الانحطاط، شرح مفهوم “فساد معاني الانسانية” الخلدوني – الفصل الثالث

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الانحطاط

فينتج عما شرحنا أن الانحطاط نوعان:

– أحدهما يتوهم ما يتعالى على شروط الحياة المادية من اوهام الإنسان فينفي المابعدين

– والثاني يتوهم أن ما يتعالى عليهما مغن عنها وأن الطبيعة والتاريخ يجريان دون حاجة لإرادة الإنسان وعلمه وقدرته وحياته ووجوده حتى وإن كانت كلها نسبية.

وبعبارة موجزة إثبات الإنسان ونفي الله أو نفي الإنسان واثبات الله واعتبارهما في علاقة تمانع إما هذا أو ذاك يجعل ما يسمى حداثة عبادة الطبيعة والتاريخ وما يسمى أصالة عبادة ما بعدهما دون علم بما يتجلى فيه هذا المابعد للإنسان حتى يكون خليفة مستعمرا في الارض بشروط تعميرها.

وهو ما يجعل الاول يدمرها والثاني يساعده على تدميرها بالعجز عن منعه منه نظرا لفساد معاني الإنسانية فيه والتي هي القدرة على الإبداع الرياضي والجمالي والإبداع السياسي والخلقي حتى يحقق شروط عمران يعمل بما جهز به الإنسان من غايات وأدوات ليكون حرا وكريما وأهلا للخلافة بحق.

كل الشعوب التي نفت ما بعد الطبيعة ومابعد التاريخ صارت وثنية تبعد الحاجات دون غاياتها. أما التي نفت الطبيعة والتاريخ فقدت كل سلطان فصارت عبيد الأوثان أي ان من سيطر على الطبيعة والتاريخ وردهما إلى الصراع الحيواني على الثروة والتراث يسيطر في آن على من تخلى عن الإبداع المحرر.

وإذن فهؤلاء ومنهم نحن منذ عصر الانحطاط نعتبر من مساعدي أولئك على تخريب المعمورة بنفي ما يتعالى عليها حتى لو ادعينا أننا مؤمنون بما يتعالى عليها: فما نؤمن به -القرآن-يقول لنا إن التعالي عليها مشروط بالسيادة عليها سيادة ممتنعة من الإبداع الرياضي والجمالي والإبداع السياسي والخلقي.

لذلك نكصنا إلى الأمية العلمية والفنية والسياسية والخلقية وصرنا أمة لا يختلف سلوكها عن سوك الحيوان الذي يعيش على ما تنتجه الطبيعة دون أن يكون له دخل في التعمير لا بقيم الاستخلاف ولا بدونها. وكل عيش على ما تنتجه الطبيعة يؤدي إلى الندرة والصراع على منتجها وهو سر المنطق الجدلي.

ذلك أن الاقتصاد أساسه الخوف من الندرة الممكنة وليس الندرة بالفعل. لذلك فهو في الغاية مبني على الاحتكار والعدوان على الملكية بالحيل الربوية والعنف السياسي والفساد دائما. وهو متناسب مع الندرة وخاصة إذا كانت فعلية وليست بالقوة. والدليل هو المجتمع الجاهلي: العنف الدائم والنهب والسلب.

مجتمعاتنا لم تفسد فيها معاني الإنسانية عند حكامها فحسب بل إن الجميع في تناهب واستبداد وفساد متبادل دائم: والكذب والغش والخداع والجبن هي الصفات التي وصف بها ابن خلدون من اعتبر معاني الإنسانية فيهم قد فسدت: والجميع يكون عالة على الغير ومنه الطبيعة في سد الحاجات.

مجتمعاتنا لم تفسد فيها معاني الإنسانية عند حكامها فحسب بل إن الجميع في تناهب واستبداد وفساد متبادل دائم: والكذب والغش والخداع والجبن هي الصفات التي وصف بها ابن خلدون من اعتبر معاني الإنسانية فيهم قد فسدت: والجميع يكون عالة على الغير ومنه الطبيعة في سد الحاجات.

وهذا التشخيص ليس حكما على أن ذلك داء عضال لا علاج له بل بالعكس: فهو يحدد علل الداء التي في علاجها اكتشاف الدواء. والأمر أيسر بالنسبة إلينا نحن المسلمين لأن هذه المحاولة تبين أن التشخيص الفلسفي هو عين التشخيص الديني لمن يحسن تدبر أمر القرآن ونهيه حول معرفة حقيقته.

وأما نهيه ففي آل عمران 7: كل علوم الملة سعت إلى الجرأة على علم الغيب والافتاء بأن “و” فيها عطفية وليست استئنافية ما يعني أنهم يتصورون الرسوخ في العالم هو القدرة على تأويل المتشابه مثل الله الذي هو حده له العلم المحيط. وتلكما هما علة العقم العلمي والعملي شرط التعمير والاستخلاف.

لكن بحثنا ليس مقصورا على الحضارة الإسلامية والمسلمين بل هو يهم الإنسانية ككل وهو ينطبق على الأكسيولوجيا (فلسفة التاريخ والمعاني) والأبستمولوجيا (فلسفة العلم والدلالات) مدخلين يمكنان أي حضارة انحطت من تشخيص أدوائها لتحديد العلل وراء الاعراض والشروع في العلاج.

والعلل ردها ابن خلدون إلى نظام التربية ونظام الحكم. وكلاهما محتاج للإبداعين ابداع المقدرات الذهنية الرياضية الجمالية والمقدرات الذهنية السياسية الخلقية. وكلاهما يشمل العلاقتين العمودية بين الإنسان والطبيعة وما بعدها والأفقية بين الإنسان والتاريخ ومابعده: اي كل المعادلة الوجودية.

طبعا ابن خلدون لم ينظر في التعليل العميق أعني غياب الإبداعين ودورهما في العلاقتين العمودية مع الطبيعة وما بعدها والافقية مع التاريخ وما بعده بل اكتفى بالعلاقة بين فساد معاني الإنسانية وسببه المباشر أي العنف في التربية والحكم ويعني فقدان الحريتين الروحية والسياسية.

فالعنف في التربية فقدان للحرية الروحية لأنه عنف المربين إذ يتحولون إلى وسطاء بين الفرد وربه يفرضون عليه فكرا لا دخل لحريته فيه. والعنف في الحكم فقدان للحرية السياسية لأنه عنف الحكام إذ يتحولون إلى أوصياء بين الجماعة وأمرها سوسا لا دخل لحريتهم فيه.

تلك هي العلة المباشرة بين العنف في التربية والحكم وفساد معاني الإنسانية في الافراد والجماعات. لكن بين الأمرين عدة وسائط لا بد من معرفتها حتى يكون ذلك كذلك: فما يفقده الخاضع للعنف التربوي هو الخيال المبدع لأن الوصي يجعل أفكاره حقيقة نهائية يفرضها عليه معتبرا كل اختلاف جهلا أو كفرا.

والأساس في ذلك هو وهم نظرية المعرفة المطابقة في الحقيقة العلمية وفي العقيدة الدينية. وهذا هو العنف الذي يعنيه ابن خلدون رغم أنه يتكلم على ثمرته وليس عليه يعني على ضرب المتعلم وتخويفه: وهما من أعراض الداء الذي وصفت وليسا هما العنف الحقيقي.

وعنف الحكم مثل عنف التربية له وسائط نظرية بين الاستبداد والفساد وفقدان معاني الإنسانية. الاستبداد في الحكم ينتج عن الوصاية السياسية على الأمة نتاج الاستبداد في التربية عن الوساطة الروحية. والوصاية السياسية تجعل الجميع قصرا غير راشدين ويكون الحكم بيد المتغلب وليس الأرشد.

الاستبداد والفساد في الحكم ناتج عن الوصاية مثلما أن الاستبداد والفساد في التربية ناتح عن الوساطة: وكلاهما مبني عن نظرية العلم القائلة بالمطابقة مع ما يسمونه علم الأشياء على ما هي عليه ونظرية العمل القائلة بالمطابقة مع ما يسمونه عقيدة الحقيقة المطلقة. وكلاهما مناف لرؤية القرآن.

وينافيان كذلك نظرية العلم ولنظرية العمل في الفلسفة التي نضجت فنقدت نفسها وتجاوزت وثن العقل النافذ إلى الحقيقة المطلقة في النظر والعمل أي ما يصفه القرآن الكريم بالاجتهاد والجهاد. فالأول نظرية علم لا يدعي الإطلاق والثاني نظرية عمل لا يدعي الإطلاق: فهم المدرسة النقدية عندنا وفي الغرب.

ثم شيئا فشيئا أصبح الاجتهاد مقصورا على أوهام الفقهاء الذين تصوروا أن توسيع ما ظنوه حقيقة الشريعة بالقياس أو بالمقاصد أو بالاستحسان أو بالإجماع وكلها ترقيع ناتج عن عدم فهم القصد بالتشريع في القرآن والسنة وانتهى الامر على تعميم سد الذرائع أو رد الشرع إلى المصالح.

وواضح أن رد الشرائع إلى المصالح لا يعني إلا رد المثال إلى ما يسمونه فقه “الواقع” وهو عين الغباء. فليس للواقع حقيقة قبل وقوعه وهو يقع بالمقدرات الذهنية التي هي رياضيات وجماليات في النظر وقيم الذوق الفني وسياسيات واخلاقيات في العمل وقيم الذوق الروحي. وهذه كلها قتلوها نهائيا.

وينتج عن ذلك أن الجهاد مثل الاجتهاد حصر في القتال من دون شروطه: فمن دون الرياضيات والجماليات المقدرة ذهنيا يصبح الجهاد أعزل ومن دون السياسيات والخلقيات المقدرة ذهنيا يصبح أعمى بغير نظام ولا استراتيجية. وهذا ما نراه عند أمراء الحرب الذين خسارة فيهم وصف المجاهدين.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي