي بأن ما سد هذه الحاجات هو معنى التسخير للأحياز الخارجية والوعي بالقدرة على الإبداعين الذهنيين المشكلين للعلم والعمل بالرياضيات والجماليات نظريا بالسياسيات والاخلاقيات عمليا. الفطرة هي الاستخلاف.
والآن نستطيع أن نفهم المنطق الجدلي والقراءة المحرفة للتاريخ في فلسفة هيجل (صراع أرواح الشعوب) وماركس (صراع الطبقات) بدوافع ترجع الى التراث والثروة وبالتالي إلى مصدرهما في الأحياز الخارجية وانحراف الأحياز الذاتية. وهو ما سأحاول بيانه في الأبدان وفي الاذهان.
ففي الأبدان يكفي أن تقارن بدن جائع من العالم الثالث ببدن شبعان من العالم الذي يدعي التقدم. وهذا أهم رمز لتقاسم ثروات المعمورة. وفي الاذهان يكفي ان تقارن نهم الرأسمالي في الاستحواذ على ثروات العالم ويسمي ذلك حرية السوق واستغلال باقي البشرية على أنه حرية تعاقد في العمل المنتج.